📁 آخر الأخبار

فالح عبد الجبار (1946-2018): عالم الاجتماع الذي شرح "لغز" الدولة، الدين، والقبيلة في العراق

فالح عبد الجبار (1946-2018): عالم الاجتماع الذي شرح "لغز" الدولة، الدين، والقبيلة في العراق

تحليل سوسيولوجي معمق للمفكر العراقي فالح عبد الجبار. اكتشف كيف فكك بنية "الحركة الشيعية"، وعلاقة "الدولة والقبيلة"، ولماذا اعتبر "الديمقراطية مستحيلة" في العراق.

​مقدمة: فالح عبد الجبار.. المثقف الذي عاش "المسألة العراقية"

​عندما يُطرح "العراق" كموضوع للنقاش، فإنه يُطرح غالباً كلغز سياسي معقد، أو كتاريخ من الأزمات المتلاحقة. قلة هم المفكرون الذين استطاعوا تقديم "أدوات تحليل سوسيولوجية" صارمة لفهم هذا "اللغز" من جذوره. ويأتي عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبار (1946-2018) في طليعة هؤلاء.

​لم يكن فالح عبد الجبار مجرد أكاديمي يراقب من برج عاجي. لقد كان "مثقفاً عضوياً" (بالمعنى الغرامشي)، عاش "المسألة العراقية" بجميع تناقضاتها: من باحث وأستاذ مرموق في جامعة بغداد، إلى منتقد شرس لنظام صدام حسين، إلى "منفي" قسرياً في لندن، ثم "مستشار" في العراق الجديد بعد 2003، لينتهي "ناقداً" لهذا الواقع الجديد الذي ساعد في تشكيله.

​إن التعريف بعالم الاجتماع فالح عبد الجبار لا يكتمل دون فهم مشروعه الفكري الممتد: من جذوره الماركسية العميقة وتحليله لـ نظرية الاغتراب، إلى عمله التأسيسي حول "بنية الوعي الديني" و "الحركة الشيعية"، وصولاً إلى تشريحه الثلاثي لـ "الدولة، القبيلة، والمجتمع المدني".

​في هذه المقالة الشاملة، سنغوص في أهم مؤلفاته ومساهماته، ليس كجزر منعزلة، بل كخريطة طريق متكاملة قدمها لنا واحد من أبرز علماء علم الاجتماع في الشرق الأوسط.


فالح عبد الجبار (1946-2018): عالم الاجتماع الذي شرح "لغز" الدولة، الدين، والقبيلة في العراق
فالح عبد الجبار (1946-2018): عالم الاجتماع الذي شرح "لغز" الدولة، الدين، والقبيلة في العراق.

​1. التكوين الفكري: من "الاغتراب" الماركسي إلى سوسيولوجيا الدين

​وُلد فالح عبد الجبار عام 1946 في البصرة، ونشأ في بيئة فكرية خصبة. دراسته في جامعة بغداد، التي أصبح لاحقاً أستاذاً وعميداً فيها، تزامنت مع صعود التيارات اليسارية والماركسية في العراق.

​هذه المرحلة شكلت "العمود الفقري" المنهجي لفكره. لم يكن من قبيل الصدفة أن أعماله العربية المبكرة ركزت على:

  • "المقدمات الكلاسيكية لنظرية الاغتراب"
  • "المادية والفكر الديني المعاصر"
  • "بنية الوعي الديني والتطور الرأسمالي"

​الأهم من ذلك، كان انخراطه العميق في ترجمة أمهات الفكر الماركسي، مثل "رأس المال" لكارل ماركس (بأجزائه "موجز رأس المال" و "نتائج عملية الإنتاج المباشرة"). هذا الجهد الجبار (وهو يتحدث الألمانية والإنكليزية بطلاقة) يوضح أنه لم يكن "متلقياً" سلبياً للماركسية، بل كان "باحثاً" يغوص في النصوص الأصلية.

لماذا هذا مهم؟

لأن هذا "التكوين المادي-النقدي" هو الذي منحه الأدوات "لتفكيك" الظواهر التي سيكرس لها حياته لاحقاً (الدين، القبيلة) ليس كـ "مسلمات" ثقافية أزلية، بل كـ "بنى اجتماعية" (Social Constructs) لها جذورها المادية والتاريخية وتتأثر بالصراع على السلطة والموارد.

​2. المساهمة التأسيسية: "الحركة الشيعية في العراق"

​في السبعينيات، وفي ذروة صعود الدولة البعثية القومية، وجه فالح عبد الجبار عدسته السوسيولوجية نحو ظاهرة كانت تعتبر "هامشية" أو "رجعية" في نظر الكثيرين: "الحركة الشيعية".

​كان عمله الرائد "The Shi'ite Movement in Iraq" (الحركة الشيعية في العراق)، الذي نُشر في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، بمثابة زلزال معرفي.

​أ. تحدي "أسطورة السلبية"

​كما أشرتَ في ملخصك، كان الافتراض السائد (أكاديمياً وسياسياً) هو "سلبية وهدوء" الشيعة في العراق، وأنهم مجرد "كتلة" دينية تقليدية.

ماذا فعل فالح عبد الجبار؟

لقد استخدم أدوات البحث الاجتماعي الميداني (المقابلات، العمل الميداني) ليثبت العكس تماماً. لقد أظهر أن "التشيع" في العراق لم يكن مجرد "دين"، بل كان يتحول إلى "أيديولوجيا" سياسية حديثة.

​ب. سوسيولوجيا الحركة (Touraine's Influence)

​بدلاً من النظر إليها كظاهرة "دينية" بحتة، حللها فالح عبد الجبار كـ "حركة اجتماعية" (Social Movement) حديثة (وهنا يتقاطع مع منظري الحركات الاجتماعية مثل آلان تورين).

  • ​أوضح كيف أن هذه الحركة هي "رد فعل" سوسيولوجي على:
    1. التهميش الاقتصادي والسياسي: شعور شيعة الجنوب (الريف) بالتهميش من قبل "الدولة المركزية" التي يسيطر عليها (في تصورهم) "المركز السني".
    2. التحديث القسري للدولة: محاولة الدولة البعثية "علمنة" المجتمع وتفكيك البنى التقليدية (بما فيها المرجعية الدينية).
    3. أثر الثورة الإيرانية: التي قدمت "نموذجاً" ناجحاً لـ "الإسلام السياسي" الشيعي.

​ج. استكمال المشروع: "Ayatollahs, Sufis and Ideologues"

​استمر هذا المشروع الفكري في كتابه الهام "آيات الله، المتصوفة، والأيديولوجيون: الدولة، الدين، والحركات الاجتماعية في العراق". في هذا الكتاب، وسّع تحليله ليُظهر أن "الدين" في العراق ليس كتلة واحدة، بل هو "مجال للصراع" (Field - بالمعنى البورديوي) بين:

  • المؤسسة الدينية التقليدية (الآيات في النجف).
  • الحركات الصوفية (الطرق).
  • الأيديولوجيين الحركيين الجدد (مثل حزب الدعوة).

​لقد "أنسن" فالح عبد الجبار دراسة الدين في العراق، ونقلها من "علم اللاهوت" إلى "علم الاجتماع".

​3. ثلاثية السلطة: الدولة، القبيلة، والمجتمع المدني

​في التسعينيات، وبعد اضطراره للخروج إلى المنفى (1995)، ركز فالح عبد الجبار، من قاعدته في لندن ومديراً لمعهد الدراسات العراقية، على البنى العميقة التي شكلت "المأزق العراقي".

​أ. "Tribes and Power" (القبائل والسلطة)

​في كتابه المشترك مع هشام داود، "القبائل والسلطة: القومية والإثنية في الشرق الأوسط"، تحدى فكرة أخرى سائدة: "أن الدولة الحديثة تلغي القبيلة".

  • الأطروحة: أثبت فالح عبد الجبار أن الدولة العراقية الحديثة (خاصة تحت حكم صدام حسين) لم "تلغِ" القبيلة، بل "أعادت إنتاجها" و "استخدمتها".
  • ​عندما ضعفت الدولة بسبب الحروب والعقوبات، لجأ النظام إلى "الولاءات القبلية" لضمان السيطرة، مما أدى إلى "عودة القبيلة" كفاعل سياسي واجتماعي. هذا يفسر الكثير من الفوضى التي حدثت بعد 2003.

​ب. "الدولة والمجتمع المدني في العراق"

​هذا الكتاب هو جوهر "سوسيولوجيا السياسة" عند فالح عبد الجبار.

  • الأطروحة: يجادل بأن العراق عانى تاريخياً من "تضخم" الدولة (Hypertrophied State) و "ضمور" المجتمع المدني (Atrophied Civil Society).
  • ​الدولة في العراق، بسبب اعتمادها على "الريع النفطي" (Rentier State)، لم تكن بحاجة للمجتمع لتمويلها (عبر الضرائب). بل العكس، "المجتمع" هو الذي كان بحاجة "للدولة" للحصول على الوظائف والخدمات.
  • النتيجة: دولة "تشتري" الولاء وتستخدم "القمع" لسحق أي تنظيم مستقل (أحزاب، نقابات، جمعيات). هذا "الفراغ" في المجتمع المدني هو الذي جعل الانتقال الديمقراطي لاحقاً شبه مستحيل.

​4. نقد ما بعد 2003: "الديمقراطية المستحيلة"

​عندما عاد فالح عبد الجبار إلى العراق بعد 2003 ولعب دوراً استشارياً، اصطدم بالواقع الذي كان يحلله نظرياً لعقود. تجربته هذه أثمرت كتابه الأكثر تشاؤماً وواقعية: "الديمقراطية المستحيلة: حالة العراق".

  • لماذا "مستحيلة"؟
    • ​لأن "المجتمع المدني" الضامر الذي شخصه سابقاً لم يكن قادراً على حمل "مشروع ديمقراطي" حقيقي.
    • ​لأن "القبيلة" و "الطائفة" (التي حللها سابقاً) ملأت الفراغ الذي تركته الدولة المنهارة.
    • ​لأن النظام الجديد (نظام "المحاصصة الطائفية") لم يبنِ "مواطنة" عراقية، بل كرس "الانقسامات" كأداة للحكم.

​لقد كان فالح عبد الجبار يراقب نظرياته وهي تتجسد أمامه كـ "نبوءة" مأساوية. أصبح ناقداً للنظام الجديد، كما كان ناقداً للنظام القديم، متمسكاً بموقفه كـ "عالم اجتماع" يرفض تجميل الواقع.

​خاتمة: إرث فالح عبد الجبار

​يمثل فالح عبد الجبار (1946-2018) نموذجاً للمثقف الذي لا ينفصل فيه "البحث" عن "الحياة". لقد بدأ ماركسياً يحلل "الاغتراب" في النموذج النقدي، وانتهى كـ "عالم اجتماع" وطني يحلل "اغتراب" دولة كاملة عن مجتمعها.

​إرثه ليس مجرد "كتب" عن العراق، بل هو "منهج" في التحليل السوسيولوجي:

  1. المنهج التاريخي: لا يمكن فهم أي ظاهرة (الدين، القبيلة) دون جذورها التاريخية.
  2. المنهج المادي-النقدي: الظواهر الثقافية مرتبطة بالصراع على "السلطة" و "الموارد" الاقتصادية.
  3. المنهج الميداني: (كما يظهر في بحوث الفعل)، المعرفة الحقيقية تأتي من "الميدان" ومقابلة "الفاعلين" (Actors) الحقيقيين.

​لقد ترك فالح عبد الجبار "مكتبة" كاملة لا غنى عنها لأي باحث يريد أن يفهم ليس فقط "العراق"، بل "آليات" عمل الدولة الريعية، وصعود الحركات الدينية، وإشكاليات بناء الديمقراطية في الشرق الأوسط برمته.

تعليقات