📁 آخر الأخبار

البحث الاجتماعي لتحقيق التغير الاجتماعي: ثورة "بحوث الفعل" ضد البحث التقليدي

البحث الاجتماعي لتحقيق التغير الاجتماعي: ثورة "بحوث الفعل" ضد البحث التقليدي

مقالة تحليلية معمقة لكتاب "البحث الاجتماعي لتحقيق التغير الاجتماعي" (ديفيد جرينوود ومورتين ليفين). اكتشف كيف تتحدى "بحوث الفعل" سلطة الباحث التقليدي وتحقق الديمقراطية.

​مقدمة: أزمة البحث الاجتماعي التقليدي

​لعقود طويلة، هيمن على العلوم الاجتماعية والإنسانية نموذج بحثي "تقليدي" ورثناه عن العلوم الطبيعية. هذا النموذج، الذي يُعرف بـ النموذج الوضعي، يقدس "الموضوعية"، ويفصل الباحث عن "موضوع" دراسته، ويعتبر "الحياد" قيمة عليا. لكن هذا النموذج، خاصة عند تطبيقه على البشر، يواجه أزمة أخلاقية ومنهجية عميقة.

​إن الباحث التقليدي غالباً ما يدخل إلى مجتمع ما، "يستخرج" بياناته (تماماً كما تستخرج شركة ما الموارد الطبيعية)، ثم يغادر لينشر "نتائجه" في مجلات أكاديمية لا يقرؤها أحد من أفراد المجتمع الأصليين، تاركاً وراءه "الفئات المستهدفة" من البحث دون أي تغيير حقيقي في واقعهم.

​هنا يأتي كتاب "البحث الاجتماعي لتحقيق التغير الاجتماعي" (Introduction to Action Research: Social Research for Social Change) للمؤلفين ديفيد جرينوود (Davydd Greenwood) و مورتين ليفين (Morten Levin) ليقدم "ثورة" هادئة ومدوية. هذا الكتاب، كما أشرتَ في شرحك، هو نتاج خبرة طويلة في التدريس ومشروعات "بحوث الفعل"، وهو يقدم بديلاً جذرياً: البحث "مع" الناس وليس "عن" الناس.

البحث الاجتماعي لتحقيق التغير الاجتماعي: ثورة "بحوث الفعل" ضد البحث التقليدي
غلاف كتاب البحث الاجتماعي لتحقيق التغير الاجتماعي.

​في هذا المقال، سنغوص في الأطروحات "المثيرة للجدل" التي يقدمها هذا الكتاب، ونحلل نقده العميق للبحث التقليدي، ونستكشف "بحوث الفعل" (Action Research) كمنهجية ديمقراطية تهدف إلى إنتاج معرفة جديدة و تحقيق التغيير الاجتماعي في آن واحد.

​1. النقد الجذري للبحوث العلمية التقليدية (التشخيص)

​يبدأ جرينوود وليفين بتحليل نقدي لاذع للممارسات البحثية السائدة في العلوم الاجتماعية. هما يجادلان بأن البحث التقليدي ليس "بريئة" أو "محايداً" كما يدعي، بل هو أداة غارقة في "علاقات القوة" (Power Relations).

​أ. سلطة الباحث المطلقة (أزمة التمثيل)

​الانتقاد الأول والأهم هو "المبالغة في سلطة الباحثين وسيطرتهم على البحث".

  • ​في النموذج التقليدي، الباحث هو "الخبير" (The Expert) الذي يمتلك "المعرفة النظرية".
  • ​هو من يضع "مشكلة" البحث (غالباً من برجه العاجي).
  • ​هو من يضع "تصميم" البحث.
  • ​هو من "يحلل" البيانات و "يفسرها".
  • ​"الفئات المستهدفة" (المبحوثون) هم مجرد "مواضيع" (Subjects) سلبية، دورهم هو "الإجابة" على الأسئلة فقط.
  • النتيجة: "إهمال" كامل لوجهات نظر المستهدفين وخبراتهم الحية. الباحث "يتحدث باسمهم" بدلاً من أن "يمنحهم صوتاً".

​ب. سيطرة أصحاب النفوذ (أزمة الحياد المزعوم)

​يكشف الكتاب الغطاء عن خرافة "الحياد العلمي". فـ "سيطرة أصحاب القوة والنفوذ المادي والسلطوي" هي حقيقة واقعة:

  • التمويل: من يمول البحث؟ غالباً ما تكون الحكومات، أو الشركات الكبرى، أو المؤسسات المانحة التي لها "أجندة" خاصة.
  • توجيه النتائج: هذا التمويل يؤثر بشكل مباشر على "الأسئلة" التي تُطرح، و "النتائج" التي يُسمح بنشرها.
  • النتيجة: البحث التقليدي، في كثير من الأحيان، يخدم "الوضع الراهن" (Status Quo) و "يبرر" سياسات النخب، بدلاً من أن "يتحدى" الظلم. وهذا يتقاطع تماماً مع أطروحات النموذج النقدي الذي يرى أن المعرفة دائماً "مُسيسة".

​ج. البحث كأداة ضد التحرر (أزمة الأثر)

​هذا هو النقد الأخلاقي الأعمق. يجادل المؤلفان بأن البحث التقليدي "يتعارض مع قضايا التحرر وتحقيق الديمقراطية"، خاصة في المجتمعات النامية أو المهمشة.

  • ​البحث "الاستخراجي" (Extractive Research) لا يترك أثراً إيجابياً، بل قد يزيد من "اغتراب" المجتمع.
  • ​هو ينتج "أوراقاً بحثية" تُركن على الأرفف، ولا ينتج "تغييراً حقيقياً" في حياة الناس.
  • ​إنه يعزز فكرة أن "الحل" يأتي من "الخبراء" في الأعلى، وليس من "الشعب" في الأسفل، وهي فكرة "معادية للديمقراطية" في جوهرها.

​2. ما هي "بحوث الفعل" (Action Research)؟ (الحل)

​بعد هذا التشخيص القاتم، يقدم جرينوود وليفين "بحوث الفعل" (AR) كبديل منهجي وأخلاقي.

تعريف بحوث الفعل: هي "منهجية بحثية تشاركية" (Participatory Methodology) تهدف إلى "حل مشكلة عملية" و "إنتاج معرفة نظرية" في نفس الوقت، وذلك عبر "عملية تعاونية" بين الباحثين الأكاديميين وأفراد المجتمع (أو المنظمة) المعنيين.

​إنها "دمج" بين "الفعل" (Action) و "البحث" (Research).

​أ. المشاركة الكاملة والتعاون (أساس المنهجية)

​هذا هو جوهر "بحوث الفعل". يتم "هدم" الهرمية بين الباحث والمبحوث.

  • سكان المجتمع كـ "باحثين غير مهنيين": الكتاب يصر على أن أفراد المجتمع ليسوا "مستفيدين" سلبيين، بل هم "شركاء" في البحث (Co-researchers). هم يمتلكون "المعرفة المحلية" (Local Knowledge) التي لا يمتلكها الباحث الأكاديمي.
  • العملية التشاركية: يشارك المجتمع "في كل مراحل" البحث:
    1. تحديد المشكلة: (هم من يقررون ما هي المشكلة الأهم التي تواجههم).
    2. تصميم البحث: (هم يشاركون في تصميم الأسئلة والأدوات).
    3. جمع البيانات: (يشاركون في المقابلات أو الاستبيانات).
    4. تحليل البيانات: (وهي الأهم، يشاركون في "تأويل" النتائج وفهم "معناها").

​ب. إنتاج معرفة جديدة (المعرفة من الأسفل)

​تهدف "بحوث الفعل" إلى "إنتاج معرفة جديدة يكون مصدرها المستفيدين والمشاركين أنفسهم".

  • ​هذه المعرفة ليست مجرد "نظريات علمية" جافة، بل هي "معرفة عملية" (Practical Knowledge) مرتبطة بالسياق (Context-bound).
  • ​إنها "تأصيل" للنظرية. بدلاً من تطبيق نظريات (مثل نظريات آلان تورين) بشكل فوقي، يتم "توليد" النظرية من رحم "الفعل" و "التجربة" المحلية.

​3. كيف تعمل "بحوث الفعل"؟ (المنهجية الحلزونية)

​"بحوث الفعل" ليست "وصفة" جامدة، بل هي "عملية" (Process) مرنة وديناميكية، وغالباً ما توصف بأنها "حلزونية" أو "دائرية" (Cyclical). هي عبارة عن دورات متكررة من أربع خطوات:

  1. التخطيط (Plan):
    • ​يجتمع الباحثون (الأكاديميون والمحليون) لتحديد مشكلة ملحة (مثال: ارتفاع معدل التسرب المدرسي في حي معين).
    • ​يضعون "خطة عمل" (Action Plan) للتدخل. (مثال: إطلاق برنامج دعم مدرسي تطوعي).
  2. الفعل (Act):
    • ​يتم "تنفيذ" خطة العمل المتفق عليها في الواقع.
  3. الملاحظة (Observe):
    • ​أثناء التنفيذ، يقوم الفريق بـ "جمع بيانات" بشكل منهجي حول ما يحدث. (مثال: ملاحظة الحصص، إجراء مقابلات قصيرة مع الطلاب والمعلمين).
  4. التأمل (Reflect):
    • ​يجلس الفريق معاً لـ "تأمل" البيانات. (ما الذي نجح؟ ما الذي فشل؟ لماذا؟).
    • ​هذا التأمل ينتج "المعرفة الجديدة" (الدروس المستفادة).

ثم تبدأ الدورة من جديد: بناءً على "التأمل"، يتم "إعادة التخطيط" (Re-Plan) بشكل أفضل، ثم "فعل" جديد، وهكذا.

​دور الباحث الأكاديمي: من "خبير" إلى "مُيسِّر" (Facilitator)

​في هذا النموذج، يتغير دور الباحث الأكاديمي (مثل جرينوود وليفين) بشكل جذري. هو لا يأتي "بالإجابات"، بل يأتي "بالأسئلة" و "الأدوات".

  • ​هو "مُيسِّر" للحوار الديمقراطي.
  • ​هو "مُدرِّب" يساعد أفراد المجتمع على اكتساب المهارات البحثية.
  • ​هو "جسر" يربط بين "المعرفة المحلية" و "النظريات الأكاديمية" في الاتجاهين.

​4. الأهداف الكبرى: التغيير، العدالة، والديمقراطية (الغاية)

​في النهاية، ما الذي يميز "بحوث الفعل" عن غيرها؟ إنها "بوصلتها الأخلاقية". كما يؤكد الكتاب، "من أهم أهداف بحوث الفعل تحقيق التغيير الحقيقي".

​أ. تحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي

​الهدف ليس "نشر ورقة بحثية"، بل "حل المشكلة".

  • ​"بحوث الفعل" لا تنتهي بـ "توصيات"، بل تنتهي بـ "فعل" ملموس.
  • ​النجاح يُقاس بـ "الأثر" الواقعي على حياة الناس (تغيير سياسة محلية، تحسين خدمة صحية، تمكين مجموعة مهمشة).
  • ​هذا يتقاطع مع مشروع إريك أولين رايت في "اليوتوبيا الواقعية"، فـ "بحوث الفعل" هي الأداة المثلى "لبناء" هذه البدائل الديمقراطية واختبارها على أرض الواقع.

​ب. تحقيق العدالة الاجتماعية

​"بحوث الفعل" ليست "محايدة"، بل هي "ملتزمة" (Committed) بقيم "العدالة الاجتماعية". إنها تنحاز بوعي إلى "الفئات المهمشة" و "المضطهدة" (مثل النموذج النقدي). إنها تهدف إلى "تمكين" (Empowerment) هؤلاء الأفراد ومنحهم الأدوات لتحدي "بنى القوة" التي تظلمهم.

​ج. تحقيق الديمقراطية (ديمقراطية المعرفة)

​هذه هي النقطة الأعمق. "بحوث الفعل" هي "ممارسة ديمقراطية" في جوهرها.

  • ​إنها "ديمقراطية" في "عملية" إنتاج المعرفة.
  • ​إنها تتحدى "احتكار" (Monopoly) الخبراء والأكاديميين للمعرفة.
  • ​إنها تؤمن بأن "كل" فرد قادر على التفكير النقدي وإنتاج المعرفة.
  • ​إنها "ديمقراطية" في "هدفها"، حيث تسعى لزيادة "المشاركة" المدنية والسياسية في صناعة القرار.

​خاتمة: "بحوث الفعل" كـ "ضرورة" أخلاقية

​يقدم كتاب "البحث الاجتماعي لتحقيق التغير الاجتماعي" أكثر من مجرد "منهجية بحث" بديلة. إنه يقدم "مانيفستو" (بيان) أخلاقي وسياسي لإعادة تعريف دور الباحث في المجتمع.

​إنه يرفض فكرة الباحث "المتعالي" و "المنفصل"، ويطالب الباحث بأن يكون "مشاركاً" و "مسؤولاً". في عالم مليء بالتحديات المعقدة، من الفقر إلى التغير المناخي، لم يعد يكفي أن "نصف" العالم أو "نفسره"؛ لقد حان الوقت لـ "تغييره".

​بالنسبة لأي باحث أو طالب في العلوم الاجتماعية والإنسانية (خاصة في البحوث التربوية)، فإن هذا الكتاب يمثل تحدياً مباشراً: هل بحثك مجرد "تمرين أكاديمي" لخدمة مسيرتك المهنية، أم هو "أداة" لخدمة المجتمع وتحقيق "العدالة" و "الديمقراطية"؟ "بحوث الفعل" تقدم لنا الطريق الثاني.

تحميل الكتاب

PDF للاطلاع على هذا المرجع الهام في "بحوث الفعل"، يمكنك تحميل النسخة المترجمة من الكتاب بصيغة

تعليقات