آلان تورين (1925-2023): رائد "علم الاجتماع الحركي" والمُنظّر الأبرز للمجتمع ما بعد الصناعي
مقدمة: "الفاعل" الذي أعاد تعريف الصراع الاجتماعي
في قلب كل احتجاج، وكل إضراب، وكل حركة حقوقية، يكمن سؤال جوهري: هل هؤلاء الناس مجرد "رد فعل" سلبي على الظروف، أم أنهم "فاعلون" يصنعون التاريخ؟ بالنسبة لعالم الاجتماع الفرنسي الراحل آلان تورين (Alain Touraine)، كانت الإجابة واضحة: إنهم "الفاعلون" (Actors) بامتياز.
يُعتبر آلان تورين (1925-2023) أحد أهم وأبرز علماء الاجتماع في النصف الثاني من القرن العشرين، ويقف كعملاق فكري كرّس حياته لهدف واحد: إعادة "الفاعل" الإنساني إلى قلب علم الاجتماع. في وقت هيمنت فيه النظريات البنيوية (التي رأت الأفراد كدُمى في يد الأنظمة)، سبح تورين ضد التيار ليؤسس ما يُعرف بـ "علم الاجتماع الحركي" (Sociologie de l'action).
لم يكتفِ تورين بذلك، بل كان من أوائل من شخصوا التحول العميق الذي نعيشه، واصفاً عالمنا الناشئ بـ "مجتمع ما بعد الصناعة" (The Post-Industrial Society). لقد فهم أن الصراعات المستقبلية لن تكون فقط حول الأجور والمصانع، بل حول المعرفة، والثقافة، والهوية.
في هذه المقالة الشاملة، سنغوص في سيرة آلان تورين الفكرية، ونفكك ركيزتي مشروعه (علم الاجتماع الحركي ومجتمع ما بعد الصناعة)، ونستعرض أهم كتبه، لنفهم لماذا يظل إرثه حيوياً لفهم عالمنا اليوم، من حركات "السترات الصفراء" إلى النشاط الرقمي على الإنترنت.
1. من هو آلان تورين؟ سيرة "الفاعل" الاجتماعي (1925-2023)
للإجابة على سؤال من هو آلان تورين؟، يجب أن نتتبع مسار حياته الذي كان انعكاساً لموضوع دراسته: "الفاعل" الذي يتشكل عبر الفعل.
البدايات: من التاريخ إلى "عامل" المصنع
وُلد آلان تورين في فرنسا عام 1925. كابن لطبيب، تلقى تعليماً نخبوياً في باريس، والتحق بـ "المدرسة العليا للأساتذة" المرموقة، حيث درس التاريخ في البداية، متأثراً بالمدرسة التاريخية الفرنسية (مثل مارك بلوخ).
كان تأثره بـ كارل ماركس واضحاً في البداية، لكنه سرعان ما اتخذ مسافة نقدية. لم يرفض ماركس، بل رأى أن تحليله للصراع الطبقي في المجتمع الصناعي لم يعد كافياً.
جاء التحول الحاسم في مسيرته عندما قرر ألا يكتفي بالتنظير. ففي أوائل الخمسينيات، عمل كباحث في منجم للفحم، وعاش تجربة "العامل" الصناعي عن قرب. هذه التجربة الميدانية أنتجت كتابه الهام الأول "علم اجتماع العمل" (Sociologie de l'action - 1955) (ملاحظة: غالباً ما يُترجم عنوانه الأول "تطور العمل في مصانع رينو" والعنوان الأهم لاحقاً "وعي العمال"). هنا بدأ يرى أن "وعي" العامل ليس مجرد انعكاس لموقعه الاقتصادي، بل هو "بناء" ذاتي نشط.
التحول الكبير: مشاهدة "الحركات الاجتماعية الجديدة"
كانت فترة الستينيات، وتحديداً "انتفاضة مايو 1968" الطلابية في فرنسا، هي اللحظة التي تبلور فيها مشروع تورين بالكامل. لقد شاهد بأم عينه حركات اجتماعية جديدة لا تشبه الحركة العمالية التقليدية.
- الحركات الطلابية: لم تكن تطالب بالمال، بل كانت تطالب بـ "تغيير الحياة" وتحدي سلطة الجامعات والثقافة البرجوازية.
- الحركات النسوية: كانت تطالب بالاعتراف بالهوية وتحدي البنى الأبوية.
- الحركات البيئية: كانت تطالب بنموذج تنموي مختلف.
أدرك تورين أن هذه "الحركات الاجتماعية الجديدة" (New Social Movements) هي "الفاعل" التاريخي الجديد. الصراع لم يعد فقط في "المصنع" حول "توزيع الثروة"، بل أصبح في "المجتمع" كله حول "إنتاج المعنى" و "الثقافة" و "الهوية".
2. الركيزة الأولى: "علم الاجتماع الحركي" (Sociologie de l'action)
يُعد آلان تورين بلا منازع رائد علم الاجتماع الحركي. هذا الفرع ليس مجرد "دراسة" للحركات، بل هو "منهج" كامل لفهم كيف تُصنع المجتمعات.
أ. عودة "الفاعل" (The Return of the Actor)
كانت هذه هي صرخة تورين الفكرية. في مواجهة البنيوية (التي رأت أن البنى الاجتماعية هي التي تحدد سلوكنا) وحتى في مواجهة معاصره العملاق بيير بورديو (الذي ركز على "الهابيتوس" و "الحقول" كقوى شبه حتمية)، أصر تورين على أن "الفاعل" (L'Acteur) أو "الذات" (Le Sujet) هو الذي يصنع المجتمع.
المجتمع عند تورين ليس "بناية" ثابتة، بل هو "صراع" دائم.
ب. مفهوم "الفاعلية التاريخية" (Historicité)
هذا هو المفهوم المركزي والأكثر تعقيداً عند تورين. "الفاعلية التاريخية" (أو "التاريخانية") ليست مجرد "التاريخ"، بل هي "قدرة المجتمع على إنتاج نفسه".
كل مجتمع ينتج نفسه من خلال ثلاثة مكونات:
- المعرفة: كيف يفهم العالم (العلم، الدين).
- التراكم: كيف يستثمر موارده (الاقتصاد، الرأسمال).
- النموذج الأخلاقي: كيف يُعرّف الخير والشر (القانون، الثقافة).
الصراع الاجتماعي الحقيقي، بالنسبة لتورين، هو دائماً صراع بين طبقتين حول "من يسيطر على الفاعلية التاريخية".
- الطبقة السائدة: هي التي تسيطر على المعرفة والأخلاق والاقتصاد، وتحاول فرض رؤيتها كـ "طبيعية" و "أبدية".
- الحركات الاجتماعية: هي "الفاعل" الذي يتحدى هذه السيطرة، ويكشف أنها ليست "طبيعية" بل "تاريخية" (أي من صنع البشر)، ويقترح نموذجاً بديلاً لـ "إنتاج المجتمع".
ج. "منهج التدخل السوسيولوجي" (Intervention Sociologique)
هنا تكمن عبقرية تورين المنهجية. هو لم "يدرس" الحركات الاجتماعية من مكتبه. لقد "تدخل" فيها.
كان منهجه فريداً:
- تكوين المجموعة: يجمع تورين وفريقه مجموعة من الناشطين (عمال، طلاب، نسويات، مناهضون للطاقة النووية) في مكان مغلق.
- المواجهة: يجعلهم يتحاورون مع بعضهم البعض ومع "خصومهم" (أحياناً خصوم وهميون يلعب دورهم باحثون).
- التحليل الذاتي (Auto-Analyse): الهدف هو دفع الحركة لتتجاوز "الشعارات" السطحية (مثل "نحن غاضبون") لتصل إلى "المعنى الأعمق" لصراعها.
- اكتشاف "الفاعل": يساعدهم تورين على رؤية أنهم لا يطالبون فقط بمطالب فئوية، بل إنهم يجسدون "الصراع المركزي" في المجتمع.
هذا المنهج ليس مجرد "بحث"، بل هو "علاج" سوسيولوجي يساعد الحركة على اكتشاف "أعلى إمكاناتها" كفاعل تاريخي.
3. الركيزة الثانية: تشخيص العصر "مجتمع ما بعد الصناعة"
في أواخر الستينيات، كان تورين من أوائل المنظرين (إلى جانب دانييل بيل) الذين أعلنوا نهاية "المجتمع الصناعي" وبزوغ فجر عصر جديد. كتابه "مجتمع ما بعد الصناعي" (La Société post-industrielle - 1969) كان بمثابة تشخيص دقيق لهذا التحول.
خصائص مجتمع ما بعد الصناعة:
- هيمنة قطاع الخدمات والمعرفة: (كما ذكرتَ) الاقتصاد لم يعد قائماً على "إنتاج السلع" (مصانع الصلب والسيارات)، بل على "إنتاج الخدمات" (البنوك، التعليم، الصحة) و "معالجة المعلومات".
- المعرفة كقوة إنتاج أساسية: في المجتمع الصناعي، كان "رأس المال" (المال والآلات) هو القوة الأساسية. في مجتمع ما بعد الصناعة، أصبحت "المعرفة" و "الابتكار" هي القوة الأساسية. هذا يتقاطع مع أفكار توماس كون حول كيف أن "الثورات العلمية" (تغير نماذج المعرفة) هي التي تقود التقدم.
-
ظهور طبقات صراع جديدة: هنا يبتعد تورين عن ماركس. الصراع لم يعد بين "الرأسماليين" (ملاك المصانع) و "العمال". الصراع الجديد هو بين:
- الطبقة السائدة الجديدة (التكنوقراط): "الطبقة المبرمجة" (La classe programmatrice). هم ليسوا بالضرورة "الأغنياء"، بل هم "مديرو الأنظمة" (السياسيون، كبار مديري الشركات، الخبراء) الذين يسيطرون على "المعلومات" و "يبرمجون" المجتمع. (وهو ما يذكرنا بتحليل تيودور أدورنو لـ "صناعة الثقافة" كأداة برمجة).
- الطبقة الخاضعة الجديدة: هم "المبرمَجون" (Les programmés). هم الجماهير المستهلكة، التي تخضع لقرارات التكنوقراط، وتشعر بالاغتراب والتبعية.
- أهمية الثقافة والهوية: (كما ذكرتَ) الصراعات الجديدة أصبحت "ثقافية" بامتياز. الحركات الاجتماعية الجديدة (النسوية، البيئية، الإقليمية) لا تطالب بـ "الخبز"، بل تطالب بـ "الاعتراف"، و"الهوية"، و"الحق في الاختلاف"، و"الحق في تقرير المصير" الثقافي والأخلاقي.
4. نقد الحداثة: البحث عن "الذات" المفقودة
في مرحلته الفكرية المتأخرة، توّج تورين مشروعه بواحد من أهم كتبه: "نقد الحداثة" (Critique de la modernité - 1992).
أ. انقسام الحداثة
يجادل تورين بأن "الحداثة" (Modernity) التي بدأت مع عصر التنوير كانت تحمل وعداً مزدوجاً:
- العقلنة (Rationalization): تحرير الإنسان من الخرافة عن طريق "العقل" (العلم، التكنولوجيا، الإدارة الفعالة).
- الذاتية (Subjectivation): تحرير الإنسان من التقاليد القمعية عن طريق "الحرية الفردية" و "حقوق الإنسان" (ظهور "الذات" أو "الفاعل").
ب. مأساة الحداثة
المأساة، حسب تورين، هي أن هذين الوعدين "انفصلا" عن بعضهما البعض.
- العقلنة تحولت إلى "عقل أداتي": أصبح "العقل" مجرد "أداة" للسيطرة والهيمنة والسوق. أصبح "نظاماً" بارداً (التكنوقراطية، البيروقراطية) يسحق الفرد. (وهو ما يلتقي مع نقد هارتموت روزا لـ "التسارع" كنظام عقلاني مدمر).
- الذاتية تحولت إلى "فردانية": تحررت "الذات" من التقاليد، لكنها بدلاً من أن تصبح "فاعلاً" أخلاقياً، سقطت في "فردانية" استهلاكية، أو تراجعت إلى "هويات" منغلقة وقاتلة (التعصب الديني أو القومي).
ج. نقد "ما بعد الحداثة"
رفض تورين بشدة أطروحات ما بعد الحداثة التي أعلنت "موت الإنسان" أو "موت الفاعل". بالنسبة له، هذا استسلام كارثي.
الحل عند تورين هو "إعادة توحيد" العقل والذات. يجب على "الفاعل" (الذات الحرة والأخلاقية) أن يستعيد السيطرة على "العقلنة" (الأنظمة والتكنولوجيا) ويوجهها نحو أهداف إنسانية. هذا هو جوهر الديمقراطية الحقيقية كما يشرحها في كتابه "ما هي الديمقراطية؟".
5. أعمال آلان تورين الرئيسية (إرث فكري)
لا يمكن حصر إرث تورين، لكن هذه أهم أعماله التي شكلت الفكر السوسيولوجي:
- "علم اجتماع العمل" (1955): البداية الميدانية وتحليل وعي الطبقة العاملة.
- "مجتمع ما بعد الصناعي" (1969): العمل التأسيسي الذي شخص العصر الجديد، عصر المعرفة والتكنوقراط.
- "صوت وحركة" (1978): البيان الأوضح لمنهجه في "علم الاجتماع الحركي" وتحليل الحركات الاجتماعية الجديدة.
- "نقد الحداثة" (1992): تحفته الفلسفية والاجتماعية التي تحلل انقسام الحداثة وتدعو لعودة "الفاعل".
- "المساواة والحرية" (2002): تأمل في القيم الأساسية اللازمة لإعادة بناء الديمقراطية في عصرنا.
6. خاتمة: إرث آلان تورين وتأثيره الدائم
يُعتبر آلان تورين واحداً من أهم علماء الاجتماع في القرن العشرين، ليس فقط في فرنسا، بل عالمياً. تأثيره يتجاوز الأكاديميا، فقد ألهم أجيالاً من الباحثين والناشطين.
- مقارنة بالمعاصرين: إذا كان بيير بورديو هو عالم اجتماع "البنى" الخفية التي تقيدنا، و نوربيرت إلياس هو عالم اجتماع "السيرورات" الطويلة التي شكلتنا، فإن آلان تورين هو بلا منازع عالم اجتماع "الفعل" و "التغيير".
- تجاوز التشاؤم: في عالم يواجه أزمات كبرى، مثل عالم أولريش بيك ("مجتمع المخاطر")، يقدم فكر تورين "باراديجماً" أو "براغيدما جديدة لفهم عالم اليوم" لا تستسلم للحتمية.
- أهميته اليوم: لا تزال أفكار تورين حية. لفهم لماذا يحتج الناس ضد سيطرة شركات التكنولوجيا (التكنوقراط الجدد)، أو لماذا تناضل حركات الهوية من أجل "الاعتراف" الثقافي، يجب أن نعود إلى تورين.
لقد ترك لنا آلان تورين (1925-2023) رسالة واضحة: المجتمع ليس "قدراً" محتوماً، بل هو "مشروع" مفتوح. والتاريخ لا تكتبه "الأنظمة"، بل يكتبه "الفاعلون" الاجتماعيون الذين يجرؤون على تحدي تلك الأنظمة باسم رؤية مختلفة للمستقبل.