📁 آخر الأخبار

الخيال السوسيولوجي: تشريح العلاقة الجدلية بين المتاعب الشخصية وهياكل القوة في المجتمع العربي المعاصر

الخيال السوسيولوجي تشريح العلاقة الجدلية بين المتاعب الشخصية وهياكل القوة في المجتمع العربي المعاصر

​في مواجهة الفخ لماذا نشعر أننا محاصرون في ذواتنا؟

​في خضم الحياة المعاصرة المتسارعة، يجد الفرد نفسه غارقًا في دوامة من التحديات اليومية التي تبدو، للوهلة الأولى، وكأنها نتاج حصري لخياراته الشخصية أو إخفاقاته الذاتية. حينما يفقد شاب وظيفته في القاهرة، أو تعجز أسرة في عمان عن تأمين مسكن لائق، أو تتأخر شابة في الرياض عن الزواج، يميل الوعي العفوي - وغالبًا الخطاب الإعلامي السائد - إلى تفسير هذه الظواهر بوصفها "متاعب شخصية" نابعة من نقص في الكفاءة، أو سوء في التقدير، أو حتى ضعف في الإرادة الفردية. هذا التفسير الفرداني المفرط يمثل ما أسماه عالم الاجتماع الأمريكي تشارلز رايت ميلز (C. Wright Mills) بـ "الفخ" (The Trap)، حيث يعجز الأفراد عن رؤية القوى الكبرى التاريخية والمؤسسية التي تشكل مصائرهم وتحرك خيوط حياتهم اليومية من خلف الستار.

الخيال السوسيولوجي تشريح العلاقة الجدلية بين المتاعب الشخصية وهياكل القوة في المجتمع العربي المعاصر
الجدلية بين الفرد والبنية.

​إن الحاجة إلى "الخيال السوسيولوجي" (Sociological Imagination) اليوم ليست مجرد ترف أكاديمي يقتصر على قاعات الجامعات، بل هي ضرورة وجودية ملحة لكل فرد يسعى لفهم موقعه في هذا العالم المضطرب. إننا نعيش في عصر تتداخل فيه الأزمات الاقتصادية العالمية مع التحولات الاجتماعية المحلية، مما يجعل الحدود بين ما هو "شخصي" وما هو "عام" ضبابية للغاية. يهدف هذا التقرير الموسع إلى تفكيك هذا الفخ عبر استخدام أداة الخيال السوسيولوجي، ليس فقط كمفهوم نظري، بل كعدسة تحليلية حيوية لفهم الواقع العربي الراهن. نحن لا نحتاج فقط إلى فهم مشاكلنا، بل نحتاج إلى إعادة تعريفها جذريًا، لنكتشف أن ما نعيشه من أزمات خاصة في بيوتنا وعملنا ونفسياتنا، هو في جوهره انعكاس لقضايا عامة تتعلق بالبناء الاجتماعي، والتحولات التاريخية، والسياسات الاقتصادية الكلية التي تتجاوز قدرة الفرد على السيطرة.

​سنتناول في هذا البحث بعمق تحليلي شامل الجذور النظرية للمفهوم، وكيفية تكييفه مع السياق العربي وخصوصياته الثقافية، مع التركيز على قضايا محورية تؤرق المجتمع العربي اليوم: أزمة البطالة والتشغيل في ظل تقارير 2024، معضلة الزواج والسكن كأزمات اقتصادية بنيوية، والضغوط النفسية المرتبطة بـ "ثقافة الهوس بالعمل" (Hustle Culture) والصحة الجسدية. سنثبت بالأدلة والبيانات أن الخروج من المأزق الفردي لا يتم إلا عبر الوعي بالشرط الاجتماعي والتاريخي، وأن الحلول الفردية لمشاكل هيكلية هي محض وهم يخدم استمرار الوضع القائم.

​البنيان النظري فلسفة الربط بين السيرة الذاتية والتاريخ

​لقد صاغ سي رايت ميلز مصطلح "الخيال السوسيولوجي" في عام 1959 في كتابه الذي يحمل نفس الاسم، والذي يُعد حتى اليوم أحد أهم المراجع في علم الاجتماع النقدي. لم يكن ميلز يطرح مجرد منهجية بحثية، بل كان يدعو إلى "جودة للعقل" (Quality of Mind) تمكن صاحبها من فهم التاريخ البيوغرافى (سيرة حياة الفرد) والتاريخ المجتمعي (تاريخ المجتمع) والعلاقة المتبادلة بينهما داخل البناء الاجتماعي. بعبارة أخرى، هو القدرة على الانتقال من منظور ضيق يركز على الذات إلى منظور واسع يرى المجتمع ككل، ومن ثم العودة إلى الذات بفهم أعمق وأشمل.

​يؤكد ميلز أن "لا حياة الفرد ولا تاريخ المجتمع يمكن فهمهما دون فهم الاثنين معًا". هذا الترابط الجدلي هو جوهر النظرية. الفرد ليس ذرة معزولة تسبح في فراغ اجتماعي، بل هو فاعل يتشكل وعيه وسلوكه وفرصه من خلال المؤسسات التي يعيش فيها (الأسرة، الدولة، الاقتصاد، الدين). وعندما يمتلك الفرد الخيال السوسيولوجي، فإنه يتحرر من "سجن" مشاكله الخاصة ليرى أنها جزء من سياق أوسع، مما يمنحه قدرة فريدة على التنبؤ وفهم مسار حياته في سياق حركة التاريخ الكبرى.

​جدلية المتاعب الشخصية والقضايا العامة

​حجر الزاوية في نظرية ميلز، والذي يشكل العمود الفقري لهذا التقرير، هو التمييز الدقيق والحاسم بين مستويين من الواقع الاجتماعي:

​أولاً، المتاعب الشخصية (Personal Troubles): وهي المشكلات التي تقع ضمن نطاق الفرد المباشر وعلاقاته القريبة مع الآخرين. إنها تتعلق بذات الفرد وبالمجالات المباشرة التي يعيها شخصيًا وتتصل بحياته الخاصة. حل هذه المتاعب يكمن عادة داخل الفرد أو في محيطه الضيق، وتعتبر "مسألة خاصة". مثال على ذلك: طالب رسب في الامتحان لأنه لم يدرس جيدًا، أو زوجان انفصلا بسبب عدم التوافق في الطباع.

​ثانياً، القضايا العامة (Public Issues): وهي قضايا تتجاوز البيئة المحلية للفرد وحياته الداخلية. إنها تتعلق بتنظيم المؤسسات المتعددة داخل مجتمع تاريخي ككل، وكيفية تداخل هذه المؤسسات لتكوين البناء الاجتماعي. هذه القضايا تمثل أزمة في الترتيبات المؤسسية، وحلها يتطلب تغييرًا في المؤسسات أو السياسات العامة، وليس مجرد تعديل سلوك الأفراد. مثال: عندما ترسب أعداد هائلة من الطلاب بسبب تغيير مفاجئ وغير مدروس في المناهج التعليمية أو نقص حاد في الكوادر التدريسية، هنا ننتقل من فشل الطالب (متاعب) إلى فشل النظام التعليمي (قضية).

​يضرب ميلز مثالًا كلاسيكيًا بالبطالة لا يزال صالحًا لكل زمان ومكان: "عندما يكون رجل واحد عاطلاً عن العمل في مدينة عدد سكانها 100 ألف، فهذه متاعب شخصية، وبالنسبة له هو الحل يكمن في تحسين مهاراته أو تغيير موقفه... ولكن عندما يكون 15 مليون رجل عاطلين عن العمل في أمة تعدادها 50 مليونًا، فهذه قضية عامة، ولا يمكننا أن نأمل في العثور على حل لها ضمن نطاق الفرص المتاحة لأي فرد واحد". إن هذا التمييز هو ما يمنعنا من لوم الضحية، ويوجه أنظارنا نحو الخلل الهيكلي.

​نقد "النزعة النفسية" وتطبيب الاجتماعي

​أحد أهم أبعاد الخيال السوسيولوجي هو نقده للنزعة النفسية (Psychologism) التي هيمنت على الفكر الغربي الحديث، وبدأت تتسرب بقوة إلى الثقافة العربية عبر كتب التنمية البشرية ومدربي الحياة (Life Coaches). هذه النزعة تميل إلى تفسير كل الظواهر الاجتماعية بردها إلى دوافع نفسية أو سمات شخصية. في هذا السياق، يتم تحويل المشاكل البنيوية (مثل الفقر) إلى مشاكل تكيف نفسي (مثل "عقلية الفقر" أو "نقص الطموح" أو "الطاقة السلبية").

​يحذر ميلز والباحثون الذين ساروا على نهجه من خطورة هذا التوجه، لأنه يعفي السلطة والمؤسسات الاقتصادية والسياسية من المسؤولية ويلقي باللوم كاملاً على الضحية (Victim Blaming). عندما يتم إقناع الفرد بأن معاناته الاقتصادية ناتجة عن "عدم ثقة بالنفس"، فإنه ينشغل بإصلاح ذاته بدلاً من المطالبة بإصلاح النظام الاقتصادي وتوزيع الثروة. هذا الوعي الزائف يؤدي إلى حالة من الشلل السياسي والاجتماعي، حيث ينعزل الأفراد في زواياهم الخاصة، محاولين حل مشاكل مستعصية فرديًا، وهو ما يؤدي حتمًا إلى الإحباط والاغتراب والشعور بالعجز.

​علاوة على ذلك، يمتد هذا النقد ليشمل الممارسات المهنية في الخدمة الاجتماعية التي تركز على "تكيف الحالة" بدلاً من تغيير الظروف المحيطة بها. يشير النقد السوسيولوجي إلى أن العاملين الاجتماعيين والمعلمين قد ينزلقون بسهولة للتركيز على المواقف المعزولة واعتبار المشاكل مشاكل أفراد، متجاهلين البناء الاجتماعي الذي أنتج هذه الحالات. إن الخيال السوسيولوجي يدعو إلى إعادة تسييس هذه المشاكل، أي إعادتها إلى سياقها السياسي والاقتصادي.

​الخيال السوسيولوجي كأداة للتمكين والوعي

​لا يهدف الخيال السوسيولوجي إلى إشعار الأفراد بالعجز أمام قوى المجتمع الهائلة أو الجبرية التاريخية، بل العكس تمامًا. إنه يهدف إلى "التمكين" (Empowerment). عندما يدرك الفرد أن مشكلته ليست عيبًا شخصيًا بل هي نتاج لظروف تاريخية واجتماعية مشتركة مع الملايين غيره، يتحول الشعور بالخزي والذنب (Self-blame) إلى شعور بالتضامن والرغبة في التغيير الجماعي. إنه يحول "الهموم الخاصة" التي تسبب الألم الصامت إلى "قضايا عامة" قابلة للنقاش والتعديل والمطالبة بالحقوق.

​يساعد هذا المنظور الأفراد على فهم كيف تؤثر "فرص الحياة" (Life Chances) المتاحة لهم - بناءً على الطبقة، والجنس، والعرق، والموقع الجغرافي - على مساراتهم الشخصية. وبدلاً من الاستسلام لليأس، يصبح الفرد قادرًا على تحديد "العدو الحقيقي" (سواء كان نظامًا اقتصاديًا مجحفًا، أو قوانين تمييزية، أو ثقافة استهلاكية سامة) والعمل مع الآخرين لتغييره. إن الوعي السوسيولوجي هو الخطوة الأولى نحو المواطنة الفاعلة والمشاركة المدنية الحقيقية.

​السياق العربي جذور المفهوم وخصوصية التطبيق

​عند محاولة تطبيق مفهوم الخيال السوسيولوجي على الواقع العربي، يجب أن نأخذ في الاعتبار الخصوصيات الثقافية والبنائية للمنطقة. المجتمعات العربية، تاريخيًا، تميل إلى كونها مجتمعات جمعية (Collectivist) أكثر منها فردانية، حيث تلعب القبيلة، والعائلة الممتدة، والطائفة دورًا وسيطًا قويًا بين الفرد والدولة. ومع ذلك، فإن التحولات الحداثية المشوهة، والسياسات النيوليبرالية التي تبنتها العديد من الدول العربية في العقود الأخيرة، خلقت حالة من التوتر الشديد بين هذه البنى التقليدية وبين متطلبات الحياة الاقتصادية الحديثة التي تتطلب فردًا مستقلاً ومنافسًا في السوق.

​إرهاصات الخيال السوسيولوجي في الفكر العربي

​لا يمكننا الحديث عن الخيال السوسيولوجي في المنطقة دون استحضار إسهامات رواد علم الاجتماع العربي الذين مارسوا هذا الخيال بعمق قبل أن يصبح مصطلحًا شائعًا في الأوساط الأكاديمية الغربية. هؤلاء المفكرون قدموا تحليلات تربط بين البنية الاجتماعية والسلوك الفردي بطرق تضاهي، بل وتسبق أحيانًا، طروحات ميلز.

​علي الوردي: ازدواجية الشخصية كبنية اجتماعية لا نفاق فردي

​قدم عالم الاجتماع العراقي الرائد علي الوردي تحليلاً سوسيولوجيًا فذًا للشخصية العراقية (والعربية عمومًا) من خلال مفهوم "ازدواجية الشخصية". في كتابه "شخصية الفرد العراقي" وغيره من المؤلفات، لم يكن الوردي يقصد بالازدواجية نفاقًا أخلاقيًا فرديًا (متاعب شخصية) كما قد يتبادر للذهن في التفسير الشعبي، بل كان يشير إلى "قضية عامة" ناتجة عن صراع حضاري وتاريخي بين قيم البداوة وقيم الحضارة داخل المجتمع الواحد.

​يرى الوردي أن الفرد العراقي واقع تحت تأثير تيارين متناقضين من القيم: قيم البداوة التي تمجد الغلبة والعصبية، وقيم الحضارة والدين التي تدعو للنظام والتقوى. هذا الصراع البنيوي ينعكس داخل نفسية الفرد كسلوك متناقض. باستخدام الخيال السوسيولوجي، برأ الوردي الفرد من تهمة النفاق الشخصي المتعمد، وحمّل البنية الاجتماعية والتاريخية مسؤولية هذا التناقض. لقد ربط بين "المتاعب الشخصية" (الصراع النفسي والسلوكي للفرد) وبين "القضايا العامة" (الصراع الحضاري بين البداوة والحضر)، وهو جوهر ما دعا إليه ميلز لاحقًا.

​حليم بركات: الاغتراب في المجتمع الأبوي

​في تحليله الشامل للمجتمع العربي المعاصر، استخدم عالم الاجتماع السوري حليم بركات الخيال السوسيولوجي لربط شعور الفرد العربي بالاغتراب (Alienation) وبين هياكل السلطة الأبوية (البطريركية) التي تهيمن على الأسرة والدولة والمدرسة والدين. بالنسبة لبركات، مشاكل الفرد العربي في التعبير عن ذاته، أو في المشاركة السياسية، أو حتى في علاقاته العاطفية، ليست نتاج سلبية فطرية أو عجز شخصي، بل هي نتاج "قضية عامة" تتمثل في أنظمة قمعية تعيد إنتاج التبعية والخضوع في كل مؤسسة اجتماعية.

​يوضح بركات أن الاغتراب ليس مجرد حالة نفسية (كما يفسرها علم النفس التقليدي)، بل هو حالة اجتماعية ناتجة عن فقدان السيطرة على المصير وعن الانفصال عن المجتمع وعن الذات، بسبب الهياكل السياسية والاجتماعية القائمة. هذا التحليل ينقل النقاش من "لماذا يشعر هذا الفرد بالحزن؟" إلى "كيف ينتج المجتمع العربي الاغتراب؟".

​الحاجة الملحة للخيال السوسيولوجي في اللحظة العربية الراهنة

​اليوم، يواجه العالم العربي تحديات غير مسبوقة تجعل الحاجة للخيال السوسيولوجي مسألة حياة أو موت لفهم الواقع. الحروب الأهلية، النزوح الجماعي، الانهيارات الاقتصادية المتتالية، والتغيرات الديموغرافية الهائلة، كلها قضايا تحولت إلى "متاعب شخصية" لملايين العرب. اللاجئ السوري أو الفلسطيني الذي يعاني من أزمة هوية واقتلاع في المهجر لا يعاني من مشكلة نفسية فردية معزولة، بل هو ضحية تحولات جيوسياسية كبرى وتفكك في النظام الإقليمي. الشاب المصري أو الأردني الذي يؤجل زواجه ليس "عازفًا عن الزواج" برغبته الحرة، بل هو محكوم بظروف اقتصادية قاهرة وسياسات إسكان نيوليبرالية.

​في الفصول التالية، سنقوم بتشريح هذه القضايا بالتفصيل، مستخدمين الخيال السوسيولوجي لربط الألم الفردي بالخلل البنيوي، ولنثبت أن فهمنا لأنفسنا يمر حتمًا عبر فهمنا لمجتمعنا وتاريخنا.

​أزمة العمل والتشغيل عندما ينهار هيكل الفرص

​لعل المثال الأكثر وضوحًا وإيلامًا وقسوة على الفرق بين المتاعب الشخصية والقضايا العامة هو موضوع البطالة والعمل في العالم العربي. في الثقافة الشعبية، وحتى في بعض خطابات التنمية البشرية وريادة الأعمال، يُلام العاطل عن العمل بشكل مباشر. يُقال له بعبارات قاسية: "أنت لا تبحث بجدية"، "أنت تفتقر للمهارات اللازمة للسوق"، "أنت ترفض الأعمال البسيطة وتتكبر"، "الفرص موجودة لمن يسعى". هذه الخطابات تحول البطالة إلى فشل شخصي بحت، مما يولد شعورًا عميقًا بالدونية والذنب لدى الشباب.

​لكن الخيال السوسيولوجي يجبرنا على النظر إلى ما وراء الفرد، إلى الأرقام والحقائق الهيكلية التي ترسم صورة مختلفة تمامًا. تشير أحدث بيانات منظمة العمل الدولية (ILO) لعام 2024 إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) لا تزال تسجل أعلى معدلات بطالة الشباب في العالم، وهو وضع مستمر منذ عقود، مما يشير إلى خلل بنيوي وليس طارئًا.

​تحليل بيانات 2024: قراءة سوسيولوجية للأرقام

​وفقًا لتقديرات منظمة العمل الدولية، بلغ معدل بطالة الشباب في المنطقة العربية في عام 2024 مستويات قياسية مقلقة. الجدول التالي يوضح بعض المؤشرات الرئيسية التي تنقلنا من الخاص إلى العام:

المؤشر القيمة التقديرية (2024) الدلالة السوسيولوجية (القضية العامة)
معدل بطالة الشباب (إجمالي) ~19.6% - 28%
(تفاوت بين الدول)
وجود "جيش احتياطي" من العاطلين يعكس فشل السياسات الاقتصادية في خلق فرص عمل تستوعب "الفقاعة الشبابية" (Youth Bulge).
بطالة الإناث الشابات تصل إلى ~36% - 40%
(في بعض الدول)
هذا ليس عزوفًا من النساء، بل نتاج حواجز ثقافية وهيكلية، وعدم مواءمة بيئات العمل، رغم ارتفاع نسب تعليم الإناث (مفارقة التعليم والبطالة).
الشباب خارج التعليم والعمل (NEET) نسبة مرتفعة تتجاوز 30%
(في دول مثل الأردن ومصر)
هدر هائل للطاقة البشرية، وتأجيل قسري لمرحلة البلوغ الاجتماعي والاستقلال الاقتصادي (ظاهرة الانتظار).
 

عندما تكون نسبة البطالة بين الشباب بهذه الضخامة، فمن المستحيل إحصائيًا وسوسيولوجيًا أن يكون السبب هو "كسل" أو "نقص مهارات" ملايين الشباب في آن واحد وفي بلدان مختلفة. السبب الحقيقي يكمن فيما أسماه ميلز "انهيار هيكل الفرص" (Collapse of the structure of opportunities). الاقتصادات العربية، التي تعتمد في كثير من الأحيان على الريع النفطي أو الخدمات منخفضة القيمة، فشلت في التحول إلى اقتصادات إنتاجية تخلق وظائف لائقة.

​"عقاب المؤهل" وفجوة التعليم

​تظهر البيانات تناقضًا صارخًا وفريدًا في العالم العربي مقارنة ببقية العالم: في العديد من الدول (مثل الأردن، تونس، ومصر)، ترتفع معدلات البطالة كلما ارتفع المستوى التعليمي. هذه ظاهرة تعرف سوسيولوجيًا بـ "عقاب المؤهل" (Penalty of Qualification).

  • القضية العامة: هذا يشير إلى خلل بنيوي في الطلب الاقتصادي؛ فالجامعات تضخ خريجين بمهارات معينة، بينما السوق (الذي يسيطر عليه القطاع غير الرسمي أو الاستثمار العقاري والخدمي) يطلب عمالة رخيصة وغير ماهرة.
  • المتاعب الشخصية: يشعر الخريج الجامعي بالخيانة والمرارة والاكتئاب. لقد التزم بـ "العقد الاجتماعي" الضمني (ادرس بجد لتنجح وتتوظف)، لكن المجتمع والدولة لم يلتزما بجانبهما من الصفقة. هذا الشعور ليس مرضًا نفسيًا، بل هو استجابة عقلانية لخلل في النظام القيمي والاقتصادي للمجتمع.

​ظاهرة "الانتظار" (Waithood): تعليق الحياة

​ابتكر الباحثون في العلوم الاجتماعية مصطلح "Waithood" (مرحلة الانتظار) لوصف الحالة الوجودية التي يعيشها ملايين الشباب في الشرق الأوسط. إنهم يقضون سنوات طويلة، قد تمتد لعقد كامل بعد التخرج، في حالة انتظار لوظيفة دائمة تمكنهم من الزواج وتكوين أسرة والاستقلال عن أسرهم الأصلية. هذه الفترة ليست مجرد وقت ضائع، بل هي فترة تأكل من العمر الاجتماعي والنفسي للفرد.

  • الأثر النفسي (الشخصي): يشعر الشاب بأنه "ليس رجلاً كاملاً" وفقًا للمعايير التقليدية للرجولة التي تربطها بالإعالة، وتشعر الفتاة بأن فرصها في الحياة تتقلص. هذا الانتظار يولد حالة من القلق الدائم والهشاشة النفسية.
  • الجذر البنيوي (العام): هذه الظاهرة ليست خيارًا لنمط حياة، بل هي نتاج لسياسات اقتصادية فشلت في استيعاب النمو الديموغرافي، بالإضافة إلى قوانين عمل وتشريعات إسكان لا تتناسب مع مداخيل الجيل الجديد، مما يجعل الانتقال إلى مرحلة "الرشد" (Adulthood) عملية مكلفة وشاقة للغاية.

​الاقتصاد غير الرسمي ووهم "الهوس بالعمل" (Hustle Culture)

​مع انسحاب الدولة التدريجي من التوظيف العام (الذي كان سمة العقد الاجتماعي القديم في الجمهوريات العربية ما بعد الاستقلال)، وتراجع قدرة القطاع الخاص الرسمي على التوظيف، لجأ الشباب قسرًا أو طوعًا إلى الاقتصاد غير الرسمي أو ما يسمى عالميًا بـ "اقتصاد العربة" (Gig Economy) والعمل الحر.

​هنا يتدخل الخيال السوسيولوجي ليفكك "أيديولوجيا" جديدة تغزو وسائل التواصل الاجتماعي: "ثقافة الهوس بالعمل" (Hustle Culture). هذه الثقافة تمجد العمل المتواصل، وترفع شعارات مثل "لا تنم بينما الآخرون يحلمون"، وتصور سائق "أوبر" أو بائع الطعام المتجول على أنه "رائد أعمال" عصامي.

  • التحليل السوسيولوجي: يرى الباحثون أن هذه الثقافة هي نتاج تحولات النيوليبرالية التي بدأت مع التاتشرية والريغانية في الغرب وانتقلت إلينا، حيث تهدف إلى تحويل المسؤولية من الدولة والشركات إلى الفرد. إنها تخفي حقيقة أن هؤلاء العمال يفتقرون للأمان الوظيفي، التأمين الصحي، والتقاعد (قضية عامة). إنهم طبقة "البريكاريا" (Precariat) أو العمالة الهشة.
  • الجندر والعمل: تتجلى هذه الظاهرة بوضوح لدى النساء، حيث يتم الترويج لمصطلح "Mumpreneur" (الأم رائدة الأعمال) لتشجيع النساء على العمل من المنزل في بيع المنتجات أو الخدمات، وتصوير ذلك كتمكين، بينما هو في الحقيقة تعويض عن غياب حضانات الأطفال المدعومة وعن جمود سوق العمل الرسمي تجاه عمل المرأة. الخيال السوسيولوجي يكشف أن "المرونة" التي يتم الترويج لها هي في الحقيقة "هشاشة" وانعدام للأمان.

​أزمة الحميمية: الزواج والسكن كمعضلات اقتصادية

​ينتقل بنا الخيال السوسيولوجي من سوق العمل إلى أكثر المناطق خصوصية وحميمية: الزواج والبيت. في العالم العربي، الزواج ليس مجرد ارتباط عاطفي بين فردين، بل هو مؤسسة اقتصادية واجتماعية بالغة التعقيد تتطلب "رأسمال" كبير للدخول فيها. لقد تحول الزواج والسكن من مراحل طبيعية في دورة الحياة إلى "امتيازات طبقة" يصعب الوصول إليها، مما خلق أزمة اجتماعية عميقة.

​اقتصاديات الزواج: تكلفة الحب

​ارتفاع تكاليف الزواج تحول إلى حاجز بنيوي يمنع الشباب من تحقيق الاستقرار العاطفي. تشير البيانات والتقارير الميدانية إلى أن تكاليف الزواج في دول مثل مصر والأردن أصبحت فلكية مقارنة بمتوسط الدخل، مما يجعل "الحب" مشروعًا اقتصاديًا عالي المخاطر.

​مصر: الزواج في زمن التعويم

​في مصر، ومع الأزمات الاقتصادية المتتالية وتعويم العملة وارتفاع معدلات التضخم في 2023 و2024، تضاعفت تكاليف تأسيس بيت الزوجية. يتطلب الزواج التقليدي توفير شقة (تمليك أو إيجار جديد بمقدمات باهظة)، ومهر، و"شبكة" ذهبية (التي ارتفع سعرها لارتباط الذهب بالدولار)، وتأثيث كامل للمنزل بالأجهزة الكهربائية المستوردة أو المجمعة محليًا بأسعار عالمية.

  • ​تشير تقديرات غير رسمية وتقارير صحفية إلى أن متوسط تكلفة الزواج للطبقة المتوسطة الدنيا قد يتجاوز 500 ألف إلى مليون جنيه مصري (حوالي 10,000 - 20,000 دولار أمريكي بأسعار الصرف المتذبذبة)، وهو مبلغ خيالي لشاب يتقاضى حدًا أدنى للأجور أو متوسطًا لا يتجاوز بضعة آلاف من الجنيهات شهريًا.
  • القضية العامة: هذا الارتفاع ليس مجرد "جشع تجار"، بل هو نتاج لسياسات نقدية، تضخم عالمي، وثقافة استهلاكية تفرض معايير باذخة للزواج كنوع من الوجاهة الاجتماعية (Social Prestige) في مجتمع تتآكل فيه الطبقة الوسطى.

​الأردن: المهر كحاجز

​في الأردن، الوضع لا يقل صعوبة. تشير دراسات إلى أن متوسط تكلفة الزواج يبلغ حوالي 14,000 دينار أردني (حوالي 20,000 دولار)، في حين أن متوسط الرواتب يدور حول 500 دينار شهريًا.

  • التحليل: هذا يعني أن الشاب يحتاج لتخزين راتبه بالكامل (دون أن يأكل أو يشرب) لأكثر من عامين ونصف، أو في الواقع لسنوات طويلة جداً مع الادخار الجزئي، ليتمكن من الزواج. هذا الواقع يدفع الشباب للاستدانة من البنوك، ليبدأوا حياتهم الزوجية مكبلين بالديون، مما يزيد من احتمالات الطلاق المبكر بسبب الضغوط المالية.

الربط السوسيولوجي:

  • المتاعب الشخصية: تتجلى في الخلافات العائلية الحادة حول "قائمة المنقولات"، فسخ الخطوبات بسبب العجز عن شراء الذهب، شعور الشباب بالعجز والمهانة، ولجوء البعض للزواج العرفي أو السري للالتفاف على التكاليف.
  • القضايا العامة: تضخم أسعار الأصول، غياب سياسات إسكان تعاوني حقيقية للشباب، وتحول الزواج إلى وسيلة للحراك الاجتماعي أو التأمين الاقتصادي للفتيات في ظل غياب الأمان الاجتماعي العام.

​أزمة السكن: الحق في المدينة أم الحق في الربح؟

​ترتبط أزمة الزواج عضويًا بأزمة السكن. في العديد من المدن العربية الكبرى (القاهرة، دبي، الرياض، عمان)، تحول السكن من حق إنساني أساسي إلى سلعة مضاربة (Speculative Asset).

  • الخليج (دبي والرياض): شهدت أسعار العقارات والإيجارات ارتفاعات جنونية. في الرياض، ارتفعت أسعار المنازل بنسبة 81% والشقق بنسبة 56% منذ عام 2020. في دبي، ارتفعت الإيجارات في بعض المناطق بأكثر من 20-30% في عام واحد. هذا يدفع الطبقة الوسطى والشباب إلى أطراف المدن البعيدة، مما يزيد من تكلفة النقل والوقت الضائع (مما يساهم في الاحتراق النفسي/Burnout)، ويقلل من جودة الحياة.
  • العشوائيات (Informal Settlements): في المقابل، يضطر الفقراء في مدن مثل القاهرة للعيش في مناطق عشوائية. الخيال السوسيولوجي يرى في "العشوائيات" ليس مجرد مبانٍ مخالفة للقانون بناها أفراد "مخالفون"، بل استجابة شعبية عقلانية لفشل الدولة في التخطيط العمراني وتوفير السكن الاجتماعي بأسعار معقولة. إنها حلول الفقراء لقضية عامة تجاهلتها السياسات الرسمية.

​إعادة تعريف "العنوسة" وتأخر سن الزواج

​يستخدم المجتمع والإعلام مصطلحات وصمية مثل "العنوسة" لوصف النساء (وبدرجة أقل الرجال) الذين تأخروا في الزواج. الخيال السوسيولوجي يرفض هذا الوصم الأخلاقي رفضًا قاطعًا. تشير الإحصاءات الديموغرافية إلى ارتفاع متوسط سن الزواج في جميع الدول العربية (وصل إلى ما فوق 30 عامًا للذكور والإناث في العديد من الدول مثل تونس والإمارات).

​هذا التأخر الجماعي ليس ناتجًا عن "دلع" الفتيات أو "طيش" الشباب كما يروج الخطاب الوعظي، بل هو نتيجة حتمية لـ:

  1. ​طول فترة التعليم (خاصة للإناث).
  2. ​صعوبة الدخول إلى سوق العمل (كما ناقشنا سابقًا).
  3. ​أزمة الإسكان وتكاليف التأسيس. لذا، فإن تأخر الزواج هو "تكيف ديموغرافي" قسري مع ظروف اقتصادية وبنائية قاهرة، وليس انحرافًا سلوكيًا يستوجب الوعظ الديني أو الضغط الاجتماعي. إنه استجابة عقلانية لواقع غير عقلاني.

​أزمة الذات والجسد: الصحة النفسية والجسدية في عصر النيوليبرالية

​لا يتوقف الخيال السوسيولوجي عند حدود الاقتصاد والاجتماع، بل يغوص في أعماق النفس والجسد، ليكشف كيف تشكل القوى الاجتماعية صحتنا النفسية وأجسادنا البيولوجية.

​الاكتئاب والقلق: "تسييس" الصحة النفسية

​تشير دراسات عديدة إلى ارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق في العالم العربي، ليس فقط في مناطق النزاعات، بل في المجتمعات المستقرة أيضًا. في ظل النموذج الطبي النفسي السائد، يتم التعامل مع الاكتئاب كخلل في النواقل العصبية يتطلب علاجًا دوائيًا أو سلوكيًا فرديًا.

لكن الخيال السوسيولوجي يطرح سؤالاً مختلفًا: ماذا لو كان الاكتئاب استجابة طبيعية لظروف غير طبيعية؟ عندما يعاني مجتمع بأكمله من انعدام الأمان الاقتصادي، ومن القمع السياسي، ومن فقدان الأمل في المستقبل، فإن "الحزن" يتحول من حالة مرضية فردية إلى حالة "حداد اجتماعي".

  • لوم الذات (Self-Blame): في ظل الثقافة النيوليبرالية التي تحمل الفرد مسؤولية نجاحه وفشله، يميل الأفراد (خاصة من الطبقات الأقل حظًا) إلى لوم أنفسهم على فقرهم أو تعاستهم. هذا اللوم الداخلي هو وقود الاكتئاب. الخيال السوسيولوجي يتدخل هنا لكسر حلقة اللوم، موضحًا أن "فشلك" هو في الحقيقة نتاج هيكلية غير عادلة، مما يخفف العبء النفسي عن كاهل الفرد.

​السمنة و"الصحاري الغذائية": الجسد كساحة للصراع

​يمكن تطبيق الخيال السوسيولوجي ببراعة على قضايا صحية مثل السمنة، التي يُنظر إليها غالبًا كقضية انضباط شخصي ("أنت تأكل كثيرًا ولا تتحرك").

  • الخيال السوسيولوجي يرى الصورة الأكبر:
    1. الصحاري الغذائية (Food Deserts): وهي مناطق (موجودة في مدننا العربية وخاصة الأحياء الفقيرة) يسهل فيها الوصول للوجبات السريعة الرخيصة والمشبعة بالدهون والسكريات، بينما يصعب فيها العثور على خضروات وفواكه طازجة بأسعار معقولة.

    1. سياسات الدعم: في بعض الدول، تدعم الحكومات الخبز والسكر والزيت، بينما لا تدعم الأغذية الصحية، مما يجعل النظام الغذائي غير الصحي هو الخيار الاقتصادي الوحيد للفقراء.

    1. تصميم المدن: مدننا العربية الحديثة صممت للسيارات، تفتقر للأرصفة الآمنة والحدائق العامة المجانية، مما يجعل ممارسة الرياضة "رفاهية" تتطلب اشتراكًا في نادٍ رياضي (Gym)، وليس جزءًا من الحياة اليومية. إذن، السمنة هي "وباء صناعي" وهيكلي بقدر ما هي خيار فردي، ومحاربتها تتطلب تغيير سياسات التخطيط العمراني والزراعي، وليس فقط نصائح الحمية.

​نحو الممارسة: كيف نمتلك الخيال السوسيولوجي في حياتنا اليومية؟

​كيف يمكننا، كأفراد عاديين، أن نطبق هذا المفهوم المعقد في حياتنا اليومية؟ لا يتطلب الأمر أن نكون باحثين أكاديميين، بل يتطلب تدريبًا واعيًا على تغيير "زاوية النظر".

​تمارين عملية لتنمية الخيال السوسيولوجي

​الجدول التالي يقدم دليلاً عمليًا لإعادة صياغة مشاكلنا اليومية باستخدام عدسة الخيال السوسيولوجي، محولين الإحباط السلبي إلى فهم إيجابي:

المشكلة / الموقف التفسير الفردي المعتاد (الفخ) التفسير بالخيال السوسيولوجي (التحرر) رد الفعل والتصرف الناتج
فقدان الوظيفة "أنا فاشل، مديري يكرهني، حظي سيء دائماً." "الاقتصاد يمر بركود هيكلي، التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي يعيدان تشكيل سوق العمل، الشركات تقلص العمالة لتعظيم أرباح المساهمين." بدلاً من الاكتئاب ولوم الذات، أبحث عن تكتلات مهنية، أفهم اتجاهات السوق الكلية، وأعيد التدريب بوعي، مع الانضمام لمطالبات بحقوق العاطلين.
الطلاق / الانفصال "نحن غير متفاهمين، شريكي أناني ولا يطاق." "ضغوط العمل المفرطة (ساعات طويلة) دمرت وقتنا المشترك، تغير الأدوار الجندرية خلق توترًا في التوقعات التقليدية بين الزوجين، الأعباء المالية تزيد التوتر." فهم الضغوط الخارجية قد يسهل الحوار العقلاني لإنقاذ العلاقة، أو يجعل الانفصال أقل مرارة ولومًا للذات، مع إدراك أننا ضحايا تحولات اجتماعية.
الشعور بالعزلة "أنا انطوائي، الناس تغيروا وأصبحوا سيئين." "تصميم المدن الحديثة والكونباوندات يعزل الجيران، نمط العمل الفردي ووسائل التواصل استبدلت التواصل الحي، تراجع الفضاءات العامة." السعي الواعي والمقاوم لخلق مجتمعات صغيرة، الانضمام لنوادي قراءة أو جمعيات أهلية لكسر العزلة الهيكلية، واستعادة "الحق في المدينة".
الديون والقروض "أنا مسرف، لا أجيد إدارة مالي، أنا غبي." "النظام البنكي يسهل القروض الاستهلاكية لإغراق الناس في الديون لضمان تبعيتهم، التضخم يأكل قيمة الدخل الحقيقي، خصخصة الخدمات (تعليم/صحة) زادت الأعباء." التعامل بحذر شديد مع النظام المالي، عدم لوم الذات بقسوة، والمشاركة في حركات المستهلكين أو المطالبة سياسيًا بضبط الأسعار ودعم الخدمات العامة.
 

دور التعليم والإعلام: بناء المناعة المجتمعية

​لكي يتحول الخيال السوسيولوجي إلى ثقافة عامة، نحتاج إلى ثورة في مؤسستين:

  1. التعليم: يجب أن تتوقف مدارسنا وجامعاتنا عن تدريس التاريخ كمجرد سرد لأحداث الملوك والمعارك، والبدء بتدريس التاريخ الاجتماعي الذي يرى الطالب نفسه وعائلته فيه. يجب تعليم الطلاب كيف يقرأون الإحصاءات، كيف يفهمون موقعهم في الهرم الطبقي، وكيف تؤثر القرارات السياسية الكبرى على حياتهم اليومية وتفاصيل مائدتهم.
  1. الإعلام: الإعلام العربي، بشتى وسائله، مدعو للتخلي عن التغطية السطحية التي تركز على "قصص النجاح الفردية الاستثنائية" (التي توحي بأن أي شخص يمكنه أن يصبح مليونيراً إذا أراد) والبدء في تقديم "صحافة بيانات" و"صحافة تفسيرية" معمقة. نحتاج لصحافة تربط بين انتحار شاب يائس وبين موازنة الدولة العامة، بين جريمة عنف أسري وبين الضغوط الاقتصادية، لتكشف الخيوط الخفية التي تربط الخبر اليومي بالبنية الاجتماعية.

​خاتمة الوعد السوسيولوجي.. من "أنا" إلى "نحن"

​في الختام، إن تبني الخيال السوسيولوجي ليس مجرد تمرين فكري، بل هو فعل مقاومة أخلاقي وسياسي. إن القول بأن "مشاكلنا الشخصية هي قضايا عامة" لا يعني التنصل من المسؤولية الفردية أو لعب دور الضحية السلبية. على العكس، إنه يضع المسؤولية في مكانها الصحيح والفعال.

​عندما ندرك أننا لسنا وحدنا في معاناتنا، وأن آلامنا هي صدى لأوجاع الملايين غيرنا، يتحول اليأس الفردي المعزول إلى طاقة جماعية للتغيير. الخيال السوسيولوجي يمنحنا "العزاء" بأننا لسنا فاشلين كما يحاول النظام إقناعنا، ويمنحنا "السلاح" المعرفي لنفهم خصمنا الحقيقي (الفقر، الجهل، سوء التخطيط، الاستغلال، الاحتكار) بدلاً من محاربة ذواتنا وجلدها.

​كما قال سي رايت ميلز في وعده الشهير: "في أوقات كهذه، يجب على المرء أن يعرف كيف يحول المتاعب الشخصية إلى قضايا عامة، وهذه هي المهمة السياسية للمثقف، والمهمة الإنسانية لكل فرد حر". لن نتوقف عن الشعور بالألم، ولكننا، بفضل الخيال السوسيولوجي، سنفهم "معنى" هذا الألم ومصدره، وهذا الفهم هو الخطوة الأولى والضرورية نحو الشفاء، ونحو بناء مجتمع أكثر عدالة وإنسانية للجميع. 


تعليقات