الوضعية والتأويلية (Positivism vs Interpretivism): الدليل الشامل لمناهج البحث الاجتماعي
مقدمة: الانقسام العظيم في روح علم الاجتماع
منذ ولادة علم الاجتماع كعلم مستقل، وهو يعيش جدلًا فلسفيًا عميقًا. هذا الجدل لا يدور حول "ماذا" ندرس، بل حول "كيف" ندرس الظاهرة الإنسانية. هل يمكن دراسة المجتمع البشري المعقد بنفس الدقة المنهجية التي ندرس بها الكواكب أو الخلايا؟ أم أن الطبيعة الواعية والذاتية للإنسان تتطلب منهجًا مختلفًا جذريًا؟
هذا الانقسام هو جوهر المناظرة الكبرى بين الوضعية (Positivism) والتأويلية (Interpretivism).
تُعد هاتان المدرستان أكثر من مجرد "مناهج بحث"؛ إنهما "نظرتان للعالم" (Worldviews) مختلفتان تمامًا.
- الوضعية تسعى لاكتشاف "قوانين" موضوعية تحكم المجتمع، مستعيرة أدواتها من العلوم الطبيعية الصارمة.
- التأويلية تسعى "لفهم" المعاني الذاتية والتجارب الحية التي يشكل بها الأفراد عالمهم الاجتماعي.
في هذه المقالة، سنقدم شرحًا مفصلاً وتحليلاً مقارنًا لهذين التيارين الفكريين. سنتعمق في الجذور الفلسفية (الأنطولوجيا والإبستمولوجيا) لكل منهما، ونستعرض روادهما الأساسيين (من كونت ودوركايم إلى فيبر)، ونحلل الفروق الجوهرية في الأهداف، والأدوات البحثية، والمصطلحات الأساسية، لنقدم للباحث الاجتماعي دليلاً واضحًا لاختيار المنهج الأنسب لسؤاله البحثي.
![]() |
| الوضعية والتأويليّة: مقارنة بين المنهجين في البحث الاجتماعي. |
1. الوضعية (Positivism): البحث عن "قوانين" المجتمع
1.1. الجذور الفلسفية والمفهوم العام
الوضعية (Positivism) هي منهجية بحثية تؤمن بأن الواقع الاجتماعي "موضوعي" و"خارجي"، ويمكن دراسته بشكل علمي ومحايد، تمامًا كما يدرس عالم الفيزياء الذرات.
- الجذور التاريخية: نشأت الوضعية في القرن التاسع عشر على يد الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت (Auguste Comte)، الذي يُعتبر "أب علم الاجتماع". أراد كونت إنشاء "فيزياء اجتماعية" (Social Physics) تستخدم نفس مناهج العلوم الطبيعية الناجحة (كالملاحظة، التجربة، والمقارنة) لاكتشاف "قوانين ثابتة" تحكم التطور الاجتماعي.
- الرائد السوسيولوجي: كان إميل دوركايم (Émile Durkheim) هو من رسّخ الوضعية كمنهج أساسي في علم الاجتماع. قاعدته المنهجية الشهيرة هي: "يجب دراسة الحقائق الاجتماعية كأشياء" (Social facts as things).
- ما هي الحقائق الاجتماعية؟ هي "أشياء" خارجية عن الفرد وتفرض نفسها عليه، مثل القوانين، والأعراف، واللغة، والدين. هي موجودة قبل أن نولد وتستمر بعدنا.
1.2. الافتراضات الفلسفية (الأنطولوجيا والإبستمولوجيا)
لفهم الوضعية بعمق، يجب فهم افتراضاتها الأساسية:
- الأنطولوجيا (Ontology - ما هو الواقع؟): الواقعية (Realism). تؤمن الوضعية بوجود "واقع اجتماعي حقيقي" (A real social reality) مستقل عن وعي الأفراد. معدلات الفقر أو الجريمة هي "حقائق" موضوعية، وليست مجرد تصورات ذهنية.
- الإبستمولوجيا (Epistemology - كيف نعرف الواقع؟): الموضوعية (Objectivism). يمكن للباحث (ويجب عليه) أن يكون مراقبًا محايدًا ومنفصلاً عن الظاهرة التي يدرسها. الهدف هو "قياس" هذا الواقع دون التأثير فيه أو التأثر به.
1.3. العلاقة بين الفرد والمجتمع
في النموذج الوضعي، المجتمع يشكل الفرد (Structure over Agency).
يُنظر إلى الأفراد كحصيلة للبنى الاجتماعية الكبرى. سلوكك وتفكيرك هما نتاج لعملية "التنشئة الاجتماعية" التي غرست فيك قيم المجتمع وأعرافه. لذلك، لفهم سلوك الأفراد (مثل الانتحار، كما فعل دوركايم)، لا ننظر إلى دوافعهم النفسية، بل ننظر إلى "الحقائق الاجتماعية" المحيطة بهم (مثل درجة التكامل الاجتماعي أو التضامن الديني).
1.4. أهداف البحث في الوضعية
- الوصف والقياس: وصف الظواهر الاجتماعية كميًا (مثل: "كم عدد...؟" أو "ما هي نسبة...؟").
- اكتشاف الارتباطات والسببية: البحث عن علاقات سببية (Cause and Effect) بين المتغيرات. (مثال: هل يؤدي ارتفاع معدل البطالة "X" إلى ارتفاع معدل الجريمة "Y"؟).
- التعميم (Generalization): الوصول إلى نتائج من "عينة" بحثية يمكن تعميمها على "مجتمع" أكبر.
- التنبؤ: بناء نظريات وقوانين تسمح بالتنبؤ بالسلوك الاجتماعي مستقبلاً.
1.5. الطرق والأدوات البحثية المفضلة (البحث الكمي)
لتحقيق الموضوعية والقياس، تفضل الوضعية الأساليب الكمية (Quantitative Methods):
- الإحصاءات الرسمية: تحليل البيانات الضخمة التي تجمعها الحكومات (مثل معدلات المواليد، الوفيات، الجريمة).
- الاستبيانات الاجتماعية (Surveys): استخدام أسئلة مغلقة وموحدة لجمع بيانات من عينة كبيرة.
- المقابلات المنظمة (Structured Interviews): طرح نفس الأسئلة بنفس الترتيب على جميع المستجيبين لضمان المقارنة الدقيقة.
- التجربة (Experiment): (شائعة أكثر في علم النفس) تصميم تجارب بمجموعات ضابطة وتجريبية لقياس أثر متغير واحد.
| الرسم البياني (إنفوجرافيك) يقدم مقارنة واضحة ومباشرة بين نوعين رئيسيين لتصميم البحث العلمي: البحث النوعي (Qualitative) والبحث الكمي (Quantitative). |
1.6. نقد المنهج الوضعي
رغم قوتها، تواجه الوضعية انتقادات شديدة:
- الاختزالية (Reductionism): تُتهم باختزال السلوك الإنساني المعقد إلى مجرد أرقام وإحصاءات، متجاهلة المعاني والدوافع.
- الحتمية (Determinism): تميل إلى رؤية الإنسان "كمسير" بالقوى الاجتماعية، متجاهلة "الإرادة الحرة" و"الفاعلية" (Agency) البشرية.
- تجاهل الذاتية: تفشل في الإجابة عن سؤال "لماذا؟" من منظور الفرد. هي تخبرنا أن "الفقراء" ينتحرون أكثر، لكنها لا تخبرنا "ماذا يعني" أن تكون فقيرًا ومحبطًا.
2. التأويلية (Interpretivism): البحث عن "معنى" الفعل
2.1. الجذور الفلسفية والمفهوم العام
التأويلية (Interpretivism) - وتعرف أيضًا بالبنائية الاجتماعية أو المنهج النوعي - هي رد فعل مباشر على قصور الوضعية. هي منهجية تؤمن بأن الواقع الاجتماعي "ذاتي" و"مبني اجتماعيًا"، ولا يمكن فهمه إلا من خلال "تأويل" المعاني التي يمنحها الأفراد لتصرفاتهم.
- الجذور التاريخية: ترتبط هذه المدرسة ارتباطًا وثيقًا بعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (Max Weber).
- مفهوم "الفهم" (Verstehen): صاغ فيبر مصطلح "Verstehen" (يُنطق: فير-شتيهن)، ويعني "الفهم العميق" أو "التفهم المتعاطف". جادل فيبر بأن علم الاجتماع لا يجب أن يكتفي بالملاحظة الخارجية (كما يفعل الوضعيون)، بل يجب أن يحاول "وضع نفسه مكان" الفاعل الاجتماعي ليفهم العالم من منظورهم هم.
- المدارس اللاحقة: تطورت هذه الفكرة في مدارس مثل "التفاعلية الرمزية" (Symbolic Interactionism) التي ترى أن المجتمع يُبنى ويُعاد بناؤه باستمرار من خلال "التفاعلات" اليومية بين الأفراد.
2.2. الافتراضات الفلسفية (الأنطولوجيا والإبستمولوجيا)
- الأنطولوجيا (ما هو الواقع؟): البنائية/النسبية (Constructivism/Relativism). الواقع الاجتماعي "غير موجود" بشكل مستقل، بل هو "نتاج" للتفاعلات والمعاني المشتركة بين الأفراد. "الأسرة" أو "المال" أو "الجريمة" هي مفاهيم لا معنى لها خارج التفسير البشري المشترك لها.
- الإبستمولوجيا (كيف نعرف الواقع؟): الذاتية (Subjectivism). لا يمكن للباحث أن يكون "محايدًا". الفهم يتطلب "التفاعل" و"الانغماس" (Immersion) في عالم المستجيبين. الباحث هو الأداة الرئيسية للبحث، وعلاقته بالمبحوثين هي جزء لا يتجزأ من عملية الفهم.
2.3. العلاقة بين الفرد والمجتمع
في النموذج التأويلي، الفرد (بأفعاله ومعانيه) هو الذي يبني المجتمع (Agency over Structure).
الأفراد ليسوا "دمى" تحركها البنى الاجتماعية. إنهم "فاعلون" (Actors) واعون، يمتلكون أفكارًا وتجارب فردية، ويتصرفون بناءً على تفسيرهم الخاص للسياق الاجتماعي. المجتمع هو "شبكة من المعاني" (Web of Meanings) يغزلها الأفراد بتفاعلاتهم.
2.4. أهداف البحث في التأويلية
- الفهم العميق (Verstehen): الهدف ليس "القياس" بل "الفهم" العميق لتجارب فردية أو جماعية.
- استكشاف المعاني الذاتية: الكشف عن كيف يفسر الأفراد عالمهم، وما هي الدوافع الكامنة وراء سلوكهم.
- الوصف المفصل والغني (Thick Description): تقديم وصف "كثيف" ودقيق للسياق الاجتماعي والثقافي للحالة المدروسة، وليس مجرد أرقام.
- توليد النظريات (Grounded Theory): بدلاً من "اختبار" نظريات موجودة مسبقًا، يسعى البحث التأويلي غالبًا إلى "بناء" نظرية جديدة تنبثق مباشرة من البيانات (من الواقع).
2.5. الطرق والأدوات البحثية المفضلة (البحث النوعي)
لتحقيق الفهم العميق، تفضل التأويلية الأساليب النوعية (Qualitative Methods):
- المقابلات غير المنظمة (Unstructured Interviews): حوارات مفتوحة وعميقة تسمح للمستجيب بالحديث بحرية عن تجاربه، مما يكشف عن رؤى غير متوقعة.
- الملاحظة بالمشاركة (Participant Observation): ينغمس الباحث في حياة الجماعة التي يدرسها (يعيش معهم، يعمل معهم) لفهم ثقافتهم وسلوكهم "من الداخل".
- تحليل الوثائق الشخصية: دراسة اليوميات، الرسائل، والسير الذاتية لفهم التجارب الفردية.
- مجموعات التركيز (Focus Groups): نقاشات جماعية موجهة للكشف عن كيفية تشكل الآراء والمعايير الاجتماعية بشكل جماعي.
1.6. نقد المنهج التأويلي
رغم عمقه، يواجه المنهج التأويلي انتقادات أيضًا:
- الذاتية المفرطة: يُتهم بأنه "غير علمي" ويعتمد بشكل كبير على التفسيرات "الشخصية" للباحث، مما يفتح الباب للتحيز.
- صعوبة التعميم: النتائج غالبًا ما تكون خاصة بسياق صغير جدًا (دراسة حالة واحدة أو بضع أفراد)، ولا يمكن تعميمها على المجتمع ككل.
- استهلاك الوقت والجهد: يتطلب جمع البيانات النوعية وتحليلها وقتًا طويلاً جدًا (أشهر أو سنوات) مقارنة بالاستبيان.
3. المقارنة الحاسمة: الوضعية مقابل التأويلية
لفهم الفروق بوضوح، هذا جدول مقارنة مباشر:
4. تطبيقات عملية: كيف تختار المنهج المناسب؟
الاختيار بين الوضعية والتأويلية ليس مسألة "صواب أو خطأ"، بل مسألة "ملائمة" (Fit) لسؤالك البحثي.
4.1. متى تختار المنهج الوضعي (الكمي)؟
اختر الوضعية إذا كان بحثك يهدف إلى:
- اختبار فرضية محددة: (مثال: "نفترض أن الطلاب الذين يحضرون المحاضرات يحصلون على درجات أعلى").
- قياس حجم ظاهرة: (مثال: "ما هي نسبة انتشار التنمر في المدارس الإعدادية؟").
- تحديد علاقات سببية أو ارتباطية: (مثال: "هل يوجد ارتباط بين عدد ساعات استخدام السوشيال ميديا ومستويات الاكتئاب؟").
- مثال بحثي: دراسة دوركايم عن "الانتحار". لم يسأل "لماذا" الأفراد مكتئبون، بل بحث في "معدلات" الانتحار (بيانات كمية) ووجد ارتباطًا "قانونيًا" بينها وبين "مستوى" التكامل الاجتماعي (حقيقة اجتماعية).
4.2. متى تختار المنهج التأويلي (النوعي)؟
اختر التأويلية إذا كان بحثك يهدف إلى:
- استكشاف ظاهرة جديدة أو غير مفهومة: (مثال: "كيف يختبر المهاجرون الجدد تجربة "الصدمة الثقافية"؟").
- فهم "العمليات" و"السياقات": (مثال: "كيف تتخذ الأسر قراراتها بشأن تعليم أبنائها؟").
- فهم المعاني والدوافع العميقة: (مثال: "ماذا يعني "النجاح" بالنسبة لرواد الأعمال الشباب؟").
- مثال بحثي: دراسة "هوارث" (Howarth) حول تجربة سكان منطقة "بريكستون" في لندن. بدلاً من قياس معدلات الجريمة (وضعي)، استخدمت المقابلات (تأويلي) لتفهم "كيف" يشعر السكان بـ "وصمة العار" (Stigma) التي يطلقها الإعلام على منطقتهم وكيف يقاومونها.
5. ما بعد الانقسام: أهمية المنهج المختلط (Mixed Methods)
في العقود الأخيرة، أدرك الباحثون أن التمسك بأحد المنهجين فقط يقدم صورة "ناقصة" للواقع الاجتماعي. الوضعية تعطينا "الهيكل العظمي" (الأرقام والإحصاءات)، بينما التأويلية تعطينا "اللحم والدم" (المعاني والتجارب).
هنا يبرز المنهج المختلط (Mixed Methods Research)، الذي يجمع بين قوة الاثنين للحصول على فهم شامل.
- لماذا الجمع؟ للحصول على "الصورة الكاملة".
- كيف؟ يمكن للباحث أن يبدأ بمنهج ثم يتبعه بالآخر (التثليث Triangulation).
-
مثال عملي:
- المرحلة 1 (وضعي/كمي): يقوم الباحث بإجراء "استبيان" على 500 موظف لاكتشاف "معدل" الرضا الوظيفي، ويجد أن 70% غير راضين. (هذا يخبرنا "ماذا" يحدث).
- المرحلة 2 (تأويلي/نوعي): يقوم الباحث بعد ذلك بإجراء "مقابلات عميقة" مع 20 موظفًا من هؤلاء الـ 70% لفهم "أسباب" عدم رضاهم. (هذا يخبرنا "لماذا" يحدث).
باستخدام المنهج المختلط، لا يحصل الباحث على مجرد رقم (70%)، بل يحصل على فهم عميق للمعاني الكامنة وراء هذا الرقم (مثل: الشعور بعدم التقدير، سوء الإدارة، ضعف الرواتب).
خاتمة: الوضعية والتأويلية كـ "صندوق أدوات" الباحث
في نهاية المطاف، فإن المناظرة بين الوضعية والتأويلية ليست معركة يجب أن يفوز بها طرف. كلاهما أدوات لا غنى عنها في "صندوق أدوات" الباحث الاجتماعي.
- الوضعية تمنحنا الدقة، والقدرة على التعميم، ورؤية "الصورة الكبيرة" (Macro).
- التأويلية تمنحنا العمق، وفهم السياق، ورؤية "التجربة الحية" (Micro).
الباحث الماهر ليس من يختار "فريقًا" وينضم إليه، بل هو من يفهم "سؤاله البحثي" جيدًا، ثم يختار الأداة الفلسفية والمنهجية الأنسب للإجابة عليه، حتى لو تطلب ذلك استخدام المنهجين معًا.
.webp)