📁 آخر الأخبار

البحث العلمي بنماذجه الأساسية: تحليل سوسيولوجي لنماذج المعرفة (الوضعي، التأويلي، والنقدي)

البحث العلمي بنماذجه الأساسية: تحليل سوسيولوجي لنماذج المعرفة (الوضعي، التأويلي، والنقدي)

مقدمة: أزمة اليقين وضرورة "مقدمة المقدمات"

​في عالم اليوم، الغارق في "أزمة يقين" (Crisis of Certainty)، لم يعد السؤال "ماذا نعرف؟" هو السؤال الوحيد، بل أصبح السؤال الأهم هو: "كيف نعرف ما نعرفه؟". هذه هي "مقدمة المقدمات" الحقيقية لأي بحث علمي، خاصة في البحوث التربوية والاجتماعية، وهو المجال الذي يتعامل مع الظاهرة الأكثر تعقيداً على الإطلاق: الإنسان.

​إن دراسة المجتمع والسلوك البشري ليست كدراسة حركة الكواكب أو التفاعلات الكيميائية. علم الاجتماع والعلوم الإنسانية واجهت تاريخياً "قصوراً" عند محاولتها "تقليد" علوم الطبيعة بشكل أعمى. من هذا القصور، ولدت "نزاعات" فلسفية عميقة حول طبيعة الحقيقة، وأدوات الوصول إليها.

​يطرح هذا المقال، المستلهم من الإشكاليات العميقة في فلسفة العلم، تحليلاً للمشكلاتيات الكبرى في البحث العلمي. سنقوم بتفكيك نماذج البحث الإرشادية الأساسية الكبرى التي تحكم كيفية رؤيتنا للعالم:

  1. نموذج البحث الوضعي - التحليلي (Positivist-Analytical)
  2. نموذج البحث التأويلي - التفسيري (Interpretive-Hermeneutic)
  3. نموذج البحث النقدي (Critical)

​سنستعرض "خلفياتها الفلسفية"، ونحلل "النزاعات الحديثة القائمة بينها" (خاصة الصراع التقليدي بين "الكمي" و "الكيفي")، لنصل في النهاية إلى طرح "وحدة العلم في منظورات جديدة"، وهي وحدة لا تقوم على التقليد، بل على التكامل الأخلاقي والديمقراطي.

البحث العلمي بنماذجه الأساسية مقدمة المقدمات للبحوث التربوية والاجتماعية
البحث العلمي بنماذجه الأساسية مقدمة المقدمات للبحوث التربوية والاجتماعية

​1. ما هو "نموذج البحث" (Paradigm)؟ الخريطة الفلسفية للباحث

​قبل الغوص في النماذج، يجب أن نحدد ما هو "النموذج" أو "البارادايم". كما أوضح فيلسوف العلم توماس كون، النموذج ليس مجرد "نظرية"، بل هو "نظارة" كاملة يرتديها الباحث ليرى العالم. إنه مجموعة من المعتقدات الفلسفية الأساسية التي تجيب على أسئلة مصيرية:

  • سؤال الوجود (Ontology): ما هي "طبيعة الواقع"؟ هل هو "حقيقة" موضوعية واحدة صلبة خارجنا؟ أم هو "بناء" ذاتي واجتماعي متعدد؟
  • سؤال المعرفة (Epistemology): ما هي "علاقة الباحث بالواقع"؟ هل يمكننا "اكتشاف" الحقيقة بموضوعية تامة؟ أم أننا "نشارك" في صنعها وتأويلها؟
  • سؤال المنهج (Methodology): ما هي "الأدوات" التي نستخدمها؟ هل هي "الأرقام" والإحصاءات؟ أم "الكلمات" والمقابلات؟

​الإجابة على هذه الأسئلة هي التي تضع الباحث في أحد النماذج الكبرى التالية.

​2. النموذج الأول: الوضعي - التحليلي (Positivist-Analytical Model)

​هذا هو النموذج الذي هيمن على الفكر العلمي لقرون، وهو ما يُشار إليه أحياناً بـ "نموذج البحث الأميركي - التحليلي" نظراً لسيطرته الأكاديمية.

  • الفلسفة (الخلفية): وُلد من رحم "عصر التنوير" وأعمال أوغست كونت. يؤمن بأن العالم الاجتماعي، مثله مثل العالم الطبيعي، تحكمه "قوانين" (Laws) عامة، موضوعية، وثابتة.
  • سؤال الوجود (Ontology): الواقع "حقيقي" و "موضوعي" (Objective). الحقيقة واحدة ومستقلة عن الباحث.
  • سؤال المعرفة (Epistemology): يمكن "اكتشاف" هذه الحقيقة بموضوعية تامة. الباحث هو "مراقب" حيادي ومنفصل، يجب أن يتجرد من قيمه وعواطفه.
  • سؤال المنهج (Methodology): البحث الكمي (Quantitative).
    • ​الأدوات: التجارب (Experiments)، الاستبيانات (Surveys)، الإحصاء، والقياس.
    • ​الهدف: "التفسير" (Explanation)، "التنبؤ" (Prediction)، و "التحكم" (Control) بالظواهر.

نقد النموذج الوضعي:

هنا يكمن "قصور تقليد علوم الطبيعة" الذي أشار إليه النص. عندما نطبق هذا النموذج على البشر، فإننا نخاطر بـ "اختزالهم" (Reductionism) إلى مجرد "أرقام" أو "متغيرات" (Variables). هذا النموذج بارع في الإجابة عن "كم" (How many) و "ماذا" (What)، لكنه يفشل تماماً في الإجابة عن "لماذا" (Why) و "كيف" (How) من منظور "المعنى" الإنساني.

​3. النموذج الثاني: التأويلي - التفسيري (Interpretive-Hermeneutic Model)

​كرد فعل مباشر على "برودة" النموذج الوضعي، ظهر النموذج التأويلي، الذي يرى أن "الظاهرة الإنسانية" تختلف نوعياً عن "الظاهرة الطبيعية".

  • الفلسفة (الخلفية): مستمد من الفلسفة الألمانية (ديلثي، وفيبر)، وعلم الظاهراتية (Phenomenology) والهرمنيوطيقا (فن التأويل).
  • سؤال الوجود (Ontology): الواقع "ذاتي" (Subjective) و "مبني اجتماعياً" (Socially Constructed). الحقيقة ليست "واحدة" صلبة، بل هي "حقائق" متعددة تتشكل عبر "المعاني" التي يمنحها الأفراد لتجاربهم.
  • سؤال المعرفة (Epistemology): لا يمكن "فصل" الباحث عن موضوع بحثه. الباحث هو "مشارك" (Participant)، وظيفته هي "الفهم" (Verstehen) العميق لوجهة نظر المشاركين من الداخل.
  • سؤال المنهج (Methodology): البحث الكيفي (Qualitative).
    • ​الأدوات: المقابلات المعمقة، الملاحظة بالمشاركة، تحليل الخطاب.
    • ​الهدف: "الفهم" (Understanding) و "التأويل" (Interpretation) للمعاني والتجارب.

نقد النموذج التأويلي:

رغم عمقه في فهم "المعنى"، يُنتقد هذا النموذج بأنه قد يغرق في "الذاتية" المفرطة. هو يصف العالم كما "يراه" الأفراد، لكنه قد يفشل في "نقد" هذا العالم أو "تغييره". هو يفسر "لماذا" يشعر الفقير بالظلم، لكنه قد لا يتطرق إلى "البنى" الاقتصادية التي أنتجت هذا الفقر.

​4. النموذج الثالث: النقدي (The Critical Model)

​هنا يأتي النموذج الثالث ليقول إن البحث ليس مجرد "وصف" للواقع (كما يفعل الوضعي) أو "فهم" له (كما يفعل التأويلي)، بل هو أداة "لتغيير" هذا الواقع.

  • الفلسفة (الخلفية): متجذر بعمق في مدرسة فرانكفورت (أدورنو، هوركهايمر)، والماركسية، والنظريات النسوية، وما بعد الاستعمارية.
  • سؤال الوجود (Ontology): الواقع "حقيقي"، لكنه ليس "محايداً". إنه "واقع تاريخي" (Historical Reality) شكلته "علاقات القوة" و "الصراع" و "الأيديولوجيا".
  • سؤال المعرفة (Epistemology): المعرفة "ليست محايدة" أبداً، بل هي "أداة" إما "للهيمنة" (Status Quo) أو "للتحرر" (Emancipation). الباحث "ليس محايداً"، بل هو "ملتزم" بقضايا العدالة الاجتماعية.
  • سؤال المنهج (Methodology): البحث التشاركي والنقدي.
    • ​الأدوات: البحث الإجرائي التشاركي (PAR)، النقد الأيديولوجي، تحليل الخطاب النقدي.
    • ​الهدف: "النقد" (Critique)، "التحرر" (Emancipation)، و "تمكين" (Empowerment) الفئات المهمشة.
    • ​هذا يتصل مباشرة بأفكار مفكرين مثل آلان تورين (منهج التدخل السوسيولوجي) و إريك أولين رايت (اليوتوبيا الواقعية كبحث عن بدائل).

​5. "النزاعات الحديثة" وكيفية التوفيق: نحو "وحدة العلم"

​"النزاعات" التي أشار إليها النص هي "حروب النماذج" (Paradigm Wars) التي استمرت لعقود:

  • ​الصراع بين "الكمي" (الوضعي) و "الكيفي" (التأويلي).
  • ​اتهام "الكمي" بأنه "سطحي" و "لا إنساني".
  • ​اتهام "الكيفي" بأنه "غير علمي" و "انطباعي".
  • ​اتهام النموذج "النقدي" بأنه "مُسيّس" (Ideological) وليس "علمياً".

التوفيق و "وحدة العلم" لا يعنيان فرض نموذج واحد على الجميع، بل الاعتراف بأن كل نموذج "مفيد" لكنه "غير كافٍ" بمفرده. هنا تبرز أهمية البحث المختلط (Mixed Methods Research) كحل "براغماتي" يتجاوز الصراع الفلسفي.

​لنفهم ظاهرة "التسرب المدرسي" (مثال في البحث التربوي):

  1. ​نحتاج النموذج الوضعي (الكمي): لمعرفة "نسب" التسرب، "ارتباطها" بالطبقة الاجتماعية، والدخل (الإحصاءات).
  2. ​نحتاج النموذج التأويلي (الكيفي): لإجراء "مقابلات" مع الطلاب المتسربين وأسرهم لفهم "معنى" هذه التجربة، وقصصهم، وتصوراتهم.
  3. ​نحتاج النموذج النقدي: لتحليل "كيف" تساهم "السياسات التعليمية" نفسها، أو "البنية الطبقية" للمجتمع، في إعادة إنتاج هذه الظاهرة، وكيف يمكن "تغيير" هذا الواقع.

​"وحدة العلم" هنا هي "تكامل" الأدوات لرؤية الصورة كاملة: "الحقائق" الموضوعية، و "المعاني" الذاتية، و "بنى القوة" الخفية.

​6. خاتمة: الأخلاق والديمقراطية كبوصلة للبحث الحديث

​إن "أزمة اليقين" التي نعيشها ليست أزمة "أدوات" قياس، بل هي أزمة "قيم" و "أسئلة جديدة". وكما يشير النص الأصلي، فإن البحث العلمي الحقيقي يجب أن يبرز "أهمية الاعتبارات الأخلاقية" ويصبح "محور و مرجع في الحياة الديمقراطية التشاكرية".

  • الأخلاق أولاً: البحث ليس "محايداً" عندما يتجاهل "الآثار" المترتبة على المشاركين. قضايا السرية، والموافقة المستنيرة، وعدم الإضرار، هي جوهر البحث الحديث.
  • البحث الديمقراطي التشاركي: نحن ننتقل من "البحث عن الناس" (Research on people) إلى "البحث مع الناس" (Research with people). الباحث الحديث، خاصة في علم الاجتماع، ليس "خبيراً" متعالياً، بل هو "مُيسِّر" (Facilitator) يساعد المجتمعات على "فهم" و "حل" مشكلاتها بنفسها (كما في نموذج آلان تورين).

​في الختام، البحث العلمي بنماذجه الأساسية ليس مجرد تقنيات جامدة، بل هو "رحلة" فلسفية وأخلاقية. الباحث الاجتماعي أو التربوي الحديث ليس مجرد "جامع بيانات"، بل هو "مفكر" و "ناقد" و "مشارك" في بناء مجتمع أكثر عدلاً وفهماً، مسلحاً بتكامل "الكم" و "الكيف"، وموجهاً ببوصلة "الأخلاق" و "الديمقراطية"

تحميل الكتاب / المرجع

للاطلاع على المرجع الأصلي الذي يناقش هذه النماذج بعمق، يمكنك تحميل "البحث العلمي بنماذجه الأساسية" بصيغة PDF.

تعليقات