📁 آخر الأخبار

تحميل كتاب "الحداثة المتجددة" لألان تورين: عودة الذات الإنسانية في عصر الحداثة الفائقة

تحميل كتاب "الحداثة المتجددة" لألان تورين: عودة الذات الإنسانية في عصر الحداثة الفائقة

​مقدمة: لماذا "الحداثة المتجددة" هو أهم كتب ألان تورين؟

​عندما يصف مفكر بحجم عالم الاجتماع الفرنسي الشهير ألان تورين كتابه "الحداثة المتجددة" (Défense de la modernité) بأنه "أهم كتبي على الإطلاق"، فإن هذا التصريح يدفعنا للتوقف. فنحن لسنا أمام مجرد كتاب جديد، بل أمام خلاصة فكرية لمسيرة طويلة قضت في تشريح المجتمعات الصناعية وما بعدها.

​يأتي هذا الكتاب كصرخة دفاع عن الحداثة في وقتٍ ساد فيه التشاؤم. فالحداثة التي بدأت بوعود العقلانية والتقدم، انتهت في القرن العشرين إلى كوارث الشمولية، وفي القرن الحادي والعشرين إلى هيمنة رأسمالية مالية معولمة ومفرغة من أي معنى إنساني.

​من هذا المنطلق، يرفض تورين الاستسلام لأفكار "ما بعد الحداثة" التي تعلن موت المشروع الحداثي، أو "المجتمع السائل" (كما عند باومان). بدلاً من ذلك، يقدم تورين مشروعاً طموحاً: إنقاذ الحداثة عبر "تجديدها". هذا التجديد لا يأتي من العقل الأداتي أو الاقتصاد، بل من المكون الذي تم سحقه طويلاً: الذات الإنسانية (La Sujet) أو ما يسميه بمصطلحه الأشهر "التذوت" (Subjectivation).



الحداثة المتجددة نحو مجتمعات أكثر إنسانية ألان تورين
غلاف كتاب الحداثة المتجددة نحو مجتمعات أكثر إنسانية_ألان تورين. 

​في هذا التحليل الشامل، سنغوص في الأطروحات الرئيسية لكتاب "الحداثة المتجددة"، مستكشفين كيف يشخص تورين أزمتنا، وما هي الأدوات التي يقدمها للانتقال نحو "مجتمعات أكثر إنسانية".

​الانطلاقة: رفض الحتمية وبناء "سوسيولوجيا الفاعلين"

​يبدأ ألان تورين كتابه بتقويض الفكرة الأساسية التي قامت عليها العلوم الاجتماعية التقليدية: فكرة "القوانين". هل دورنا كعلماء اجتماع هو مجرد اكتشاف قوانين حتمية (اقتصادية، اجتماعية) تحكم سلوكنا؟

​يجيب تورين بـ "لا" قاطعة. يوجه نقداً لاذعاً لـ "الحتمية الاقتصادية"، وهي الفكرة القائلة بأن حياتنا محكومة بـ "قوانين الاقتصاد" الثابتة. ولتأكيد موقفه، يستشهد تورين بالاقتصادي الحائز على نوبل جوزيف ستيغليتز (Joseph Stiglitz).

​يخلص تورين إلى نتيجة مفادها أن اللامساواة والتصدع الكبير في مجتمعاتنا ليسا "قدراً محتوماً" أو نتاج "قوانين اقتصادية ثابتة"، بل هما نتيجة مباشرة لـ "ساستنا وسياستنا".

​هذه هي نقطة الانطلاق: إذا كان واقعنا نتاج قرارات سياسية وليس حتمية، فهذا يعني أن الفعل الإنساني (Action) قادر على تغييره. من هنا، يؤسس تورين لـ "سوسيولوجيا الفاعلين" (sociologie des acteurs)، وهي سوسيولوجيا لا تدرس "المنظومات" (Systèmes) بل "الفاعلين" (Acteurs) وقدرتهم على ابتكار التاريخ.

​المكونات الثلاثة للحداثة: نموذج تورين التحليلي

​لكي نفهم "الحداثة المتجددة"، يجب أولاً أن نفهم كيف يحلل تورين "الحداثة" نفسها. يرى تورين أن أي مجتمع حداثي (وهو يعرفه بأنه مجتمع ينتج ذاته ويحولها، أي مجتمع "تاريخي"، عكس "مجتمعات النظام" التقليدية) يقوم على الاعتماد المتبادل بين ثلاثة مكونات أساسية:

​1. الحضارة المادية (المستوى الاقتصادي-التقني)

​وهي "البنية التحتية" للمجتمع، أي نمط الإنتاج السائد. يمر هذا المكون بمراحل: زراعي، ثم تجاري (قانوني-سياسي)، ثم صناعي.

​2. التأويل الثقافي (الوعي بالابتكارية)

​هذا هو المكون الأهم عند تورين. المجتمعات لا تكتفي بالإنتاج المادي، بل تنتج "تأويلاً" لذاتها. إنها تنتج وعياً بقدرتها على الابتكار. في المجتمعات الدينية، كان هذا الوعي ضعيفاً وتم إسناده إلى "إله". وفي المجتمع الصناعي، تم إسناده إلى "العقل" و"التقدم".

​3. الصراعية الاجتماعية (النزاع الطبقي)

​بما أن الحداثة تراكم الموارد وتستثمرها، فهي بالضرورة تخلق صراعاً مركزياً. هذا الصراع يدور بين الطبقة المهيمنة (التي تملك وتدير الاستثمار) والطبقة المهيمن عليها (التابعة).

​يرفض تورين أي تفسير أحادي. فالحداثة ليست مجرد اقتصاد (كما في الماركسية التقليدية) وليست مجرد أفكار (كما في المثالية). الحداثة هي هذا التفاعل المتوتر والدائم بين نمط الإنتاج، ووعي المجتمع بذاته، والصراع الطبقي الدائر فيه.

​"التذوت" (Subjectivation): جوهرة مشروع ألان تورين

​هنا نصل إلى المفهوم المركزي في الكتاب، والذي يمثل "التجديد" الحقيقي للحداثة: التذوت (التَذَيُّت).

​ما هو "التذوت" (Subjectivation)؟

​"التذوت" هو السيرورة (Process) التي من خلالها يكافح الفرد أو الجماعة ليصبح "ذاتاً" (Sujet). إنه ليس "الفرد" الأناني الباحث عن مصلحته، وليس "المواطن" المطيع للقانون. "الذات" عند تورين هي كائن يبتكر نفسه، كائن يعي قدرته على الإبداع والتحويل ويريد أن يكون سيد حياته وتاريخه.

​"التذوت" هو، ببساطة، مطالبة الإنسان بحقه في الابتكار الذاتي.

​"الذات" كـ "حقوق إنسانية أساسية"

​هذا "التذوت" ليس مجرد شعور داخلي، بل هو حركة اجتماعية ومطلب أخلاقي. "الذات" لا تطلب المال أو السلطة، بل تطلب الاعتراف بـ "حقوقها الإنسانية الأساسية" (Droits humains fondamentaux).

​يحدد تورين هذه الحقوق في ثالوث مقدس: الحرية، والمساواة، والكرامة.

​عندما تطالب امرأة بالمساواة، أو أقلية بحقها في الاختلاف بكرامة، أو مواطن بحريته، فهؤلاء لا يتصرفون كـ "أفراد" بل كـ "ذوات" (Sujets). إنهم يمارسون "التذوت". هذا هو المحرك الحقيقي للتاريخ الاجتماعي عند تورين.

​مجتمع "الحداثة الفائقة": ساحة المعركة الجديدة

​يرى تورين أننا غادرنا "المجتمع الصناعي" ودخلنا مرحلة جديدة يسميها "مجتمع الحداثة الفائقة" (la société de l'hypermodernité).

​ما هي "الحداثة الفائقة"؟

​إنها ليست "ما بعد الحداثة" (التي تعني نهاية الحداثة). بل هي "حداثة" أكثر من اللازم، حداثة "فائقة".

خصائصها كالتالي:

  1. الوعي المباشر بالابتكارية: في الماضي، كنا نبتكر عبر "الآلات" (في المجتمع الصناعي) أو "القوانين" (في المجتمع التجاري). أما اليوم، فابتكارنا أصبح مباشراً وتاماً. نحن نبتكر الابتكارية ذاتها.

  1. هيمنة الثقافة والاتصال: السلطة في المجتمع الصناعي كانت "اقتصادية وسياسية" (السيطرة على المصانع والدول). أما السلطة في مجتمع الحداثة الفائقة فهي "ثقافية". إنها السيطرة على المعلومات، والاتصالات، واللغة، والسلوكات، وحتى "الذاتية" (subjectivité) نفسها.

​الصراع المركزي الجديد: التذوت ضد نزع التذوت

​بما أن طبيعة السلطة تغيرت، فإن الصراع المركزي قد تغير أيضاً.

لم يعد الصراع الأساسي اليوم هو "الرأسمالية ضد الاشتراكية".

​الصراع المركزي في القرن الحادي والعشرين، كما يراه تورين، هو صراع ثقافي وأخلاقي بين:

"التذوت" (Subjectivation) ⬅️ (الدفاع عن الذات الإنسانية وحقوقها في الحرية والكرامة).

ضد

"نزع التذوت" (Désubjectivation) ⬅️ (تدمير الذات الإنسانية لصالح "المنظومات").

​إعادة تعريف الخير والشر: البوصلة الأخلاقية لتورين

​بناءً على هذا الصراع الجديد، يقدم تورين إعادة تعريف جذرية لمفهومي الخير والشر، مستعيناً بـ "حنة أرندت" ومفهوم "تفاهة الشر".

  • الخير (Le Bien): الخير لم يعد طاعة الله أو الامتثال للقانون. "الخير هو التذوت". إنه كل فعل يساهم في خلق الذات الإنسانية وتوسيع نطاق حريتها وكرامتها.

  • الشر (Le Mal): الشر ليس قوة شيطانية جذرية. "الشر هو نزع التذوت". إنه "تافه" (banal) لأنه مجرد تدمير للذات لصالح منظومة.

​عندما يدمر نظام مالي حياة الملايين باسم "الربح"، فهذا "نزع تذوت" (شر).

عندما يسحق نظام شمولي الأفراد باسم "الدولة" أو "الحزب"، فهذا "نزع تذوت" (شر).

وعندما تسحق حركة جماعاتية (دينية أو قومية) حرية الفرد باسم "الهوية" أو "الجماعة"، فهذا "نزع تذوت" (شر).

​المعركة اليوم، بالنسبة لتورين، هي معركة أخلاقية للدفاع عن الذات الإنسانية ضد كل هذه الأشكال من "نزع التذوت".

​ألان تورين وميشيل فوكو: حوار حول "الذات"

​لتعميق فهمنا لـ "التذوت"، يخصص تورين فصلاً هاماً لإعادة قراءة أعمال ميشيل فوكو (Michel Foucault). يرى تورين أن فوكو نفسه مر بمرحلتين:

  1. فوكو الأول (Foucault I): هو فوكو البنيوي، فوكو "الكلمات والأشياء"، الذي أعلن "موت الإنسان". كان يركز على "المنظومات" (مثل السجن، المستشفى) وكيف تسحق الفرد. كان هذا الفكر، في رأي تورين، ينكر وجود "الفاعل" أو "الذات".

  1. فوكو الثاني (Foucault II): هو فوكو في نهاية حياته (تاريخ الجنسانية، محاضرات بيركلي). هذا الفوكو، كما يقرأه تورين، قام بـ "قلب هائل". لقد انتقل من دراسة أنظمة السلطة إلى دراسة "ثقافة الذات" (culture de soi) و"شجاعة القول" (parrêsia).

​يرى تورين أن هذا التحول لدى فوكو هو الدليل الأكبر على صحة أطروحته. إنه يثبت أن الفكر العالمي، ممثلاً في أهم رموزه (فوكو)، اضطر للاعتراف بأن القضية المركزية في عصرنا لم تعد "النظام"، بل أصبحت "الذات" (Le Sujet).

​خاتمة: ما هي "الحداثة المتجددة" إذن؟

​في نهاية المطاف، كتاب "الحداثة المتجددة" هو بيان سياسي وأخلاقي متفائل. إنه رفض قاطع للسوداوية والتشاؤم.

​الحداثة لم تمت. بل هي في طور "التجدد". هذا التجدد يعني الانتقال:

  • من حداثة "قديمة" ترتكز على "العقل الأداتي" والآلات والمنظومات (سواء كانت رأسمالية أو شمولية).
  • إلى حداثة "متجددة" ترتكز على "الذات الإنسانية" ووعيها بقدرتها على الابتكار.

​إن الطريق "نحو مجتمعات أكثر إنسانية" لا يمر عبر المزيد من القوانين الاقتصادية أو الأنظمة السياسية، بل يمر عبر تمكين "الذوات الإنسانية" (الأفراد والجماعات) للدفاع عن حقوقها الأساسية في الحرية والمساواة والكرامة ضد كل القوى (المالية، السياسية، الهوياتية) التي تسعى إلى "نزع تذوتها" وتدميرها.

​💡 أسئلة شائعة (FAQ) حول كتاب الحداثة المتجددة

​س1: ما هي الفكرة الرئيسية لكتاب "الحداثة المتجددة" لألان تورين؟

​الفكرة الرئيسية هي أن الحداثة لم تنتهِ (كما يدعي أنصار ما بعد الحداثة)، بل هي تتجدد. هذا التجديد يتمحور حول عودة "الذات الإنسانية" (أو التذوت) كمحرك مركزي للتاريخ، وكقوة مقاومة للمنظومات اللاإنسانية (مثل الرأسمالية المالية أو السلطة الشمولية).

​س2: ما هو مفهوم "التذوت" (Subjectivation) عند ألان تورين؟

​"التذوت" هو المفهوم المركزي في الكتاب. إنه العملية التي من خلالها يكافح الفرد أو الجماعة لتعريف نفسه كـ "ذات" مبتكرة وخلاقة. إنه الوعي بالقدرة على الابتكار، وهو يتجسد في المطالبة بالحقوق الإنسانية الأساسية: الحرية، والمساواة، والكرامة.

​س3: ما الفرق بين الحداثة و"الحداثة الفائقة" عند تورين؟

الحداثة (الصناعية) كانت ترتكز على الإنتاج المادي والآلات، وكان صراعها الأساسي اقتصادياً (رأسماليون وعمال). أما الحداثة الفائقة (الحالية) فترتكز على إنتاج المعلومات والاتصالات، وأصبح صراعها الأساسي ثقافياً وأخلاقياً: بين "التذوت" (الدفاع عن الذات) و"نزع التذوت" (تدمير الذات).

​س4: ما هي المكونات الثلاثة للمجتمعات الحداثية حسب تورين؟

​يرى تورين أن أي مجتمع حداثي يتكون من تفاعل ثلاثة عناصر:

  1. الحضارة المادية: (التقنية ونمط الإنتاج).

  1. التأويل الثقافي: (وعي المجتمع بقدرته على الابتكار).

  1. الصراعية الاجتماعية: (الصراع بين الطبقات المهيمنة والمهيمن عليها).

تحميل كتاب الحداثة المتجددة نحو مجتمعات أكثر إنسانية ألان تورين.pdf

تعليقات