📁 آخر الأخبار

مجتمع اللادولة لبيار كلاستر: لماذا ترفض الشعوب البدائية السلطة؟

مجتمع اللادولة لبيار كلاستر: ثورة كوبيرنيكية في الأنثروبولوجيا السياسية ومفهوم السلطة

الكلمات المفتاحية: مجتمع اللادولة، بيار كلاستر، الأنثروبولوجيا السياسية، السلطة السياسية، المجتمعات البدائية، الهنود الحمر، الدولة، العنف المشروع، فلسفة الزعامة.

​مقدمة: هل الدولة حتمية تاريخية أم كارثة عرضية؟

​في تاريخ الفكر السياسي والأنثروبولوجي، ساد اعتقاد راسخ بأن "الدولة" هي ذروة التطور البشري، وأن المجتمعات التي تفتقر إليها هي مجتمعات "ناقصة" أو "غير ناضجة". يأتي كتاب "مجتمع اللادولة" (La Société contre l'État) لعالم الإثنولوجيا الفرنسي بيار كلاستر ليقلب هذه الطاولة تماماً، مُحدثاً ما يشبه "الثورة الكوبرنيكية" في فهمنا للسلطة والمجتمع.

​من خلال دراساته الميدانية لقبائل الهنود الحمر في أميركا الجنوبية (مثل الغواراني، الغاياكي، التوبي نامبا)، يطرح كلاستر أطروحة جريئة: المجتمعات البدائية ليست مجتمعات "بلا" دولة لأنها عجزت عن الوصول إليها، بل هي مجتمعات "ضد" الدولة؛ أي أنها نظمت نفسها بوعي تام لمنع ظهور السلطة المنفصلة والمستبدة.

​في هذه المقالة التحليلية، سنغوص في أعماق هذا الكتاب التأسيسي، مستعرضين كيف فكك كلاستر المفاهيم الغربية التقليدية حول السلطة، الاقتصاد، والحرب.


مجتمع اللادولة لبيار كلاستر: لماذا ترفض الشعوب البدائية السلطة؟


​1. كوبرنيك والهمجيون: نقد المركزية الغربية في تعريف السلطة

​يفتتح كلاستر كتابه بنقد لاذع للأنثروبولوجيا التقليدية التي تنظر إلى المجتمعات البدائية نظرة دونية. يرى كلاستر أن الغرب اعتاد التفكير في السلطة السياسية فقط من خلال علاقات "القيادة والخضوع". وبما أن المجتمعات البدائية لا تظهر فيها هذه التراتبية القهرية، فقد استنتج الغربيون خطأً أنها مجتمعات "بلا سلطة" أو تعيش في فوضى.

​وهم "النقص" في المجتمعات البدائية

​يشير كلاستر إلى أن وصف هذه المجتمعات بأنها "بدائية" أو "متخلفة" يعكس حكماً مسبقاً ينطلق من أن الحضارة الغربية هي المقياس الوحيد. المصطلحات المستخدمة مثل "اقتصاد الكفاف" أو "مجتمعات بلا كتابة" أو "بلا دولة" هي تعريفات سلبية تفترض أن هذه الشعوب تنقصها سمات ضرورية لتكون متحضرة.

​يؤكد كلاستر أن هذا المنظور خاطئ؛ فالسلطة السياسية موجودة في كل المجتمعات، لكنها في المجتمعات البدائية تمارس بطريقة تمنع "القسر" و"العنف". إنه يدعو إلى "ثورة كوبرنيكية" في الإثنولوجيا: التوقف عن جعل الغرب هو المركز الذي تدور حوله باقي الحضارات، والبدء في فهم المجتمعات البدائية بجدية كأنظمة سياسية واعية وناضجة.

​2. فلسفة الزعامة الهندية: زعيم بلا سلطة

​أحد أهم الفصول في الكتاب هو الذي يتناول "التبادل والسلطة". يطرح كلاستر مفارقة مدهشة: الزعيم في القبائل الهندية لا يملك أي سلطة لإجبار أفراد القبيلة على الطاعة. إذا أصدر الزعيم أمراً، فمن المرجح ألا ينفذه أحد، وإذا أصر على استخدام القوة، فإن القبيلة ستهجره أو تخلعه.

​خصائص الزعيم الهندي

​يحدد كلاستر، مستعيناً بدراسات (لوي)، ثلاث خصائص أساسية للزعيم في هذه المجتمعات:

  1. صانع السلم: دوره فض النزاعات والحفاظ على التناغم الداخلي، لكن دون استخدام القوة، بل بالاعتماد على هيبته فقط.

  1. الكرم: يجب أن يكون الزعيم معطاءً دائماً. ممتلكاته ليست له، بل هي للقبيلة. الزعيم البخيل يفقد زعامته فوراً.

  1. الموهبة الخطابية: الزعيم هو من يمتلك حق وواجب الكلام. عليه أن يخطب في قومه يومياً (غالباً عند الفجر أو الغروب) مذكراً إياهم بقيم الأسلاف والسلم.

​السلطة كعبء لا كامتياز

​إن الزعامة عند الهنود ليست وسيلة للاستغلال، بل هي "واجب" مرهق. الزعيم هو "المدين" الدائم للقبيلة. القبيلة تمنحه "النساء" (تعدد الزوجات كامتياز وحيد)، لكنها في المقابل تأخذ منه كل شيء: وقته، ممتلكاته، وكلماته.

بهذه الآلية، تضمن القبيلة أن السلطة لن تتراكم في يد الزعيم لتتحول إلى سلطة قهرية (دولة). المجتمع يمارس رقابة دائمة على الزعيم لضمان بقاء السلطة "عاجزة" عن الإكراه.

​3. الاقتصاد والعمل: تدمير أسطورة "اقتصاد الكفاف"

​يتحدى كلاستر الفكرة الشائعة بأن المجتمعات البدائية تعيش في "اقتصاد كفاف" وتصارع الجوع يومياً مما يمنعها من بناء حضارة معقدة.

  • مجتمعات الوفرة: يثبت كلاستر، مستنداً إلى بيانات ديمغرافية وإنتاجية، أن الهنود لا يعملون إلا ساعات قليلة جداً (حوالي 4 ساعات يومياً) لتلبية كافة احتياجاتهم.

  • رفض العمل الزائد: هم لا ينتجون فائضاً ليس لأنهم عاجزون تقنياً، بل لأنهم يرفضون ذلك. لماذا يعملون أكثر لتخزين فوائض سيستولي عليها زعيم أو جهاز دولة؟.

  • الأولوية للسياسي على الاقتصادي: في هذه المجتمعات، الاقتصاد ليس هو المحرك للتاريخ (كما في الماركسية)، بل السياسي هو الذي يحدد الاقتصادي. المجتمع يرفض التراكم لأنه يرفض ظهور التفاوت الطبقي والسلطة المنفصلة.

​4. واجب الكلام: اللغة والسلطة

​يخصص كلاستر فصلاً رائعاً بعنوان "واجب الكلام". في مجتمعات الدولة، الكلام هو حق للسيد (الأمر)، وعلى المرؤوسين الصمت (الطاعة). أما في المجتمعات الهندية، فالعلاقة معكوسة.

  • الزعيم ملزم بالكلام: الكلام دين على الزعيم تجاه القبيلة. لكن خطابه ليس "أمراً"، بل هو خطاب احتفالي يكرر قيم التقاليد.

  • لا أحد يستمع: المفارقة التي يرصدها كلاستر هي أن الزعيم يخطب والناس لا ينصتون إليه، بل يواصلون حياتهم. هذا "التجاهل" هو تذكير للزعيم بأن كلمته ليست قانوناً، وبأن السلطة الحقيقية بيد المجتمع.

  • اللغة المنفصلة: خطاب الزعيم يصبح منفصلاً عن لغة التواصل العادية، ليصبح نوعاً من الطقس الذي يفرغ السلطة من محتواها القهري.

​5. التعذيب والذاكرة: القانون المكتوب على الجسد

​في فصل "التعذيب في المجتمعات البدائية"، يحلل كلاستر طقوس العبور (Initiation Rites) التي يتعرض فيها الشباب لآلام مبرحة.

  • ضد النسيان: يرى كلاستر أن هذه الطقوس ليست سادية، بل هي عملية "كتابة للقانون" على الجسد.

  • مساواة الجميع أمام القانون: المجتمع يطبع قانون المساواة (لا أحد أفضل من أحد، لا أحد يأمر أحد) على أجساد أفراده لكي لا ينسوا أبداً انتمائهم للمجتمع ورفضهم للانفصال عنه.

  • منع الدولة: هذه الذاكرة الجسدية هي حصن ضد نشوء الدولة، لأن الدولة تتطلب نسيان المساواة وقبول الهرمية.

​6. الديمغرافيا والحرب: آليات منع التوحد

​يناقش كلاستر في فصول متعددة (مثل "عناصر من ديمغرافيا الهنود الحمر" و"استقلال وزواج خارجي") كيف أن تشتت القبائل وحروبها المستمرة ليست دليلاً على الفوضى، بل هي استراتيجية سياسية.

  • التفتت كدفاع: انقسام القبائل وتعددها يمنع تشكل كثافات سكانية ضخمة قد تؤدي حتماً إلى نشوء جهاز إداري مركزي (دولة).

  • الحرب للحفاظ على الاستقلال: الحرب دائمة لأنها تؤكد استقلال كل جماعة وتمنع اندماجها في "كل" واحد خاضع لسلطة مركزية. الحرب هي الوسيلة للحفاظ على التعدد ضد "الواحد" (الدولة).

​7. الأنبياء والبحث عن الأرض الخالية من الشر

​يتطرق كلاستر إلى الجانب الديني، خاصة عند قبائل الغواراني وتنبؤاتهم بـ "الأرض الخالية من الشر".

  • رفض الواحد: يرى كلاستر أن ديانة الهنود ترفض فكرة "الواحد" المتعالي (الذي يماثل الدولة في السماء).
  • الأنبياء ضد الزعماء: في لحظات تاريخية معينة، ظهر أنبياء (Karaï) حرضوا القبائل على الهجرة المستمرة بحثاً عن أرض الخلود، وذلك لتقويض سلطة الزعماء الذين بدأوا يراكمون القوة. كانت النبوة وسيلة المجتمع لإجهاض محاولة قيام الدولة.

​الخاتمة: رسالة "المتوحشين" إلى العالم الحديث

​يخلص بيار كلاستر في نهاية كتابه "مجتمع اللادولة" إلى نتيجة حاسمة: التاريخ ليس خطاً مستقيماً يؤدي حتماً إلى الدولة. المجتمعات البدائية اختارت بوعي وعقلانية "اللاحداثة" السياسية لكي تحافظ على الحرية والمساواة.

  • السلطة لعنة: لقد أدرك "الهمجيون" مبكراً أن السلطة القهرية هي نهاية المجتمع البشري الحقيقي، فوضعوا آليات معقدة (تحييد الزعيم، الحرب، الاقتصاد غير التراكمي) لمنع ظهورها.

  • الانقلاب الجذري: الدولة ليست ضرورة لتنظيم المجتمع، بل هي الورم الذي ينمو حين يكف المجتمع عن ممارسة رقابته على القادة.

​إن كتاب "مجتمع اللادولة" ليس مجرد دراسة عن قبائل في الأمازون، بل هو مرآة نقدية صارمة موجهة للحضارة الغربية ولنا جميعاً، تدعونا لإعادة التفكير في مفاهيم الحرية، السلطة، والعلاقة بين الفرد والمجتمع.

​الأسئلة الشائعة (FAQ)

س: ماذا يقصد بيار كلاستر بعبارة "مجتمع ضد الدولة"؟

ج: يقصد أن المجتمعات البدائية لا تفتقر إلى الدولة بسبب تخلفها، بل هي تمتلك آليات ثقافية وسياسية واعية (مثل تحجيم دور الزعيم) تمنع نشوء الدولة وسلطتها القهرية.

س: ما هو الفرق بين الزعيم في المجتمع البدائي والزعيم في مجتمع الدولة؟

ج: الزعيم البدائي يملك الهيبة (Prestige) لكنه لا يملك السلطة (Power) أو حق الإكراه. هو خادم للقبيلة، بينما في الدولة يملك الحاكم حق احتكار العنف وإصدار الأوامر.

س: هل كان اقتصاد المجتمعات البدائية اقتصاد فقر؟

ج: لا، يجادل كلاستر بأنه كان "اقتصاد وفرة" حيث يلبي الناس حاجاتهم بأقل جهد ممكن، ويرفضون العمل الزائد لإنتاج فائض يؤدي إلى التراتبية الطبقية.

س: كيف نظر كلاستر إلى الحروب القبلية؟

ج: اعتبرها وسيلة سياسية للحفاظ على تفتت الجماعات واستقلالها، مما يمنع التوحد القسري تحت سلطة مركزية واحدة (الدولة).

تعليقات