📁 آخر الأخبار

هل يمكن للحوار أن ينقذنا من الانقسام الثقافي؟ نحو فلسفة تواصلية عربية لعصر التفكك

هل يمكن للحوار أن ينقذنا من الانقسام الثقافي؟ نحو فلسفة تواصلية عربية لعصر التفكك

هل يمكن للحوار أن ينقذنا من الانقسام الثقافي؟ صورة تعبيرية لشخصين يتحاوران عبر خلفية مشتتة
الحوار كفعل مقاومة في زمن التفكك الثقافي – تصوير رمزي

الملخص التنفيذي

في عصر تتسارع فيه خطابات الكراهية، وتتعمق فيه الهويات المغلقة، ويتفشّى فيه "الانقسام الثقافي" داخل المجتمعات وعبرها، يبرز سؤال وجودي: هل لا يزال الحوار أداة فاعلة لرأب الصدوع؟

لا يُقصد بالحوار هنا المجاملة أو التفاوض السياسي، بل الحوار الفلسفي-التواصلي القائم على الاعتراف المتبادل، وتقبّل الاختلاف، والسعي المشترك نحو فهم مشترك.

تستعرض هذه المقالة جذور الأزمة الثقافية المعاصرة، وتفحص شروط إمكانية الحوار كحل، مستندة إلى رؤى مفكرين مثل طه عبد الرحمن ويورغن هابرماس، وتختتم بطرح نموذج "الحوار التأسيسي" كمخرج أخلاقي ومعرفي من دوامة الانقسام.

مقدمة: عصر الانقسام الثقافي

لم يعد الانقسام الثقافي مجرد خلاف حول القيم أو المعتقدات. بل بات بنية اجتماعية قائمة بذاتها، تُغذّيها خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، وتُعزّزها سياسات الهوية، ويدعمها تفكك الروابط المجتمعية التقليدية.

في العالم العربي، يظهر هذا الانقسام في صور متعددة:

  • بين "الحداثة" و"الأصالة"،
  • بين "العلماني" و"الديني"،
  • بين "القومي" و"المحلّي"،
  • بل حتى داخل التيارات الفكرية الواحدة.

والنتيجة: مجتمعات مُجزّأة إلى جزر أيديولوجية، لا تتحاور، بل تُطلق الشعارات عبر الخنادق. في هذا السياق، يعود السؤال الكلاسيكي بحدّة جديدة: هل يمكن للحوار أن ينقذنا؟

1. ما هو "الانقسام الثقافي"؟ تشخيص الأزمة

الانقسام الثقافي (Cultural Fragmentation) لا يعني الاختلاف — فالاختلاف طبيعي وضروري. بل يشير إلى استحالة التفاهم، وانهيار الفضاء المشترك الذي يسمح بوجود "نحن" جماعي.

ومن أبرز مظاهره:

  • انعدام الثقة المتبادلة: يُنظر إلى الآخر كعدو وجودي، لا كشريك في الوطن.
  • استبدال الحجة بالهوية: لا يُناقش المحتوى، بل يُهاجم المتحدث بناءً على انتمائه.
  • التماهي مع الخطاب الجماعي: يُصبح الفرد ناطقًا باسم جماعته، لا ذاتًا مفكّرة.

ويرى الباحثون أن هذا الانقسام تضخّمه المنصات الرقمية، التي تُغذّي "فقاعات التأكيد" (Echo Chambers)، حيث لا يسمع المرء إلا ما يعزز مسبقًا معتقداته.

2. الحوار ليس كلامًا: فهم مفهوم الحوار الفلسفي

الخلط الشائع هو اعتبار "الحوار" مرادفًا لأي تبادل لفظي. لكن الفلسفة التواصُليّة تُفرّق بوضوح بين:

  • الجدل: محاولة إقناع أو هزيمة الخصم.
  • المناظرة: عرض أدلة ضمن قواعد منطقية.
  • الحوار الحقيقي: فضاء تواصلي يُعلّق فيه المتحاوران أحكامهما المسبقة، ويفتحان نفسيهما لفهم منظور الآخر من داخله.

هنا، يبرز مفهوم "النية التواصُليّة" عند يورغن هابرماس: الحوار لا ينجح إلا إذا كان الهدف المشترك هو التوصل إلى فهم مشترك، لا فرض الإرادة.

لكن هابرماس يُركّز على "العقلانية الإجرائية". وهنا يأتي دور طه عبد الرحمن، الذي يدعو إلى "حوار الإخلاص"، حيث لا يكفي أن تكون نيتك عقلانية، بل يجب أن تكون أخلاقية: أن تحترم الآخر كذاتٍ مُعترف بها، لا كأداة.

3. لماذا يفشل الحوار اليوم؟ عوائق تواصُليّة جوهرية

حتى لو أردنا الحوار، هناك عوائق عميقة تحول دونه:

أ. غياب الفضـاء العام

كما لاحظ الفيلسوف حنا أرندت، الديمقراطية تحتاج إلى "فضاء ظهور" حيث يلتقي المواطنون كأحرار. اليوم، هذا الفضاء انتقل إلى الإنترنت — لكنه مشوّه بالانفعال والاختزال.

ب. اختلال ميزان القوة

الحوار لا يمكن أن يكون نزيهًا إذا كان أحد الطرفين مهددًا وجوديًّا (اقتصاديًّا، سياسيًّا، أو ثقافيًّا). كما يشير باولو فريري، "الحوار مع المُستَعْبَد مستحيل".

ج. الانفصال بين اللغة والوجود

في الثقافة العربية، كثيرًا ما يُستخدم الخطاب كـ"تمويه" أو "سلاح"، لا كوسيلة للكشف عن الحقيقة. والنتيجة: اللغة تفقد وظيفتها التواصُليّة.

4. نموذج عربي للحوار: طه عبد الرحمن و"الحوار الأخلاقي"

في مواجهة هذه الأزمة، يقدم طه عبد الرحمن مخرجًا فلسفيًّا عميقًا. ففي كتاباته (مثل "سؤال الأخلاق" و"روح الدين")، يرى أن:

"الحوار الحقيقي لا يبدأ بالكلام، بل بالنية الأخلاقية القائمة على الوفاء للآخر."

ويُميّز عبد الرحمن بين:

  • الحوار البرهاني: يبحث عن "من على حق؟"
  • الحوار الوفائي: يسأل: "كيف نحفظ كرامة بعضنا البعض؟"

هذا النموذج لا يرفض العقل، بل يضمّه داخل إطار أخلاقي روحي. وهو بذلك يوفر أرضية لحوار عربي أصيل، لا مستورد.

5. نحو "حوار تأسيسي": مخرج من الانقسام

بناءً على ما سبق، نقترح نموذجًا نسمّيه "الحوار التأسيسي"، يقوم على:

  1. الاعتراف المسبق: قبل أي نقاش، نعترف بحق الآخر في الوجود والاختلاف.
  2. النية الوفائية: نتحاور لا للفوز، بل لبناء علاقة قائمة على الاحترام.
  3. الفضاء الآمن: خارج منصات الاستقطاب، في مجالس محلية، نوادٍ فكرية، أو فصول دراسية.
  4. التمييز بين "الشخص" و"الفكرة": نقُدّ الفكرة دون تجريح صاحبها.

هذا الحوار ليس علاجًا سحريًّا، لكنه شرط ضروري لأي تقدّم جماعي. كما قال الفيلسوف مارتن بوبر: "كل علاقة إنسانية حقيقية تبدأ بلقاء: أنا وأنت، لا أنا وهو."

الخاتمة: الحوار كفعل مقاومة

في زمن الانقسام، يصبح الحوار فعل مقاومة — مقاومة للتفكيك، للخوف، للخطابات المسبقة.

لا يمكننا أن ننتظر "زمنًا أفضل" لنتحاور. بل علينا أن نبدأ هنا والآن، في بيوتنا، جامعاتنا، فضاءاتنا الرقمية، بطرح سؤال بسيط:

"كيف ترى أنت الأمر؟"

قد لا ينقذنا الحوار من كل مشاكلنا، لكنه ينقذنا من الاستسلام للانقسام. ومن دون هذا الأمل التواصلي، لا مستقبل مشترك ممكن.

الكلمات المفتاحية (للمؤلف):

هل يمكن للحوار أن ينقذنا من الانقسام الثقافي؟، الانقسام الثقافي في العالم العربي، فلسفة الحوار طه عبد الرحمن، يورغن هابرماس ونظرية التواصل، أزمة الحوار في العصر الرقمي، الحوار الأخلاقي مقابل الحوار البرهاني، فضاء الحوار في الفكر العربي المعاصر، كيف نبني جسورًا بين الثقافات؟، أخلاقيات التواصل في زمن التفكك، الحلول الفلسفية للانقسام المجتمعي.

تعليقات