النظريات الجمالية - (كانط - هيجل - شوبنهاور) لـ نوكس - ترجمة الدكتور محمد شفيق شيّا
علم الجمال في التاريخ والفلسفة
1 - في فكرة علم الجمال
إذا كان صحيحاً أن علم الجمال لم يجد شكله حتى القرن الثامن عشر مع بومارتن (۱۷۱۸ - ١٧٦۲) فمن الصحيح، كذلك، أن نضيف أن ذلك الشكل لم يكتشف دفعة واحدة ناجزاً كاملاً وأخيراً. لقد قارب ذلك العلم شكله مرة بعد مرة وبخاصة في محاولات الاغريق النظرية . لكن الأمر لم يكن ممكناً، إذ لا يكفي التقدم الداخلي في ميدان ما، أياً كانت تجلياته النظرية كيما يحوّل ذلك الميدان موضوع علم مستقل. إن خطوة أخيرة كهذه هي أمر لا يتحقق إلا في إطار إرهاص نظري متقادم وتراكم تطبيقي غني متنوع هي ذي الشروط التي توفرت للقرن الثامن عشر فسمحت بتميز علم الجمال علماً مستقلاً كأحد علوم الفلسفة وفروعها. وهكذا يغدو بالإمكان وفي ذروة التدرج التاريخي لتجليات علم الجمال، بناء تعريف جامع له وتحقيق فكرته على نحو واضح متميز ومستقل .
ظهر الاسم (Aesthetics) علم الجمال وللمرة الأولى في كتاب الكسندر بومارتن A Baumgarten. في كتابه «تأملات في الشعر» (١٧٣٥). كان بومارتن عقلانياً Rationatist منتمياً إلى التيار الفلسفي الذي أطلقه ديكارت ومن بعده لينبتز، وولف وغيرهما كانت محاولة بومارتن تقديم علم جمال مستقل خطوة في سياق عقلاني، في سياق طلب ما هو واضح ومتميّز»، شرطاً اليقين في منهج ديكارت يميّز بومارتن في المعرفة بين مستويين، المعرفة العليا والمعرفة الدنيا. المعرفة العليا هي تلك التي تقدم مفاهيم وتصورات وحدود عقلية متميزة واضحة يقينية، مثل مفاهيم الهندسة وحدودها، أما أعلى شكل لها فهو المنطق. أما المعرفة الدنيا فهي تقدّم أو هي نتاج إحساسات ومشاعر ومعطيات حسية مشوشة متداخلة وغير يقينية، كما في كل مدرك حسّي. ورغم كونه معرفة دنيا، فالادراك الحسي له أن يغدو محدداً واضحاً وهو ما يتمثل كأعلى شكل له في الشعر، ومن ثمة في الفنون الأخرى. هوذا موضوع علم الجمال علم الادراك الحسي»، الذي يستعير له بومارتن أصله اللغوي اليوناني (أسشيسيس، أستيتيس، أستيتيكوس)، والتي تعني الادراك الحسي للعالم الخارجي.
واستناداً إلى هذا الأساس النظري الذي يقدّمه بومارتن. يمكن القول أن علم الجمال هو العلم الذي يدرس إنفعالات الانسان ومشاعره ونشاطاته وعلاقاته الجمالية في ذاته في انتاجه كما في المعطيات المحيطة به، ودون أن يرتبط ذلك مباشرة بوجه استعمال أو بمنفعة عملية.
كتاب « الفلسفة والمنطق » النظريات الجمالية - (كانط - هيجل - شوبنهاور) لـ نوكس. |
2 - في تاريخ علم الجمال
لا يستطيع قارىء علم الجمال كتاريخ وكنظرية، إلا أن يلحظ ظاهرة مؤداها أن علم الجمال قديم ومحدث في آن. فهو قديم كأفكار جمالية، لكنه محدث كعلم. هو يعود، كأفكار جمالية، إلى الانجازات الجمالية - الفنية والانجازات الجمالية - النظرية الأولى لدى قدماء المصريين والبابليين والصينيين ثم لدى الاغريق حيث توفر لهم نتاج فني وفكري (فلسفي) سمح بقيام حسن نقدي عملي ومستوى علمي نظري قادا معاً إلى أفكار جمالية واضحة التميّز كمضمون، وفي الوقت الذي قاربت فيه كشكل من اكتشاف علم الجمال كعلم مستقل - الأمر الذي لم يتحقق لظروف ثقافية تاريخية. لكن الذي لم يتحقق مع الاغريق، جرى تحقيقه في القرن الثامن عشر مع بومارتن الألماني وفي إطار النهوض الثقافي - الفلسفي والعلمي - وحيث توفر للعصر من التراكم المضموني والارهاص الشكلي ما سمح بتميز ميدان الجمال كحقل خاص لعلم خاص، له مضمونه ومادته وأدواته .
بعد تطور تاريخي استمر آلاف السنين تمثل في تميّز متصاعد للفكر في حضارات العالم القديم، في الشرق الأقصى ووادي النيل وما بين النهرين، وفي تميّز متصاعد لفكرة الفن كمعطى مستقل مثلما بدت بوضوح في نهاية ملحمة جلجامش السومرية في الألف الثاني قبل الميلاد، وفي الانجاز المعماري - الروحي الهائل الذي تحقق للمصريين في معابد وادي النيل وفي الأهرامات ؛ بفضل هذا التطور المشرقي المتراكم لثلاثة آلاف سنة على الأقل، أمكن للأغريق في مدن آسيا الصغرى أولاً ثم في اليونان وجنوب إيطاليا، أن يدفعوا إلى التاريخ تحوّلات في العلم والفلسفة والفن، وفي فترة زمنية قصيرة بين القرن السادس والقرن الثالث قبل الميلاد) فبدت كما لو كانت، على حد تعبير البعض، معجزة بالمعنى الحقيقي للكلمة .
بدأت أفكار الاغريق الجمالية بالظهور والتميز مع ظهور الالياذة والاوديسا لهوميروس في القرن السابع قبل الميلاد، حيث تميزت بوضوح مصطلحات ومناهج الجميل» و«الرائع» و«الموسيقى» و«الرقص» وغيرها. وليس أدل على التطور هذا من قول هوميروس في الالياذة: «إن أثينا سكبت الجمال على أوليس»؛ ففي ذلك تمييز لفكرة الجمال بل واعتبار لها حرفة أو نتاجاً إنسانياً هذه الانسانية بمختلف مدلولاتها، والتي ستكون أحد أهم إكتشافات الاغريق وإنجازاتهم).