تحليل أكاديمي لكتاب "فلسفة التواصل في الفكر العربي المعاصر": نحو فهم تداولي للهوية والقيم

مقدمة: لماذا فلسفة التواصل اليوم؟

لم تعد مسألة "التواصل" مقتصرة على الوسائط التقنية أو البروتوكولات اللغوية. بل باتت سؤالاً وجوديًّا ومعرفيًّا جوهريًّا: كيف نفهم الآخر؟ هل اللغة أداة تواصل أم سجن؟ هل يمكن للحوار أن يُنتج حقيقة مشتركة في عالم مُجزّأ بالهويات والصراعات؟

في هذا السياق، تبرز الفلسفة التواصُليّة (Communicative Philosophy) كمحاولة لتجاوز ثنائيات الحديث والكلاسيكي، المحلي والعالمي، الذات والآخر. ويشكّل الفكر العربي المعاصر، رغم تهميشه أحيانًا في السرديات الفلسفية السائدة، ساحة غنية لهذا النقاش — وهو ما يوثّقه هذا الكتاب ببراعة.

1. المؤلف والمنجز: جلول مقورة ومشروعه الفكري

الدكتور جلول مقورة، أستاذ الفلسفة بجامعة المسيلة (الجزائر)، يُعدّ من أبرز الباحثين العرب المتخصصين في الفلسفة التواصُليّة، وقد سبق له أن نشر دراسات مهمة عن يورغن هابرماس، أشهر روّاد نظرية الفعل التواصُلي.

في هذا الكتاب، لا يكتفي مقورة بعرض الآراء، بل يمارس التأويل النقدي، مُحدّدًا ملامح "مشروع تواصُلي عربي" يتفاعل مع التراث الإسلامي (كما في فكر طه عبد الرحمن) ومع الفلسفة الغربية الحديثة (كما في قراءات ناصيف نصار لهابرماس وغادامير).

2. محوران رئيسيان: طه عبد الرحمن وناصيف نصار

أ. طه عبد الرحمن: التواصل كمجال أخلاقي وروحي

يركّز الكتاب على كيف حوّل طه عبد الرحمن مفهوم التواصل من إطار لساني أو منطقي إلى فضاء أخلاقي-روحي. ففي أعماله مثل "روح الدين" و"سؤال الأخلاق"، يرى عبد الرحمن أن التواصل الحقيقي لا يتحقق إلا في سياق "الإخلاص" و"الوفاء"، أي عندما تكون العلاقة مع الآخر مبنية على الاعتراف الكامل بوجوده كذاتٍ أخلاقية، لا كأداة أو خصم.

هذا التوجّه، كما يبيّن مقورة، يُمثّل نقدًا جذريًّا للنموذج الغربي للتواصل (كما عند هابرماس)، الذي يركّز على "العقلانية الإجرائية" ويُهمش البُعد الروحي والعاطفي في الحوار.

ب. ناصيف نصار: بين التراث الغربي والهوية العربية

من جهته، يُبرز الكتاب قراءة ناصيف نصار — الفيلسوف اللبناني — للتراث الفلسفي الأوروبي، خصوصًا هرمنوطيقا غادامير ونظرية هابرماس.

يُظهر نصار كيف يمكن للعقل العربي أن يتعامل نقديًّا مع الفلسفة الغربية دون أن يذوب فيها، مُقدّمًا نموذجًا لـ"التواصل الجدلي" بين المحلي والكوني.

ويشير مقورة إلى أن مشروع نصار "بدأ كويتيًّا" (أي متمركزًا حول الخصوصية العربية) و"انتهى وحدويًّا" (أي منفتحًا على الكوني)، بينما عكس ذلك تمامًا مشروع عبد الرحمن الذي "بدأ كونيًّا وانتهى كويتيًّا" — مما يكشف عن جدلية غنية داخل الفكر العربي المعاصر.

3. أهمية الكتاب في السياق الفكري العربي

لم يُعنَ الفكر العربي المعاصر، بشكل كافٍ، بفلسفة التواصل كمجال مستقل. غالبًا ما رُبط الحوار بالسياسة أو الأدب، دون ربطه بإشكالات معرفية عميقة.

يأتي هذا الكتاب ليملأ فراغًا معرفيًّا مهمًّا، ويؤسّس لـ:

• نقد الذات الفلسفية العربية من داخلها.
• بناء جسور نقدية مع الفلسفة الغربية دون تبعية.
• إعادة الاعتبار للحوار كقيمة أخلاقية وثقافية، لا كأداة تفاوض.

كما أن إصداره عن مركز دراسات الوحدة العربية — المؤسسة الفكرية الرائدة منذ 1976 — يمنحه مصداقية وانتشارًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية العربية.

4. الخاتمة: فلسفة التواصل كمشروع حضاري

كتاب "فلسفة التواصل في الفكر العربي المعاصر" ليس مجرد دراسة أكاديمية، بل هو دعوة ضمنية إلى بناء مجتمعات حوارية، قادرة على إدارة الاختلاف دون عنف، وفهم الذات عبر الآخر لا ضده.

في زمن تتفشّى فيه خطابات الكراهية و"الحرب الثقافية"، يذكّرنا هذا العمل بأن الفلسفة ليست ترفًا فكريًّا، بل ضرورة وجودية لبناء مستقبل مشترك.

السؤال الذي يطرحه الكتاب على القارئ:
هل يمكن للفكر العربي أن يُقدّم نموذجًا تواصليًّا خاصًّا يُغني النقاش العالمي، لا أن يكتفي بردّ الفعل عليه؟

معلومات حول الكتاب (للأغراض البحثية)

• العنوان: فلسفة التواصل في الفكر العربي المعاصر
• المحرر: الدكتور جلول مقورة
• الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت)
• التوفر القانوني: عبر القنوات الرسمية

يُنصح بالحصول على الكتاب عبر:

• فلسفة التواصل في الفكر العربي المعاصر

تنويه أخلاقي:
نحترم حقوق الملكية الفكرية، وندعو الباحثين إلى دعم المؤلفين والناشرين من خلال شراء النسخ الأصلية. الاستخدام الأكاديمي (كالاقتباس أو التحليل) يخضع لمبادئ "الاستخدام العادل" وفق القوانين المحلية.

مقالات ذات صلة قد تهمك

• تحميل كتاب إبستيمولوجيا العلوم الإنسانية في الفكر العربي والفكر الغربي المعاصر.pdf
• يورغن هابرماس ونظرية الفعل التواصلي: مدخل فلسفي