📁 آخر الأخبار

نظريات التعلم: الدليل الشامل من السلوكية إلى البنائية وما بعدها

نظريات التعلم: الدليل الشامل من السلوكية إلى البنائية وما بعدها 

مقدمة: كيف نتعلم؟ رحلة في عقل الإنسان

كيف نتعلم؟ كيف تتحول مجموعة من المعلومات المتناثرة والتجارب العشوائية إلى معرفة منظمة ومهارات متقنة في عقولنا؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي حاول الفلاسفة وعلماء النفس والمربون الإجابة عليه عبر العصور. نظريات التعلم (Learning Theories) هي الخرائط التي رسمها هؤلاء المفكرون لمحاولة فهم هذه العملية المعقدة والغامضة. إنها ليست مجرد أفكار مجردة، بل هي أطر عمل قوية تشرح الآليات التي يكتسب بها البشر والحيوانات السلوك والمعرفة والقيم.
فهم هذه النظريات ليس مهمًا فقط للمتخصصين في علم النفس التربوي، بل هو ضروري لكل معلم، وكل مدرب، وكل قائد، وكل أب وأم يسعون إلى تحسين طرق تواصلهم وتعليمهم. فمن خلالها، نكتشف لماذا تنجح بعض طرق التدريس وتفشل أخرى، وكيف يمكن تصميم بيئات تعليمية تحفز الفهم العميق بدلاً من الحفظ السطحي.
في هذه المقالة الشاملة، سننطلق في رحلة تاريخية ومفاهيمية لاستكشاف المدارس الفكرية الكبرى في نظريات التعلم. سنبدأ بالمدرسة السلوكية التي نظرت إلى التعلم كرد فعل للمؤثرات الخارجية، ثم ننتقل إلى المدرسة الجشطالتية التي أكدت على أهمية الإدراك الكلي، مرورًا بالثورة المعرفية التي فتحت "الصندوق الأسود" للعقل، وصولًا إلى المدرسة البنائية التي ترى المتعلم كبانٍ نشط لمعرفته.


ملخص نظريات التعلم les théories d'apprentissage
ملخص نظريات التعلم les théories d'apprentissage 

المحور الأول: المدرسة السلوكية (Behaviorism) - التعلم كسلوك قابل للملاحظة

في أوائل القرن العشرين، ظهرت المدرسة السلوكية كثورة ضد علم النفس التقليدي الذي ركز على دراسة الوعي والخبرات الذاتية غير القابلة للقياس. قال السلوكيون إن العقل البشري هو "صندوق أسود" لا يمكننا رؤية ما بداخله، وبالتالي، فإن الشيء الوحيد الذي يمكننا دراسته بشكل علمي هو السلوك الخارجي القابل للملاحظة. من هذا المنظور، التعلم هو ببساطة تغيير في السلوك يحدث نتيجة للتفاعل مع البيئة من خلال عملية "المثير والاستجابة" (Stimulus-Response).

1. نظرية الإشراط الكلاسيكي (Classical Conditioning) - إيفان بافلوف

يُعتبر العالم الروسي إيفان بافلوف الأب الروحي لهذه النظرية. من خلال تجاربه الشهيرة على الكلاب، اكتشف بافلوف آلية تعلم أساسية:
 * التجربة: لاحظ بافلوف أن الكلاب تسيل لعابها (استجابة طبيعية) عند رؤية الطعام (مثير طبيعي). بدأ في قرع جرس (مثير محايد) في كل مرة يقدم فيها الطعام. بعد تكرار هذا الاقتران عدة مرات، لاحظ أن الكلاب بدأت تسيل لعابها بمجرد سماع صوت الجرس، حتى في غياب الطعام.
 * التحليل: لقد تعلمت الكلاب ربط صوت الجرس بالطعام. أصبح الجرس (مثير شرطي) قادرًا على إحداث استجابة سيلان اللعاب (استجابة شرطية) بمفرده.
التطبيق في التعليم: الإشراط الكلاسيكي يفسر الكثير من ردود الفعل العاطفية في البيئة التعليمية. على سبيل المثال، الطالب الذي يتعرض للسخرية من معلمه أثناء تقديمه لإجابة (مثير طبيعي يسبب الخجل)، قد يبدأ في الشعور بالقلق (استجابة شرطية) بمجرد دخوله إلى الفصل أو رؤيته للمعلم (مثير شرطي).

2. نظرية التعلم بالمحاولة والخطأ (Trial and Error) - إدوارد ثورندايك

بينما ركز بافلوف على الاستجابات اللاإرادية، اهتم عالم النفس الأمريكي إدوارد ثورندايك بكيفية تعلم السلوكيات الإرادية.
 * التجربة: وضع ثورندايك قطًا جائعًا في قفص مغلق (صندوق الأحجية)، ووضع الطعام خارج القفص. كان على القط أن يكتشف كيفية الضغط على رافعة لفتح الباب. في البداية، كان القط يقوم بمحاولات عشوائية (يخدش، يعض، يدور) حتى يضغط على الرافعة بالصدفة. مع تكرار التجربة، قلّت المحاولات الخاطئة تدريجيًا، وأصبح القط يتجه مباشرة إلى الرافعة.
 * قانون الأثر (Law of Effect): استنتج ثورندايك من هذا قانونه الشهير: السلوكيات التي تتبعها نتائج مُرضية (مثل الحصول على الطعام) تميل إلى أن تتكرر (تتقوى)، بينما السلوكيات التي تتبعها نتائج مزعجة تميل إلى أن تختفي (تضعف). هذا القانون هو حجر الزاوية الذي بنى عليه سكينر نظريته.

3. نظرية الإشراط الإجرائي (Operant Conditioning) - ب. ف. سكينر

يعتبر ب. ف. سكينر أشهر علماء السلوكية، وقد طور أفكار ثورندايك بشكل كبير. رأى سكينر أن السلوك لا يتأثر فقط بما يسبقه (المثير)، بل يتشكل بشكل أساسي بما يتبعه (العواقب).
 * المفاهيم الأساسية:
   * التعزيز (Reinforcement): أي شيء يزيد من احتمالية تكرار السلوك.
     * التعزيز الإيجابي: تقديم مثير مرغوب فيه (مثل إعطاء طالب حلوى لجوابه الصحيح).
     * التعزيز السلبي: إزالة مثير مزعج (مثل إعفاء الطالب من الواجب المنزلي لأدائه الجيد في الفصل).
   * العقاب (Punishment): أي شيء يقلل من احتمالية تكرار السلوك.
     * العقاب الإيجابي: تقديم مثير مزعج (مثل توبيخ الطالب على سلوكه السيء).
     * العقاب السلبي: إزالة مثير مرغوب فيه (مثل حرمان الطالب من وقت الاستراحة).
التطبيق في التعليم: نظرية سكينر هي الأكثر تطبيقًا في الفصول الدراسية. أنظمة النقاط، والملصقات التشجيعية، والثناء اللفظي، وحتى حجز الطلاب بعد الدوام، كلها أشكال من الإشراط الإجرائي تهدف إلى تشكيل سلوك الطلاب.

المحور الثاني: المدرسة الجشطالتية (Gestalt Psychology) - الكل أكبر من مجموع أجزائه

ظهرت المدرسة الجشطالتية في ألمانيا كرد فعل مباشر على تفكيكية المدرسة السلوكية. كلمة "جشطلت" هي كلمة ألمانية تعني "الشكل" أو "الكل المنظم". جادل علماء الجشطلت (مثل فيرتهايمر، كوهلر، كوفكا) بأننا لا ندرك العالم كمجموعة من المثيرات المنفصلة، بل كأنماط وكلّيات ذات معنى. "الكل أكبر من مجموع أجزائه".
 * التجربة: أشهر تجارب الجشطلت هي تجارب وولفغانغ كوهلر على الشمبانزي. وضع كوهلر شمبانزيًا يدعى "سلطان" في قفص مع مجموعة من الصناديق وعلق الموز في سقف القفص بعيدًا عن متناوله. بعد عدة محاولات فاشلة للقفز، جلس سلطان فجأة، نظر إلى الموقف ككل، ثم قام بترتيب الصناديق فوق بعضها البعض وتسلقها للحصول على الموز.
 * الاستبصار (Insight): لم يتعلم سلطان من خلال المحاولة والخطأ العشوائي، بل من خلال لحظة "استبصار" مفاجئة. الاستبصار هو إعادة تنظيم ذهنية مفاجئة لعناصر الموقف، وإدراك العلاقات بينها بطريقة جديدة تؤدي إلى الحل. إنها لحظة "آها!".
التطبيق في التعليم: تؤكد نظرية الجشطلت على أهمية فهم "البنية" الكلية للمادة الدراسية بدلاً من حفظ الحقائق المنفصلة. يجب تشجيع الطلاب على اكتشاف العلاقات والأنماط بأنفسهم، وتقديم المشكلات لهم بشكل كامل يساعد على تحفيز التفكير القائم على الاستبصار.

المحور الثالث: الثورة المعرفية - فتح الصندوق الأسود

في منتصف القرن العشرين، بدأ علماء النفس يدركون أن تجاهل العمليات العقلية الداخلية (الصندوق الأسود) يترك جزءًا كبيرًا من قصة التعلم دون تفسير. أدت هذه "الثورة المعرفية" إلى ظهور نظريات تركز على كيفية معالجة العقل للمعلومات.

1. نظرية معالجة المعلومات (Information Processing Theory)

استعارت هذه النظرية نموذجها من عالم الكمبيوتر. فهي ترى أن العقل البشري يشبه الكمبيوتر في طريقة استقباله للمعلومات، وترميزها، وتخزينها، واسترجاعها.
 * مراحل الذاكرة:
   * الذاكرة الحسية: تستقبل المعلومات من الحواس وتحتفظ بها لجزء من الثانية.
   * الذاكرة قصيرة المدى (أو الذاكرة العاملة): هي "شاشة الوعي" التي نعالج فيها المعلومات بشكل نشط. سعتها محدودة.
   * الذاكرة طويلة المدى: هي "القرص الصلب" الذي نخزن فيه المعلومات بشكل دائم. سعتها غير محدودة.
 * التعلم في هذا النموذج هو عملية نقل المعلومات بنجاح من الذاكرة قصيرة المدى إلى الذاكرة طويلة المدى.
التطبيق في التعليم: تساعد هذه النظرية المعلمين على تصميم استراتيجيات تدريس فعالة، مثل "تقسيم" المعلومات إلى أجزاء أصغر (Chunking)، واستخدام الوسائل البصرية والسمعية لتسهيل الترميز، وربط المعلومات الجديدة بالمعرفة السابقة لتسهيل التخزين في الذاكرة طويلة المدى.

2. نظرية التعلم الاجتماعي (Social Learning Theory) - ألبرت باندورا

جادل ألبرت باندورا بأن التعلم لا يحدث فقط من خلال التجربة المباشرة (كما قالت السلوكية)، بل أيضًا من خلال ملاحظة الآخرين.
 * التجربة: في تجربته الشهيرة "دمية بوبو"، عرض باندورا على أطفال فيلمًا لشخص بالغ يعتدي بعنف على دمية. لاحقًا، عندما تُرك الأطفال وحدهم مع نفس الدمية، قاموا بتقليد السلوك العدواني الذي شاهدوه بدقة.
 * التعلم بالملاحظة (النمذجة): استنتج باندورا أننا نتعلم جزءًا كبيرًا من سلوكياتنا من خلال مشاهدة "النماذج" (الآباء، المعلمون، الأقران، شخصيات الإعلام) وعواقب سلوكياتهم.
 * العمليات المعرفية: أكد باندورا أن هذا النوع من التعلم ليس مجرد تقليد أعمى، بل يتضمن عمليات معرفية: الانتباه (يجب أن تلاحظ النموذج)، الاحتفاظ (يجب أن تتذكر ما رأيته)، الإنتاج (يجب أن تكون قادرًا على تقليد السلوك)، والدافعية (يجب أن يكون لديك دافع للقيام بالسلوك، وغالبًا ما يأتي هذا من رؤية النموذج وهو يكافأ).

المحور الرابع: المدرسة البنائية (Constructivism) - المتعلم يبني معرفته بنفسه

تعتبر المدرسة البنائية من أحدث وأكثر النظريات تأثيرًا في التعليم الحديث. تقوم على فكرة أساسية وهي أن المعرفة لا يتم نقلها بشكل سلبي من المعلم إلى المتعلم، بل يتم بناؤها وتكوينها بفعالية داخل عقل المتعلم. المتعلم ليس وعاءً فارغًا، بل هو بنّاء نشط للمعنى، يربط المعلومات الجديدة بخبراته ومعارفه السابقة.

1. البنائية المعرفية (Cognitive Constructivism) - جان بياجيه

ركز عالم النفس السويسري جان بياجيه على كيفية تطور التفكير لدى الأطفال. رأى أن التعلم هو عملية تكيف مستمرة مع البيئة.
 * العمليات الأساسية:
   * التمثل/الاستيعاب (Assimilation): محاولة فهم تجربة جديدة باستخدام المخططات العقلية (Schemes) الموجودة لدينا بالفعل. (مثال: طفل يرى حمارًا لأول مرة فيقول "حصان كبير").
   * المواءمة/التلاؤم (Accommodation): تعديل مخططاتنا العقلية الحالية لتناسب المعلومات الجديدة التي لا تتوافق معها. (مثال: يدرك الطفل أن هذا "الحصان الكبير" له آذان طويلة وصوت مختلف، فينشئ مخططًا عقليًا جديدًا لـ "الحمار").
   * التوازن (Equilibration): هي عملية الموازنة المستمرة بين التمثل والمواءمة، وهي المحرك للتطور المعرفي.
التطبيق في التعليم: تؤكد نظرية بياجيه على أهمية "التعلم بالاكتشاف" والخبرات العملية. يجب على المعلمين خلق مواقف تمثل تحديًا للمخططات العقلية الحالية للطلاب، وتشجيعهم على استكشاف وبناء فهمهم الخاص.

خاتمة: لا توجد نظرية واحدة صحيحة

كما رأينا، كل مدرسة فكرية تقدم عدسة فريدة ننظر من خلالها إلى عملية التعلم المعقدة. الحقيقة هي أنه لا توجد نظرية واحدة "صحيحة" أو أفضل من غيرها في جميع المواقف.
 * السلوكية مفيدة في تعليم المهارات الأساسية وتعديل السلوك.
 * المعرفية تزودنا باستراتيجيات لتحسين الذاكرة ومعالجة المعلومات.
 * البنائية هي الأنسب لتنمية الفهم العميق والتفكير النقدي.
المعلم الناجح هو الذي يمتلك "صندوق أدوات" يحتوي على مبادئ من جميع هذه النظريات، ويختار الأداة المناسبة بناءً على أهداف الدرس، وطبيعة المادة، وخصائص طلابه. في النهاية، تظل رحلة فهم كيفية تعلمنا واحدة من أكثر المغامرات الفكرية إثارة، وهي رحلة مستمرة مع تطور العلم والتكنولوجيا.

📚 مقالات ذات صلة من مكتبة boukultra | شريان المعرفة

تعليقات