📁 آخر الأخبار

العدالة في عالم غير عادل: قراءات نقدية حديثة في نظريات جون رولز

العدالة في عالم غير عادل: قراءات نقدية حديثة في نظريات جون رولز

​من "الليبرالية السياسية" إلى "نقد السلطة": كيف نفهم الإنصاف في القرن الحادي والعشرين؟

​ملخص تنفيذي

​يُعد جون رولز (John Rawls) الفيلسوف السياسي الأكثر تأثيراً في القرن العشرين، حيث أعاد إحياء الفلسفة السياسية المعيارية من خلال كتابه "نظرية في العدالة" (1971). تسعى هذه الورقة البحثية إلى تقديم قراءة معاصرة لنظرية رولز، متجاوزة الشرح التقليدي لمبادئه، لتناقش الاشتباكات الفكرية الحديثة التي أثارها: كيف طوّر رولز الليبرالية لتستوعب التعددية؟ ما هي وجاهة نقد "الجماعاتيين" له؟ كيف يؤسس للعدالة المناخية عبر الأجيال؟ وأخيراً، كيف يتقاطع (أو يتصادم) مشروعه البنائي مع المشروع التفكيكي لميشيل فوكو؟


العدالة في عالم غير عادل: قراءات نقدية حديثة في نظريات جون رولز
العدالة في عالم غير عادل: قراءات نقدية حديثة في نظريات جون رولز.


​مقدمة: البحث عن "نقطة أرخميدس" الأخلاقية

​في عالم يتسم بالتفاوت الطبقي الصارخ، والاستقطاب الأيديولوجي، والأزمات البيئية، يعود سؤال العدالة ليحتل صدارة المشهد العالمي. لم تعد العدالة مجرد تطبيق للقوانين، بل أصبحت بحثاً عن "البنية الأساسية" (Basic Structure) التي تجعل المجتمع منصفاً.

​قدم جون رولز في مشروعه الضخم محاولة للإجابة عبر تجربة ذهنية فذة: "الوضع الأصلي" (Original Position) و**"حجاب الجهل" (Veil of Ignorance)**. ماذا لو اجتمعنا لنضع دستوراً للمجتمع، ونحن لا نعرف هل سنكون أغنياء أم فقراء، أصحاء أم مرضى، موهوبين أم محدودي القدرات؟ يجادل رولز بأننا، بدافع العقلانية والخوف من الأسوأ، سنختار مبدأين للعدالة:

  1. مبدأ الحرية: أقصى درجات الحرية للجميع.
  2. مبدأ الاختلاف (Difference Principle): السماح بالتفاوت الاقتصادي فقط إذا كان يصب في مصلحة الفئات "الأقل حظاً".

​لكن، هل صمدت هذه النظرية أمام تحديات القرن الحادي والعشرين؟

​المحور الأول: رولز و"أنسنة" الليبرالية المعاصرة

​لم يكتفِ رولز بالدفاع عن الليبرالية الكلاسيكية التي تقدس الفردية، بل قام بتطويرها في كتابه اللاحق "الليبرالية السياسية" (1993) لتصبح قادرة على احتواء التناقضات الحديثة.

​1. من "الحقيقة" إلى "المعقولية"

​أدرك رولز أن المجتمعات الحديثة تضم مذاهب دينية وفلسفية متناقضة (ما يسميه "واقع التعددية المعقولة"). لذلك، طرح فكرة جوهرية: العدالة سياسية وليست ميتافيزيقية.

لا تطلب الدولة الليبرالية من المواطنين التخلي عن قناعاتهم الدينية (التي تمثل "الخير")، لكنها تطلب منهم الاتفاق على إطار سياسي مشترك (يمثل "الحق"). هنا تظهر أولوية "الحق على الخير".

​2. الإجماع المتشابك (Overlapping Consensus)

​كيف نعيش معاً؟ يقترح رولز فكرة "الإجماع المتشابك". يمكن للمسلم، والمسيحي، والعلماني أن يتفقوا جميعاً على "الدستور العادل"، كلٌّ من منطلقاته الخاصة. هذا الإجماع هو صمام الأمان الذي يمنع تحول الاختلاف العقائدي إلى حرب أهلية، وهو ما يجعل نظرية رولز شديدة الأهمية لمجتمعات ما بعد النزاع.

​المحور الثاني: ثورة "الجماعاتيين": نقد الذات الرولزية

​واجه رولز أعنف نقد من تيار "الجماعاتية" (Communitarianism)، الذي يمثله فلاسفة مثل مايكل ساندل، تشارلز تايلور، ومايكل والزر. يرتكز نقدهم على الأنثروبولوجيا (فهم طبيعة الإنسان) التي انطلق منها رولز.

​1. نقد "الذات الذرية" (Atomized Self)

​في كتابه "الليبرالية وحدود العدالة"، يهاجم ساندل مفهوم "حجاب الجهل". يقول ساندل إن رولز يتخيل الإنسان كـ "ذات غير مُثقلة" (Unencumbered Self)، أي كائن مجرد بلا تاريخ ولا انتماء.

يرى الجماعاتيون أن هذا وهم. الإنسان يولد "مُثقلاً" بغاياته، وثقافته، وانتمائه المجتمعي. لا يمكنني أن أقرر ما هو "عادل" وأنا منفصل عن هويتي.

​2. أسبقية المجتمع على الفرد

​بينما يرى رولز أن الدولة يجب أن تكون محايدة تجاه القيم، يرى الجماعاتيون أن الدولة لا يمكنها أن تكون محايدة. العدالة ليست إجراءً مسطرياً بارداً، بل هي تعبير عن القيم المشتركة والتقاليد التاريخية للجماعة. هذا النقد يفتح الباب واسعاً لمناقشة "العدالة" في المجتمعات ذات الطابع الجمعي (مثل المجتمعات العربية والآسيوية).

​المحور الثالث: العدالة عبر الزمن (الإنصاف بين الأجيال)

​في ظل أزمة المناخ، اكتسبت نظرية رولز حياة جديدة من خلال مفهوم "العدالة بين الأجيال" (Intergenerational Justice).

​1. توسيع حجاب الجهل زمنياً

​يطور رولز تجربته الذهنية: تخيل أنك خلف حجاب الجهل، ولا تعرف فقط طبقتك الاجتماعية، بل لا تعرف أيضاً "في أي جيل ستولد". هل ستولد في عام 2024 أم في عام 2100؟

بما أنك لا تعرف، فمن الجنون أن تستهلك كل موارد الكوكب اليوم وتترك المستقبل جحيماً، لأنك قد تكون أنت ابن ذلك المستقبل.

​2. مبدأ التوفير العادل (Just Savings Principle)

​يصيغ رولز قاعدة أخلاقية ملزمة: يجب على كل جيل أن يترك للأجيال القادمة رصيداً من "رأس المال" (طبيعي، تكنولوجي، مؤسسي) لا يقل عما ورثه هو. هذا المبدأ يُعد اليوم الركيزة الفلسفية الأساسية لسياسات التنمية المستدامة، حيث تصبح حماية البيئة ليست مجرد "خيار أخضر"، بل واجب عدالة ملزم.

​المحور الرابع: صراع الجبابرة (رولز في مواجهة فوكو)

​يمثل هذا المحور الصدام المعرفي الأعمق في الفكر السياسي المعاصر: الصراع بين "البنائية الليبرالية" (رولز) و"التفكيكية الجينيالوجية" (ميشيل فوكو). إنه ليس مجرد اختلاف في الرأي، بل اختلاف جذري في رؤية العالم.

​1. المنهج: البناء مقابل التقويض

  • رولز (البنائي): ينطلق من افتراض إمكانية الوصول إلى "نقطة أرخميدس" عقلانية ومحايدة (الوضع الأصلي) لبناء نظام عادل. هدفه هو التأسيس المعياري للمجتمع.
  • فوكو (التفكيكي): يرفع شعار "لا للعدو الرئيسي"، ويرفض البحث عن أسس ثابتة. مهمة الفلسفة ليست بناء أنظمة عدالة، بل تفكيك الخطابات وكشف كيف تشكلت مفاهيم "العدالة" تاريخياً لخدمة أنظمة الهيمنة.

​2. السلطة: الإجماع مقابل الشبكة

  • عند رولز: السلطة السياسية مشروعة إذا كانت نتاجاً لمبادئ يقبلها المواطنون الأحرار. الشرعية تأتي من "الإجماع المتشابك".
  • عند فوكو: السلطة ليست ملكاً للدولة لتمنحها أو تمنعها، بل هي "شبكة" (Micro-physics of power) تتغلغل في كل العلاقات الاجتماعية. حتى "المعرفة" ونظريات العدالة هي أدوات سلطة تحدد من هو "العاقل" ومن هو "المنحرف". بالنسبة لفوكو، الإجماع الذي يتحدث عنه رولز هو غالباً إجماع يفرضه الخطاب المهيمن.

​3. الذاتية: العقلانية مقابل التدجين

  • رولز: يفترض وجود ذات قادرة على الاختيار العقلاني المستقل خلف حجاب الجهل.
  • فوكو: يرى أن الذات نفسها "تُصنع" وتُشكل عبر ممارسات السلطة والمعرفة. نحن لسنا ذواتاً حرة سابقة على النظام، بل نحن نتاج لخطابات النظام (Discursive formation).

الخلاصة: رولز يريد إصلاح المؤسسات لتصبح عادلة، بينما فوكو يشكك في أن المؤسسات (كالسجون والمصحات) هي أدوات انضباط وهيمنة بطبيعتها، مما يضعنا أمام خيارين: الإصلاح الأخلاقي (رولز) أو الشك الجذري (فوكو).

​المحور الخامس: رولز في المكتبة العربية (قراءة في السياق)

​تلقى الفكر العربي المعاصر نظرية رولز باهتمام متزايد، ليس ترفاً فكرياً، بل بحثاً عن حلول لأزمة الشرعية والعدالة في الدولة العربية الحديثة.

  1. الترجمة والتأسيس: يُعد د. محمد هاشم الرائد في نقل رولز للعربية، مما فتح الباب أمام الباحثين العرب لاستخدام "العدة المفاهيمية" الرولزية.
  2. النقد الأخلاقي/الثقافي: قدم مفكرون مثل د. وائل حلاق (في "الدولة المستحيلة") نقداً للنموذج الليبرالي الذي يمثله رولز، معتبراً أن حياد الدولة تجاه "الخير" يتناقض مع البنية الأخلاقية للمجتمعات الإسلامية التي لا تفصل بين السياسي والأخلاقي.
  3. التبيئة السياسية: حاول مفكرون مثل فهمي جدعان وعزمي بشارة استلهام مفهوم "الإنصاف" لإعادة التفكير في "العقد الاجتماعي" العربي. كيف يمكن تطبيق "حجاب الجهل" في مجتمعات ممزقة طائفياً وقبلياً؟ هل يمكن لـ "الإجماع المتشابك" أن يكون حلاً للصراع بين الإسلاميين والعلمانيين؟

​خاتمة: نحو فهم تكاملي للعدالة

​بعد استعراض هذه القراءات المتعددة، نجد أنفسنا أمام سؤال مفتوح ومقلق: هل ما زالت "عدة الشغل" الرولزية صالحة لترميم عالمنا المتصدع؟

​قد يكون نقد الجماعاتيين لطبيعة الذات صحيحاً، وقد يكون تشكيك فوكو في السلطة في محله، لكن يبقى جون رولز هو من قدم لنا "اللغة" التي نتجادل بها حول العدالة اليوم.

في السياق العربي تحديداً، ربما نحتاج إلى "رولزية نقدية": نأخذ منها صرامة الإجراءات وحياد المؤسسات (لحماية التعددية)، ونطعمها برؤية "جماعاتية" تحترم الخصوصية الثقافية، مع الاحتفاظ بـ "يقظة فوكودية" دائمة تجاه تحول شعارات العدالة إلى أدوات للهيمنة.

​إن العدالة في عالم غير عادل ليست وصفة جاهزة، بل هي تمرين دائم على التخيل الأخلاقي، يبدأ، كما علمنا رولز، بأن نضع أنفسنا مكان الآخر الأقل حظاً.

المصادر والمراجع المختارة:

  1. John Rawls, "A Theory of Justice" (Revised Edition).
  2. John Rawls, "Political Liberalism".
  3. Michael Sandel, "Liberalism and the Limits of Justice".
  4. Michel Foucault, "Discipline and Punish".
  5. د. محمد هاشم، "نظرية في العدالة" (ترجمة).
  6. د. وائل حلاق، "الدولة المستحيلة".
  7. 📚 مقالات ذات صلة من مكتبة Boukultra | شريان المعرفة

    ​اقرأ المزيد في سلسلة "الإنسان والحداثة الرقمية":

تعليقات