مجتمع الإنجاز: لماذا نجلد ذواتنا بحثاً عن النجاح المستمر؟
قراءة في فكر "بيونغ تشول هان" وتشريح "العبد الحر" في القرن الحادي والعشرين
ملخص تنفيذي
هل تشعر بالذنب عندما تأخذ قيلولة؟ هل تتفقد بريدك الإلكتروني في عطلة نهاية الأسبوع؟ هل تشعر أنك دائماً "متأخر" عن ركب النجاح مهما ركضت؟ أنت لست وحدك، وأنت لست "كسولاً". أنت ببساطة ضحية لما يسميه الفيلسوف الألماني-الكوري بيونغ تشول هان بـ "مجتمع الإنجاز" (The Achievement Society). تناقش هذه الورقة كيف تحولنا من "مجتمع الطاعة" الذي يفرض علينا القيود، إلى مجتمع يوهمنا بالحرية بينما يحولنا إلى مستثمرين ومستغلين لأنفسنا، مما أدى إلى وباء عالمي من الاحتراق النفسي والاكتئاب.
| مجتمع الإنجاز: لماذا نجلد ذواتنا بحثاً عن النجاح المستمر؟. |
مقدمة: "نعم نستطيع".. الفخ الجميل
في القرن العشرين، كان العدو واضحاً. كان هناك "مدير" يصرخ في وجهك، أو "نظام" يمنعك من الكلام، أو "دولة" تراقبك. كان القمع خارجياً.
أما اليوم، في القرن الحادي والعشرين، اختفى هذا العدو الظاهر. نحن أحرار. لا أحد يجبرنا على العمل 16 ساعة يومياً، ولا أحد يجبرنا على تعلم ثلاث لغات، أو الحصول على جسد رياضي مثالي. نحن نفعل ذلك طواعية.
شعار العصر هو "نعم نستطيع" (Yes We Can). كل شيء ممكن، والسماء هي الحدود. ولكن، كما يجادل بيونغ تشول هان في كتابه المرجعي "مجتمع الإرهاق" (The Burnout Society)، فإن هذه "الحرية" هي أخطر أنواع السجون. لأنها حولت السوط من يد "السيد" إلى يد "العبد" نفسه. نحن نجلد ذواتنا بسوط الإنجاز، ونبتسم ونحن نفعل ذلك، معتقدين أننا نحقق ذواتنا.
1. نهاية "فوكو" وبداية "هان": من السجن إلى "الجيم"
لفهم ما يحدث، يجب أن نقارن بين نموذجين للمجتمع:
أ. المجتمع التأديبي (Disciplinary Society)
هذا هو المجتمع الذي وصفه ميشيل فوكو. مجتمع "السجون، المستشفيات، المدارس، والمصانع".
- الفعل الرئيسي: "يجب عليك" (You Should).
- المشاعر السائدة: الخوف من العقاب.
- الرمز: الجدار والزنزانة. في هذا المجتمع، هناك "مجنون" و"مجرم" يجب عزلهما ليعمل النظام.
ب. مجتمع الإنجاز (Achievement Society)
هذا هو مجتمعنا الحالي. مجتمع "المكاتب المفتوحة، الصالات الرياضية (Gym)، ومختبرات الوراثة".
- الفعل الرئيسي: "أنت تستطيع" (You Can).
- المشاعر السائدة: القلق من الفشل.
- الرمز: الشاشة والمرآة. في هذا المجتمع، لم نعد خائفين من "السيد"، بل خائفين من "عدم الكفاية". تم استبدال "الممنوع" بـ "الممكن بلا حدود".
2. الاستغلال الذاتي: الوجه الخفي للنيوليبرالية
هذه هي الفكرة المركزية والأكثر رعباً في فلسفة هان. في الرأسمالية النيوليبرالية الحديثة، أصبح الاستغلال ذاتياً (Auto-exploitation).الجذور النيوليبرالية للأزمة
مجتمع الإنجاز ليس حالة نفسية فردية فحسب، بل هو الابن الشرعي للفكر النيوليبرالي الذي حول كل شيء (بما في ذلك الإنسان) إلى "سلعة".
- تحول الدولة: انتقلنا من "دولة الرعاية" التي توفر الأمان الاجتماعي، إلى "دولة السوق" التي تعامل المواطنين كـ "عملاء" أو "مستثمرين".
- خصخصة الفشل: يتم تحميل الفرد مسؤولية نجاحه أو فشله بالكامل. إذا فشلت، فالنظام ليس المخطئ، بل "عقليتك" (Mindset) هي السبب.
توطين المفهوم: المستقلون واقتصاد المنصات
يمكننا رؤية فكر هان بوضوح في منصات العمل الحر وتطبيقات التوصيل.- رائد أعمال لنفسه: يتحول الشاب هنا إلى "مشروع نفسه". هو المدير والمسوق والمحاسب. لا يوجد مدير ظالم ليثور ضده، فالخوارزمية والتقييمات (Rating) هي "السيد" الجديد غير المرئي.
- العبودية الطوعية: يعمل المستقلون لساعات طويلة (قد تصل لـ 14 ساعة) دون تأمين صحي، وهم يشعرون بـ "لذة" الدخل المباشر. هذا هو "الاستغلال الممتع"؛ أنت تستغل نفسك طواعية ظناً منك أنك حر.
3. عنف الإيجابية: بين "الوهم السام" و"الحكمة الأصيلة"
نحن نعيش في عالم يقدس "الإيجابية" ويحرم "السلبية"، وهو ما يسميه هان بـ "عنف الإيجابية".الأسطورة العربية للنجاح السام
الإيجابية السامة تغلغلت في الخطاب العربي عبر "تيك توك" و"لينكد إن"، وهي تتعارض جذرياً مع الحكمة التراثية الأصيلة:
- إنكار الألم vs الصبر: الخطاب الحديث يقول "تجاهل الألم، اصنع المستحيل"، وهو إنكار للواقع الإنساني. بينما الثقافة العربية والدينية تعترف بوجود "العسر" وتقدس قيمة "الصبر" في مواجهته، لا إنكاره.
- تحريم الشكوى: يواجه أي تعبير عن التعب بعبارات سطحية مثل "لا تكن سلبياً"، مما يجرد الإنسان من حقه في الشعور بالألم، ويحوله إلى أعراض جسدية مرضية.
4. وباء العصر الجديد: قلق الأداء الشامل (Performance Anxiety)
إلى جانب الاحتراق ونقص الانتباه، برز وباء جديد: كل شيء أصبح "أداء". الحياة لم تعد "تُعاش"، بل "تُؤدّى".- في العلاقات: قلق دائم من "هل أبدو جذاباً/ناجحاً بما يكفي؟"
- في الترفيه: حتى العطلة أصبحت مهمة عمل؛ يجب توثيقها بصور مثالية على إنستغرام. القلق هنا: "هل أستمتع بالشكل الصحيح؟".
- في الأبوة: تحولت التربية إلى مشروع لإخراج "الطفل المعجزة". حتى أوقات الراحة تحولت إلى "مهمة" يجب إتقانها، مما قضى على العفوية تماماً.
5. موت "الملل العميق" وسيادة "تعدد المهام"
ينتقد هان بشدة فكرة تعدد المهام (Multitasking). نحن نعتبرها مهارة حضارية متقدمة، لكن هان يراها "تراجعاً تطورياً".الحيوان في الغابة هو من يمارس تعدد المهام (يأكل، يراقب، يحمي) من أجل البقاء. الحضارة الإنسانية ولدت من رحم "الملل العميق" (Deep Boredom) ومن القدرة على التأمل في شيء واحد.
اليوم، قضينا على الملل. بمجرد أن نشعر بفراغ لثانية، نخرج هواتفنا. لقد فقدنا القدرة على "التأمل"، وبدون ملل، لا يوجد إبداع حقيقي، بل مجرد "إعادة تدوير" للمعلومات.
6. الخلاص: استراتيجيات نفسية للمقاومة
كيف نخرج من عجلة الهامستر هذه؟ الحل يتطلب دمج المقاومة الفلسفية بأدوات علم النفس التطبيقي:التعاطف الذاتي (Self-Compassion): بدلاً من جلد الذات عند التعثر، تعلّم أن تعامل نفسك كما تعامل صديقاً مقرباً يمر بأزمة. هذه ليست دعوة للكسل، بل هي بناء لمرونة نفسية مستدامة.
التفكير الجدلي (Dialectical Thinking): الخروج من ثنائية "ناجح تماماً أو فاشل تماماً". تبنَّ فكرة "أنا جيد بما يكفي" (Good Enough)، وأن الفشل في مشروع لا يعني فشلك كإنسان.
مقاطعة "اقتصاد الانتباه": خصص "أمسيات بلا إنترنت". حدّق في السقف، اقرأ كتاباً ورقياً. هذا "إضراب" عن كونك مستهلكاً لبياناتك.
فن "الرفض": درب نفسك على قول "لا". الرفض هو أعلى درجات الحرية في عصر الإفراط.
إعادة تعريف "القيمة": افصل قيمتك كإنسان عن إنتاجيتك الاقتصادية. أنت "كائن" (Human Being) ولست "أداة فعل" (Human Doing).
خاتمة: من "العبيد الأحرار" إلى "الثوار الهادئين"
لم يعد الطغيان يأتي بصوت عالٍ وبسوط مرئي. لقد أصبح "لطيفاً" (كما يقول هان)، يتسلل إلينا عبر وعد بالتحرر والاستقلال، محولاً إيانا إلى "عبيد أحرار" نلهث في حلقة مفرغة من الإنجاز والاستهلاك، نعتقد أننا نقود عجلة القيادة بينما نحن في الحقيقة دواب في سباق لا نهاية له.لكن المقاومة ممكنة، وهي لا تحتاج إلى صيحات عالية، بل إلى شجاعة الهدوء. ليست المقاومة بالضرورة في الخروج في مظاهرات، بل في التمرّد الهادئ على منطق العصر:
- كن كسولاً بذكاء: الكسل هنا ليس عيباً أخلاقياً، بل هو احتجاج وجودي على ثقافة الإرهاق. القيلولة هي إعلان تمرد.
- اقطع الخيط: الانقطاع المتعمد عن الشبكة هو استعادة لسيادتك على وقتك وانتباهك، وهو إضراب مصغر ضد "اقتصاد الانتباه".
- احتفل بـ "اللا-فعل": أعطِ قيمة للأنشطة التي لا عائد مادي منها: الجلوس مع عائلتك بدون خطة، المشي بدون هدف محدد، التأمل في فراغ. هذه هي مساحات الإبداع الحقيقي التي يولد فيها المعنى.
مراجع للقراءة:
- Byung-Chul Han, "The Burnout Society" (مجتمع الإرهاق).
- Byung-Chul Han, "The Scent of Time".
- Byung-Chul Han, "The Agony of Eros".