ديكتاتورية اللايك": كيف أعادت خوارزميات التواصل هندسة النفس البشرية ومفهوم الصداقة؟
(قراءة تحليلية في سيكولوجية الإنسان الرقمي)
في حقبة ما قبل العصر الرقمي، كانت "الصداقة" ميثاقاً اجتماعياً مقدساً وغير مكتوب، يُبنى ببطء عبر سنوات من المواقف المشتركة، والأسرار المتبادلة، والتواجد الجسدي في لحظات الفرح والحزن. كانت قيمة الفرد الاجتماعية تُستمد من عمق علاقاته وجودتها، ومن نزاهته وحضوره الإنساني الملموس.
أما اليوم، فنحن نقف شهوداً على تحول أنثروبولوجي مخيف. لقد انتقلنا من عصر "العلاقات" إلى عصر "الاتصالات"، ومن "المودة" إلى "الإعجاب"، لنجد أنفسنا نعيش تحت حكم نظام جديد، صارم، وغير مرئي: "ديكتاتورية اللايك". في هذا النظام، لم تعد العملة المتداولة هي الصدق أو الوفاء، بل "الانتباه" (Attention)، ولم يعد الإنسان يُعرّف بـ "من يكون"، بل بـ "كم يساوي" في سوق البيانات الرقمية.
| نحن نمسك بالهواتف، لكن في الحقيقة، "اللايكات" هي التي تمسك بنا وتحركنا. |
هذا المقال يحاول تفكيك هذه الظاهرة، ليس من باب النستالجيا (الحنين للماضي)، بل من منظور سوسيو-نفسي يحاول فهم ما الذي فعلته بنا تلك القلوب الحمراء الصغيرة.
1. تسليع الإنسان: من "الكينونة" إلى "البيانات"
أخطر ما فعلته الرأسمالية الرقمية (Surveillance Capitalism) هو أنها نجحت في تحويل المشاعر الإنسانية غير الملموسة إلى "أرقام" قابلة للقياس والبيع. هذا ما يطلق عليه علماء الاجتماع "تكميم الذات" (Quantified Self).
في الماضي، كان من المستحيل قياس "مقدار حب الناس لك" برقم محدد. كنت تشعر بذلك فقط. اليوم، أصبح الحب والقبول معادلة رياضية واضحة تظهر أسفل كل صورة.
- الوهم الرقمي: إذا حصل منشورك على 500 إعجاب، فهذا يعني "رقمياً" أنك ناجح ومحبوب. إذا حصل على 5، فأنت فاشل ومنبوذ، حتى لو كنت أطيب الناس قلباً.
- اقتصاد الانتباه: لقد أصبحنا نجمع الأصدقاء كما يجمع المستثمر الأسهم. تحولت الصداقة من غاية في ذاتها (أصادقك لأنني أحبك) إلى وسيلة (أصادقك لأنك ستزيد تفاعلي أو "الريتش" الخاص بي). هذا التسليع أفرغ العلاقات من محتواها الروحي وحولها إلى صفقات تبادل منفعة "لايك مقابل لايك".
2. الهندسة العصبية للقبول: لماذا نحن مدمنون؟
لفهم سطوة "اللايك"، يجب أن نغوص في كيمياء الدماغ. منصات التواصل الاجتماعي لم تُصمم عشوائياً، بل صُممت بناءً على مبادئ علم النفس السلوكي، وتحديداً ما يعرف بـ "نظام المكافأة المتغيرة" (Variable Reward System) الذي ابتكره العالم ب.ف. سكينر.
- حلقة الدوبامين: زر "اللايك" ليس مجرد أيقونة، بل هو حقنة دوبامين (هرمون السعادة والمكافأة) فورية. عندما تنشر صورة، أنت في الحقيقة لا تنتظر رأي الناس، بل تنتظر "الجرعة". عدم اليقين (هل سأحصل على 10 أم 100 لايك؟) هو ما يخلق الإدمان والقلق.
- هشاشة الذات: ربطنا تقديرنا لذواتنا (Self-Esteem) بهذا المؤشر الخارجي المتقلب. أصبحت ثقتنا بأنفسنا مثل البورصة، ترتفع مع "التريند" وتنهار مع التجاهل. لقد سلمنا مفاتيح استقرارنا النفسي لغرباء لا نعرفهم، وخوارزميات لا تملك قلباً.
3. مسرحية الحياة اليومية: "الذات الأدائية"
استناداً لنظرية عالم الاجتماع إرفينغ جوفمان حول "الحياة كمسرح"، ضخمت السوشيال ميديا ما يسمى بـ "الذات الأدائية" (Performative Self).
نحن لم نعد نعيش حياتنا بتلقائية، بل نؤديها كممثلين أمام جمهور دائم.
- الكواليس مقابل المسرح: حياتنا الواقعية (الكواليس) قد تكون مليئة بالفوضى، الحزن، والملل. لكن حياتنا الرقمية (المسرح) يجب أن تكون مثالية، لامعة، وسعيدة دائماً.
- موت اللحظة: هل لاحظت كيف يخرج الناس هواتفهم لتصوير الطعام قبل تذوقه؟ أو تصوير الحفل قبل الرقص؟ لقد أصبحت "صورة اللحظة" أهم من "اللحظة" نفسها. نحن نوثق حياتنا لنثبت للآخرين أننا سعداء، بدلاً من أن نكون سعداء حقاً. هذا الانفصال يخلق فراغاً وجودياً هائلاً وشعوراً دائماً بالزيف.
4. الجحيم هو الآخرون: فخ المقارنة والاكتئاب
قال الفيلسوف سارتر قديماً: "الجحيم هو الآخرون". في العصر الرقمي، الجحيم هو "صور الآخرين".
تفرض علينا المنصات مقارنة غير عادلة وقاتلة: نحن نقارن "باطننا" الحقيقي والمليء بالعيوب، بـ "ظاهر" الآخرين المنقح والمعدل بالفلاتر.
- الحرمان النسبي (Relative Deprivation): حتى لو كانت حياتك جيدة، ستشعر بالبؤس عندما ترى صور أصدقائك في المالديف أو حفلات الزفاف الفاخرة. يتولد شعور دائم بالنقص: لماذا الجميع ينجح إلا أنا؟ لماذا الجميع سعداء إلا أنا؟
- العداء الصامت: هذه المقارنات تزرع بذور الحسد والغيرة حتى بين الأصدقاء المقربين. بدلاً من أن تفرح لنجاح صديقك، قد تشعر بنغزة ألم لأن نجاحه يذكرك بتأخرك. هذا يسمم العلاقات ويحول الصداقة إلى منافسة خفية ومستنزفة.
5. موت الخصوصية ونهاية الحميمية
الصداقة الحقيقية تتطلب مساحة من الخصوصية والسرية. الحميمية تنمو في الظل، بعيداً عن الأعين. لكن "ديكتاتورية اللايك" تطلب الشفافية المطلقة.
- المجتمع الشفاف: كما يقول الفيلسوف بيونغ تشول هان، نحن نعيش في "مجتمع الشفافية" حيث أصبح "السر" جريمة. إذا لم تشارك صور عيد ميلادك، فكأنك لم تحتفل. إذا لم تنعِ الميت على فيسبوك، فكأنك لم تحزن عليه.
- الابتزاز العاطفي: أصبحنا مطالبين بإثبات مشاعرنا علناً. "لماذا لم تضع لايك على صورتي؟ هل أنت غاضب مني؟". تحولت العلاقات إلى واجبات رقمية ثقيلة، وفقدت عفويتها. الصديق الحقيقي هو الذي يمكنك أن تغيب عنه شهراً ثم تعود وكأن شيئاً لم يكن، لكن الخوارزمية لا ترحم الغياب.
6. نحو "إنسانية رقمية" جديدة: الخلاص الممكن
هل الحل هو اعتزال التكنولوجيا والعيش في كهف؟ بالطبع لا. التكنولوجيا أداة، والمشكلة تكمن في كيفية استخدامنا لها وفي السلطة التي منحناها إياها على أرواحنا.
التمرد على "ديكتاتورية اللايك" يتطلب وعياً جذرياً وشجاعة أخلاقية:
- فك الارتباط (Decoupling): يجب أن تقتنع، يقيناً، أن قيمتك كإنسان، كأب، كصديق، أو كمبدع، لا علاقة لها بالأرقام التي تظهر على شاشتك.
- العودة للنوعية: استثمر في "العمق". جلسة قهوة حقيقية لمدة ساعة مع صديق، بدون هواتف، تعادل آلاف اللايكات المزيفة.
- العيش في الظل: جرب متعة أن تفعل شيئاً جميلاً ولا تصوره. أن تسافر ولا تخبر أحداً. استعد حقك في "السرية" وفي امتلاك لحظاتك الخاصة وحدك.
ختاماً:
لقد صُممت هذه المنصات لتجعلنا "جوعى" عاطفياً، نبحث دائماً عن الفتات الرقمي. لكن الغذاء الحقيقي للروح البشرية لا يوجد في السيرفرات، بل يوجد في نظرة عين صادقة، في لمسة يد، وفي حديث عميق لا يقطعه صوت إشعار. لنستعد إنسانيتنا من قبضة الخوارزميات، قبل أن نتحول نحن أنفسنا إلى مجرد "محتوى".