سوسيولوجيا ماركس: المفارقة الكبرى.. لماذا احتقر "مؤسس" علم الاجتماع السوسيولوجيا؟
هل تبحث عن "سوسيولوجيا ماركس"؟ اكتشف لماذا رفض كارل ماركس مصطلح "السوسيولوجيا" واعتبره "علماً برجوازياً"، وما هو "العلم الاجتماعي" الذي قدمه بديلاً لفهم الصراع الطبقي.
![]() |
| صورة بالأسود والأبيض تقابل بين أوغست كونت وكارل ماركس، ممثلي السوسيولوجيا والعلم الاجتماعي النقدي. |
المقدمة: اللغز وراء "سوسيولوجيا ماركس"
عندما يبحث أي طالب في علم الاجتماع عن الآباء المؤسسين، تبرز ثلاثة أسماء لا مفر منها: كارل ماركس، وماكس فيبر، وإميل دوركهايم. يُنظر إلى ماركس، على وجه الخصوص، باعتباره الركيزة الأساسية لـ "سوسيولوجيا الصراع". لكن ماذا لو علمت أن ماركس نفسه لم يستخدم مصطلح "سوسيولوجيا" (Sociologie) إلا نادراً، وكان ذلك في سياق السخرية والاحتقار؟
هذه هي المفارقة الكبرى التي تقع في قلب العلاقة بين كارل ماركس وعلم الاجتماع. ففي حين أن أفكاره حول الطبقة، والاغتراب، والصراع، والأيديولوجيا تشكل حجر الزاوية في الفهم السوسيولوجي الحديث، كان ماركس يرفض هذا "العلم" الوليد في زمنه، واصفاً إياه بـ "العلم البرجوازي".
لم يكن ماركس "عالم اجتماع" (Sociologist) بالمعنى الذي كان عليه معاصره أوغست كونت. لقد كان فيلسوفاً، واقتصادياً، ومؤرخاً، وقبل كل شيء، "ثورياً". كان هدفه ليس فقط تفسير العالم، ولكن تغييره.
في هذا المقال الشامل، سنغوص في جذور هذا الرفض، ونفكك الأسباب العميقة لاحتقار ماركس للسوسيولوجيا الكونتية، ونستكشف البديل الذي قدمه تحت مسمى "العلم الاجتماعي" (Social Science)، لنفهم في النهاية كيف ولدت "السوسيولوجيا الماركسية" رغم أنف مؤسسها.
ماركس ضد كونت: جذور القطيعة الفكرية
لفهم موقف ماركس، يجب أن نفهم من كان يقف على الضفة الأخرى. كان أوغست كونت (Auguste Comte)، الأب الرسمي ومؤسس السوسيولوجيا، هو الخصم الفكري اللدود.
1. أوغست كونت والسوسيولوجيا "الوضعية"
صاغ كونت مصطلح "السوسيولوجيا" ليصف "الفيزياء الاجتماعية" (Social Physics). كان هدفه واضحاً: تطبيق المنهج العلمي الصارم (كما في العلوم الطبيعية) لدراسة المجتمع. هذه هي الفلسفة "الوضعية" (Positivism).
كان كونت مدفوعاً بهاجس "النظام والتقدم" (Order and Progress) في أعقاب الفوضى التي أحدثتها الثورة الفرنسية. لقد أراد علماً "يُصلح" المجتمع ويقوده نحو الاستقرار. بالنسبة لكونت، كانت دراسة المجتمع وسيلة لـ "التنبؤ من أجل التحكم".
2. لماذا اعتبر ماركس السوسيولوجيا "علماً برجوازياً"؟
هنا يكمن جوهر الخلاف. بالنسبة لماركس، لم تكن "الفوضى" التي أراد كونت إصلاحها سوى التعبير الواضح عن التناقضات الداخلية للرأسمالية.
- علم للإصلاح أم للثورة؟: كونت أراد "إصلاح" الرأسمالية وجعلها تعمل بشكل أفضل. ماركس أراد "تدمير" الرأسمالية واستبدالها بالشيوعية.
- أيديولوجيا مُقنّعة: من وجهة نظر ماركس، فإن "السوسيولوجيا" التي قدمها كونت لم تكن علماً موضوعياً كما ادعت، بل كانت أيديولوجيا في خدمة الطبقة الحاكمة (البرجوازية). لقد كانت محاولة لإضفاء "قوانين علمية طبيعية" على نظام اجتماعي (الرأسمالية) هو في جوهره نظام تاريخي، ظالم، ومؤقت.
- الاحتقار والسخرية: لهذا السبب، وكما أشار جوليان فروند (Julien Freund) في كتابه الكلاسيكي، لم يذكر ماركس كونت "إلا في معرض السخرية منه والتعريض به". ففي نظر ماركس، كان كونت مجرد مفكر برجوازي يحاول تبرير الوضع الراهن تحت ستار "العلم".
-
البنية التحتية (Base): هي الأساس الاقتصادي للمجتمع. وتتكون من:
- قوى الإنتاج: التكنولوجيا، الآلات، المصانع، المواد الخام، ومهارات العمال.
- علاقات الإنتاج: العلاقات الاجتماعية التي يدخل فيها الناس لإنتاج (مثل: علاقة العامل برب العمل، أو علاقة القن بالسيد الإقطاعي).
- البنية الفوقية (Superstructure): هي كل ما ينشأ فوق هذا الأساس الاقتصادي، مثل: الدولة، القانون، الدين، الفلسفة، الفن، والأسرة.
- الطبقة الحاكمة (البرجوازية): التي تملك وسائل الإنتاج (المصانع، الأراضي، رأس المال).
- الطبقة المحكومة (البروليتاريا): التي لا تملك سوى قوة عملها، وتضطر لبيعها للبرجوازية من أجل البقاء.
-
الاغتراب (Alienation): هو مفهوم سوسيولوجي-نفسي يصف حالة العامل في ظل الرأسمالية. العامل مغترب عن:
- نتاج عمله: (الذي لا يملكه).
- عملية العمل: (التي لا يتحكم بها).
- ذاته الحقيقية: (حيث يصبح العمل مجرد وسيلة للعيش لا لتحقيق الذات).
- زملائه العمال: (الذين يتحولون إلى منافسين).
- الأيديولوجيا (Ideology): هي "البنية الفوقية" الفكرية. الأيديولوجيا عند ماركس ليست مجرد "أفكار"، بل هي "الأفكار التي تخدم مصالح الطبقة الحاكمة". الدين، القانون، وحتى "السوسيولوجيا" الكونتية، هي أشكال من الأيديولوجيا التي تهدف إلى إقناع البروليتاريا بأن النظام القائم هو نظام "طبيعي" و"أبدي".
- المادية التاريخية كبديل كامل: في ظل الستالينية، تم تحويل "المادية التاريخية" (أو "الديامات" Diamat) إلى "علم" شامل وحتمي وقاطع. لقد اعتبرت العقيدة الرسمية أنها قدمت "القوانين الحديدية" للتاريخ التي لا تقبل الجدال.
- السوسيولوجيا كتهديد أيديولوجي: أي محاولة لإجراء "علم اجتماع" تجريبي (Empirical) - مثل إجراء استطلاعات رأي حول الفقر، أو الجريمة، أو البيروقراطية في الاتحاد السوفيتي - كانت تُعتبر "انحرافاً برجوازياً" وتشكيكاً في "الجنة العمالية" المزعومة.
- لا داعي لعلم الاجتماع: من منظورهم، السوسيولوجيا وُجدت لدراسة "مشاكل" المجتمعات الرأسمالية. وبما أن المجتمع الشيوعي (نظرياً) قد حل هذه التناقضات، فلا حاجة أصلاً لعلم اجتماع.
- مدرسة فرانكفورت (The Frankfurt School): مفكرون مثل أدورنو، وهوركهايمر، وهربرت ماركوز. هؤلاء لم يرفضوا "السوسيولوجيا"، بل دمجوا تحليل ماركس الاقتصادي مع سوسيولوجيا ماكس فيبر (حول العقلانية والبيروقراطية) ومع تحليل فرويد النفسي. لقد طوروا "النظرية النقدية" لدراسة "صناعة الثقافة"، والإعلام الجماهيري، وكيف تسيطر الرأسمالية على وعي الناس ليس بالقمع فقط، بل بالإغواء والاستهلاك.
- أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci): طور مفهوم "الهيمنة الثقافية" (Cultural Hegemony) ليشرح كيف تحكم البرجوازية ليس فقط بالقوة (الشرطة والجيش)، بل بـ "الرضا" والموافقة، عبر السيطرة على الثقافة والتعليم والإعلام. هذا تحليل سوسيولوجي بامتياز.
- لوي ألتوسير (Louis Althusser): قدم قراءة بنيوية لماركس، محاولاً استخلاص "العلم" الصارم من كتابات ماركس، مع التركيز على "أجهزة الدولة الأيديولوجية" (مثل المدرسة والأسرة) ودورها في إعادة إنتاج النظام.
"لم يستعمل ماركس اصطلاح 'السوسيولوجيا'. كان يستعمل عبارة 'العلم الاجتماعي'... ويعود هذا الأمر إلى الاحتقار الذي كان يطبع موقف ماركس من السوسيولوجيا بوجه عام. وقد ظل هذا الاحتقار على حاله في الماركسية السوفياتية حتى وفاة ستالين. فالموقف العام الذي وقفته الماركسية إزاء هذا العلم هو أنه علم بورجوازي."
"العلم الاجتماعي" عند ماركس: البديل النقدي والثوري
إذا رفض ماركس "السوسيولوجيا"، فماذا قدم بديلاً؟ لقد قدم ما أسماه "العلم الاجتماعي" أو "نقد الاقتصاد السياسي". هذا العلم لم يكن "وصفياً" (Descriptive) مثل علم كونت، بل كان "نقدياً" (Critical) و"مادياً" (Materialist).
أساس هذا العلم الاجتماعي الماركسي يرتكز على مفاهيم ثورية غيرت طريقة رؤيتنا للعالم.
1. المادية التاريخية (Historical Materialism)
هذه هي نظرية ماركس الكبرى في التغيير الاجتماعي. ببساطة، هي تعني أن الطريقة التي يُنظم بها الناس إنتاجهم المادي (الاقتصاد) هي التي تحدد شكل المجتمع، وقوانينه، وسياسته، وثقافته.
بالنسبة لماركس، فإن البنية التحتية تحدد البنية الفوقية. فالدولة في المجتمع الرأسمالي (بنية فوقية) موجودة لخدمة مصالح الطبقة البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج (بنية تحتية). هذا التحليل هو في صميمه "سوسيولوجيا" للقوة والسلطة.
2. نظرية الصراع الطبقي (Class Struggle Theory)
هنا يكمن "محرك التاريخ" عند ماركس. ففي حين رأى كونت المجتمع كـ "كائن عضوي" متناغم (أو يجب أن يكون)، رآه ماركس كـ "ساحة صراع" دائمة.
"إن تاريخ أي مجتمع حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية." (من البيان الشيوعي)
في علم الاجتماع عند ماركس، المجتمع منقسم بشكل أساسي بين طبقتين:
هذا الصراع ليس مجرد "مشكلة" اجتماعية يمكن إصلاحها (كما يرى كونت)، بل هو القوة الدافعة التي ستقود حتماً إلى ثورة وتغيير البنية الاجتماعية بأكملها.
3. الاغتراب والأيديولوجيا (Alienation and Ideology)
قدم "علم ماركس الاجتماعي" مفاهيم سوسيولوجية عميقة لا تزال مركزية حتى اليوم:
الماركسية السوفياتية: استمرار القطيعة مع علم الاجتماع
لم يكن موقف ماركس الشخصي حدثاً عابراً. لقد تحول هذا الرفض إلى عقيدة رسمية، خاصة في الماركسية السوفياتية.
كما أشار النص المرجعي، "ظل هذا الاحتقار على حاله في الماركسية السوفياتية حتى وفاة ستالين". لماذا؟
ولادة "السوسيولوجيا الماركسية" في الغرب
المفارقة المذهلة هي أن "سوسيولوجيا ماركس" الحقيقية لم تزدهر في موسكو، بل في فرانكفورت وباريس وروما.
"لم تقترن السوسيولوجيا بالماركسية إلا لدى المفكرين في أوروبا الغربية."
هؤلاء المفكرون (الذين يُعرفون بـ "الماركسيين الجدد" أو "الماركسيين الغربيين") أدركوا أن أفكار ماركس ليست "نهاية" التاريخ، بل "أدوات" نقدية لفهم أشكال جديدة من الرأسمالية والسلطة لم يعاصرها ماركس.
هؤلاء هم الذين بنوا "السوسيولوجيا الماركسية" الحقيقية. لقد أخذوا الأدوات النقدية من "علم ماركس الاجتماعي" وطبقوها على مجالات جديدة.
الخاتمة: علم "اجتماعي" أم "سوسيولوجيا" ماركس؟
نعود إلى نقطة البداية. هل من الدقة الحديث عن "سوسيولوجيا ماركس"؟
كما يخلص جوليان فروند، فإن "توخي الدقة يقتضي منا أن نتحدث عن علم ماركس الاجتماعي لا عن سوسيولوجيا ماركس".
هذا صحيح من الناحية "التاريخية" و"المصطلحية". ماركس رفض المصطلح لأنه ارتبط بمشروع كونت "الإصلاحي" و"البرجوازي".
ولكن من الناحية "العملية" و"التأثيرية"، فإن كارل ماركس هو، وبدون أدنى شك، "أب مؤسس" لعلم الاجتماع.
إن العلم الاجتماعي الذي قدمه ماركس - بتحليله للبنى الاقتصادية، والصراع الطبقي، والاغتراب، والأيديولوجيا - هو الذي منح السوسيولوجيا بُعدها النقدي. لقد حوّل علم الاجتماع من مجرد "وصف" للنظام إلى "أداة" لتشريحه ونقده وتغييره.
في النهاICE، سواء أسميناها "سوسيولوجيا ماركس" أو "علم ماركس الاجتماعي"، فإن الحقيقة واحدة: لا يمكن فهم مجتمعاتنا الحديثة، بتناقضاتها وصراعاتها وأشكال قوتها، دون المرور بالأدوات التحليلية الجبارة التي صاغها كارل ماركس.
💡 أسئلة شائعة (FAQ)
س1: هل كان كارل ماركس عالم اجتماع؟
ج: من الناحية الفنية، لا. لم يعرّف ماركس نفسه كـ "عالم اجتماع" (Sociologist) ورفض هذا المصطلح الذي صاغه أوغست كونت. لقد عرّف نفسه كفيلسوف وناقد للاقتصاد السياسي. ومع ذلك، يُعتبر اليوم أحد الآباء المؤسسين الرئيسيين لعلم الاجتماع (تحديداً سوسيولوجيا الصراع) لأن أفكاره حول الطبقة والسلطة والبنية الاجتماعية هي أساسية في هذا المجال.
س2: ما هو موقف ماركس من أوغست كونت؟
ج: كان موقفاً يتسم بالرفض والاحتقار. اعتبر ماركس أن سوسيولوجيا كونت "الوضعية" هي "علم برجوازي" يهدف إلى إصلاح وتبرير النظام الرأسمالي القائم، وليس إلى تغييره بشكل ثوري. كان يرى أن هدف كونت هو "النظام" على حساب "العدالة".
س3: ما هو الفرق بين "سوسيولوجيا ماركس" و "علم ماركس الاجتماعي"؟
ج: "علم ماركس الاجتماعي" هو المصطلح الذي فضله ماركس لوصف منهجه (المادية التاريخية)، وهو علم "نقدي" و "ثوري" يهدف إلى كشف تناقضات الرأسمالية وتغييرها. أما مصطلح "سوسيولوجيا ماركس" (أو السوسيولوجيا الماركسية)، فهو مصطلح لاحق استخدمه مفكرون في أوروبا الغربية (مثل مدرسة فرانكفورت) لوصف المناهج السوسيولوجية التي تستند إلى أفكار ماركس النقدية لتحليل المجتمع.
س4: لماذا لم يظهر علم الاجتماع الماركسي في الاتحاد السوفيتي؟
ج: لأن العقيدة الستالينية اعتبرت أن "المادية التاريخية" هي العلم النهائي والكامل للمجتمع، وأنها قدمت كل الإجابات. كان يُنظر إلى "السوسيولوجيا" (خاصة التجريبية) كعلم غربي منافس وبرجوازي، يطرح أسئلة "انتقادية" حول مجتمع يُفترض أنه "مثالي" ولا يعاني من تناقضات طبقية.
