📁 آخر الأخبار

ما هي الازدواجية في علم النفس؟ psychology dualism

ما هي الازدواجية في علم النفس؟ رحلة من ديكارت إلى علم الأعصاب

من نحن؟ هل نحن مجرد أجساد مادية، آلات بيولوجية معقدة تتفاعل مع العالم؟ أم أن هناك جوهرًا آخر، "شبحًا في الآلة"، روحًا أو عقلًا غير مادي هو ما يمثل حقيقتنا؟ هذا السؤال حول طبيعة الوعي البشري هو أحد أقدم وأعمق الألغاز التي واجهت الفلاسفة والمفكرين والعلماء على مر العصور. إنه السؤال الذي يقع في قلب مشكلة العقل والجسد، والذي يقودنا مباشرة إلى أحد أكثر المفاهيم تأثيرًا في تاريخ الفكر الإنساني: الازدواجية.
في هذه المقالة الافتتاحية من سلسلة "مقدمة في علم النفس"، سنخوض رحلة لاستكشاف الازدواجية في علم النفس. سنتتبع جذورها التاريخية، ونغوص في حُجج أشهر المدافعين عنها، ونكتشف لماذا تبدو هذه الفكرة فطرية ومقنعة إلى هذا الحد، قبل أن نواجه التحدي العلمي الذي قدمه علم الأعصاب الحديث والذي يهدد بقلب هذه الفكرة رأسًا على عقب.


الازدواجية في علم النفس
الازدواجية في علم النفس.

نبذة سريعة عن تاريخ علم النفس: البحث عن الروح

قبل أن يصبح علم النفس Psychology - المصطلح الذي يعني حرفيًا "دراسة الروح" - علمًا تجريبيًا، كان رحلة طويلة من التأمل الفلسفي. منذ آلاف السنين، حاول المفكرون فهم العقل البشري. فالفيلسوف اليوناني أرسطو اعتقد أن الوعي ينبع من القلب، بينما في الصين القديمة، طُورت أول اختبارات نفسية في العالم لإلزام الموظفين الحكوميين بتقييمات للشخصية والذكاء.
وفي العصر الذهبي للإسلام، كان الطبيب الرازي من أوائل من تعاملوا مع المرض النفسي كحالة طبية، وخصص له جناحًا للعلاج في مستشفى بغداد. كانت كل هذه الجهود مدفوعة بنفس الدافع: محاولة الإجابة على الأسئلة الجوهرية حول وجودنا.
لم يترسخ علم النفس بشكله الحديث، كعلم يدرس السلوك والعمليات العقلية، إلا في منتصف القرن التاسع عشر، لينقسم لاحقًا إلى مجالات متخصصة مثل علم الأعصاب، وعلم نفس النمو، وعلم النفس المعرفي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس السريري. لكن قبل كل هذه التطورات، كانت هناك فكرة واحدة تهيمن على النقاش: فكرة أننا كائنات مزدوجة.

تعريف الازدواجية: الفكرة التي سيطرت على الفكر البشري

ببساطة، الازدواجية (Dualism) هي الاعتقاد بأن العقل والجسد كيانان منفصلان ومختلفان جوهريًا. الجسد مادي، يشغل حيزًا في الفضاء، ويخضع لقوانين الفيزياء. أما العقل (أو الروح أو النفس)، فهو غير مادي، لا يشغل حيزًا، وهو مصدر أفكارنا ومشاعرنا ووعينا.
هذه الفكرة ليست مجرد نظرية فلسفية، بل هي جزء لا يتجزأ من معظم الأديان والأنظمة الفكرية حول العالم. لكن الشخصية الأكثر ارتباطًا بالصياغة المنهجية لهذه النظرية هو الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت.

رينيه ديكارت: المهندس الأكبر لنظرية الازدواجية

في القرن السابع عشر، قدم ديكارت دفاعًا قويًا ومنطقيًا عن الازدواجية، أصبح حجر الزاوية في الفلسفة الغربية لقرون. تساءل ديكارت: هل البشر مجرد آلات مادية؟ وكانت إجابته قاطعة: لا.
اعتقد ديكارت أن الحيوانات بالفعل آلات مادية، أو "آلات وحشية" تعمل وفقًا لمبادئ ميكانيكية بحتة. أما البشر، فرغم امتلاكهم لأجساد مادية تعمل كآلات، إلا أنهم يمتلكون شيئًا فريدًا: عقلًا (أو روحًا) غير مادي يسكن هذا الجسد ويتفاعل معه. ولإثبات وجهة نظره، قدم حجتين رئيسيتين.

الحجة الأولى: نحن لسنا آلات محدودة برد الفعل!

طور ديكارت هذه الحجة أثناء تأمله للروبوتات الهيدروليكية المذهلة في حدائق فرنسا الملكية. كانت هذه الروبوتات تتفاعل مع الزوار؛ فعندما يخطو شخص على لوحة معينة، يظهر فارس يلوح بسيفه. لاحظ ديكارت أن هذه الآلات، مثلها مثل أجسادنا، تستجيب للمؤثرات. فعندما تطرق على ركبة شخص ما، ترتفع ساقه. فهل يعني هذا أننا مجرد آلات متطورة؟
أجاب ديكارت بالنفي. السبب، كما قال، هو أن سلوكنا ليس محدودًا بردود أفعال مبرمجة. نحن نمتلك قدرة لا نهائية على الإبداع والتصرف بعفوية، وأوضح مثال على ذلك هو اللغة. يمكن للآلة أن تجيب على سؤال "كيف حالك؟" بـ "أنا بخير، شكرًا لك". لكن الإنسان يمكنه أن يجيب بعدد لا نهائي من الطرق: "أنا في أفضل حال!"، أو "لست على ما يرام اليوم"، أو حتى أن يروي نكتة. هذه القدرة على توليد أفكار وجمل جديدة لا حصر لها هي دليل، في نظر ديكارت، على وجود عقل غير مادي لا يخضع للقيود الميكانيكية.

الحجة الثانية: يمكنني أن أشك في جسدي، ولكن ليس في تفكيري

الحجة الثانية والأكثر شهرة تعتمد على منهج الشك الجذري. قرر ديكارت أن يشك في كل شيء يمكن الشك فيه. شك في وجود العالم، وشك في حواسه التي قد تخدعه، وشك حتى في وجود جسده. تساءل: كيف أعرف أنني لست مجنونًا أو أحلم؟ قد يظن المجانين أن لديهم أطرافًا لا يملكونها، فكيف أتأكد من أن جسدي حقيقي؟
وسط هذا البحر من الشك، وجد ديكارت يقينًا واحدًا لا يمكن دحضه: حقيقة أنه يفكر. مجرد فعل الشك هو في حد ذاته دليل على وجود فكر. حتى لو كان هناك "شيطان ماكر" يخدعه، فلا بد أنه موجود لكي يتم خداعه. من هنا، توصل إلى استنتاجه الخالد: "أنا أفكر، إذن أنا موجود" (Cogito, ergo sum).
بالنسبة لديكارت، كان هذا دليلًا قاطعًا على الازدواجية. بما أنه يستطيع الشك في وجود جسده، لكن لا يستطيع الشك في وجود عقله المفكر، فلا بد أن العقل والجسد شيئان مختلفان ومنفصلان.

لماذا تبدو الازدواجية فطرية ومقنعة؟

بعيدًا عن حجج ديكارت الفلسفية، تكمن قوة الازدواجية في أنها تتماشى مع حدسنا وتجاربنا اليومية.

الازدواجية في اللغة: نتحدث عن أجسادنا كأنها ممتلكات، فنقول "ذراعي تؤلمني" أو "عقلي مشغول". نحن نتصرف لغويًا كما لو أن هناك "أنا" تمتلك هذا الجسد وهذا العقل، مما يعزز فكرة الانفصال.

الازدواجية في الخيال والأدب: لا نجد أي صعوبة في فهم القصص التي يتم فيها تبادل الأجساد أو انفصال الروح عن الجسد. في قصة فرانز كافكا الشهيرة "المسخ"، نتخيل بسهولة استيقاظ "جريجور سامسا" في جسد حشرة، مع بقاء وعيه الإنساني سليمًا. وفي ملحمة هوميروس، نتعاطف مع رفاق أوديسيوس الذين حوّلتهم الساحرة إلى خنازير، لكن "عقولهم ظلت كما هي". قدرتنا على تخيل هذه السيناريوهات تظهر مدى تجذر الفكر الازدواجي فينا.

الازدواجية والإيمان بالحياة بعد الموت: الفكرة القائلة بأن "أنت" الحقيقي - روحك أو وعيك - يمكن أن تنجو من فناء الجسد هي التعبير الأسمى عن الازدواجية. هذا الاعتقاد مشترك بين معظم الأديان والثقافات، وحتى بين بعض الذين لا يتبعون أي دين. أظهر استطلاع شهير أن نسبة من الملحدين يعتقدون أنهم سيذهبون إلى الجنة بعد الموت، مما يدل على أن فكرة انفصال الذات عن الجسد قد تكون أعمق من المعتقدات الدينية الصريحة.

التحدي العلمي: هل الازدواجية مجرد وهم؟

على الرغم من قوة الازدواجية وقبولها الواسع، إلا أن الإجماع العلمي الحديث، خاصة في مجال علم الأعصاب، يراها فكرة خاطئة.

"الفرضية المدهشة": صعود المادية

صاغ العالم الحائز على جائزة نوبل فرانسيس كريك ما أسماه "الفرضية المدهشة"، والتي تنص على أن: "أفراحك وأحزانك، وذكرياتك وطموحاتك، وإحساسك بالهوية الشخصية والإرادة الحرة، ليست في الواقع سوى سلوك مجموعة كبيرة من الخلايا العصبية والجزيئات المرتبطة بها".
هذه الفرضية هي جوهر المادية (Materialism)، وهي النظرة الفلسفية المعاكسة للازدواجية. ترى المادية أنه لا يوجد شيء غير مادي؛ فالعقل ليس كيانًا منفصلًا، بل هو ببساطة ما يفعله الدماغ. مشاعرنا وأفكارنا وقراراتنا هي نتاج عمليات كهروكيميائية في أدمغتنا.

أدلة من علم الأعصاب

الادعاء بأن العقل هو الدماغ ليس مجرد افتراض فلسفي، بل هو مدعوم بأدلة قوية ومتزايدة:
تأثير تلف الدماغ: منذ زمن طويل، لاحظ الأطباء أن إصابة في الرأس يمكن أن تغير شخصية الإنسان وقدراته العقلية بشكل جذري. أمراض مثل الزهايمر أو الزُهري يمكن أن تدمر العقل تدريجيًا. هذا الارتباط القوي بين حالة الدماغ المادية والحالة العقلية يدعم فكرة أنهما وجهان لعملة واحدة.

تأثير المواد الكيميائية: الكافيين، الكحول، ومختلف الأدوية النفسية يمكنها تغيير مزاجنا وإدراكنا وقدرتنا على التفكير بشكل كبير. هذا يثبت أن عملياتنا العقلية تعتمد بشكل مباشر على كيمياء الدماغ.

تقنيات تصوير الدماغ: مع ظهور تقنيات مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، أصبح بإمكان العلماء رؤية الدماغ أثناء عمله. يمكنهم الآن تحديد مناطق معينة من الدماغ تنشط عندما نستمع إلى الموسيقى، أو نحل مسألة رياضية، أو نشعر بالخوف، أو حتى عندما نفكر في معضلة أخلاقية. هذا التناظر الدقيق بين النشاط العقلي والنشاط الدماغي هو أقوى دليل ضد فكرة وجود عقل غير مادي منفصل.

مشكلة ديكارت التي لم تُحل

عانت نظرية الازدواجية دائمًا من مشكلة جوهرية فشل ديكارت نفسه في حلها: مشكلة التفاعل. إذا كان العقل غير مادي والجسد ماديًا، فكيف بالضبط يتفاعلان؟ كيف يمكن لفكرة غير مادية (مثل قرار رفع يدك) أن تسبب حركة في عالم مادي (رفع اليد بالفعل)؟ لم يستطع ديكارت تقديم إجابة مقنعة، وظلت هذه "الفجوة التفسيرية" نقطة الضعف القاتلة في نظريته.

مقالات ذات صلة 

ما هو علم النفس؟ النشأة، الفروع، والأهداف الأساسية

نظرية التصنيف الاجتماعي: كيف ينظم عقلك العالم من حولك

التمييز الاجتماعي: تعريفه، أشكاله وأسبابه

نظريات التعلم: فهم العقول واستراتيجيات التعليم


خاتمة: بين الازدواجية الفطرية والحقيقة العلمية

نحن نعيش في مفارقة. من ناحية، حدسنا اليومي ولغتنا وخيالنا ومعتقداتنا العميقة تدفعنا بقوة نحو الازدواجية. نحن نشعر بأننا أكثر من مجرد أجسادنا. ومن ناحية أخرى، فإن كل الأدلة العلمية المتاحة تشير بقوة إلى المادية؛ إلى أن العقل هو نتاج الدماغ.
إن الإجماع العلمي اليوم هو أن مشاعرنا، وضمائرنا، وإرادتنا الحرة، ووعينا، كلها ذات أصل مادي. الإنسان، من منظور علمي، هو دماغه. لكن هذا الاستنتاج يفتح الباب أمام أسئلة أكثر إثارة وتعقيدًا: كيف يمكن لهذا العضو الرمادي الصغير، بكل تلافيفه وتجاويفه، أن يولد كل هذا الثراء من التجارب؟ كيف ينبثق الفكر من نسيج الخلايا العصبية؟ هذا هو التحدي الكبير الذي يواجهه علم النفس وعلم الأعصاب اليوم، وهو ما سنتناوله في المقالات القادمة من هذه السلسلة. 
المصادر:

Mind-body dualism 

PhilPapers 

تعليقات