📁 آخر الأخبار

الذات الاجتماعية: شرح معمق لنظرية جورج هربرت ميد حول الذات والعقل والمجتمع (Socialized Self)

الذات الاجتماعية: شرح معمق لنظرية جورج هربرت ميد حول الذات والعقل والمجتمع (Socialized Self)

ما هي "الذات الاجتماعية" عند جورج هربرت ميد؟ دليل شامل يشرح نظريته في التفاعل الرمزي، نشأة الذات (I & Me)، العقل، والمجتمع كمفاهيم مترابطة ومتشكلة اجتماعياً.

(مقدمة: لغز العلاقة بين الفرد والمجتمع)

​كيف نصبح "أنفسنا"؟ هل "الذات" (Self) شيء نولد به، كيان ثابت ومستقل يسكن داخلنا؟ أم أنها شيء يتشكل ويتغير باستمرار بتأثير العالم من حولنا؟ وما هي العلاقة بين "ذاتنا" الفردية، و"عقلنا" المفكر، و"المجتمع" الواسع الذي نعيش فيه؟

​هذه الأسئلة الجوهرية كانت محور اهتمام الفيلسوف وعالم النفس الاجتماعي الأمريكي جورج هربرت ميد (George Herbert Mead) (1863-1931)، الذي يُعتبر بحق "أب التفاعل الرمزي" (Father of Symbolic Interactionism). قدم ميد رؤية ثورية، لا تزال مؤثرة حتى يومنا هذا، تتحدى الفهم التقليدي للفرد ككيان منعزل.

​يرى ميد أن الذات، والعقل، والمجتمع ليست كيانات منفصلة، بل هي جوانب مترابطة لعملية اجتماعية واحدة ومستمرة. المجتمع يؤثر في تشكيل العقل والذات، والعقل والذات بدورهما يؤثران ويعيدان تشكيل المجتمع.


جورج هربرت ميد
جورج هربرت ميد.

​في هذه المقالة الشاملة، سنغوص في أعماق مفهوم "الذات الاجتماعية" (Socialized Self) عند ميد، مستكشفين كيف تنشأ الذات من خلال التفاعل، وما هي مراحل تطورها، وماذا يعني التمييز بين "الأنا الفاعلة (I)" و"الأنا الاجتماعية (Me)"، وكيف يرتبط كل ذلك بالعقل والمجتمع.

 جورج هربرت ميد: الفيلسوف البراغماتي وعلم الاجتماع

​لفهم نظرية ميد، من المهم معرفة خلفيته. كان ميد فيلسوفاً ينتمي للتيار البراغماتي (Pragmatism)، الذي يؤمن بأن الأفكار والنظريات يجب أن تُفهم وتُقيّم بناءً على "نتائجها العملية" و"وظيفتها" في حل المشكلات. كما تأثر بعلم النفس السلوكي (خاصة في بداياته)، لكنه طور نسخة "اجتماعية" منه تركز على التفاعل والرموز بدلاً من مجرد المثير والاستجابة.

​قضى ميد معظم حياته المهنية في جامعة شيكاغو، وكان محاضراً مؤثراً ألهم جيلاً من علماء الاجتماع. ومن المفارقات أنه لم ينشر كتاباً واحداً خلال حياته؛ فأشهر أعماله، "العقل والذات والمجتمع" (Mind, Self, and Society)، هو في الحقيقة تجميع لملاحظات ومحاضرات جمعها طلابه بعد وفاته.

​مفهوم "الذات" (The Self) عند ميد: نتاج اجتماعي

​يعتقد ميد أن "الذات" ليست شيئاً نولد به. إنها ليست موجودة عند الولادة.

  • الذات فريدة للبشر: الحيوانات ليس لديها "ذات" بالمعنى الذي يقصده ميد، لأن الذات تتطلب قدرات رمزية وتفاعلية معقدة.
  • الذات تتطور اجتماعياً: "الذات موجودة فقط في البشر [...] لأنه يجب تطويرها من خلال النشاط الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية؛ 'الذات' لا يمكنها أن تنمو بدون تفاعل اجتماعي."
  • الذات ليست موجودة عند الرضع: الأطفال الصغار جداً ليس لديهم بعد "ذات" لأنهم لم ينخرطوا بما يكفي في التفاعلات الاجتماعية ولم يطوروا القدرة على رؤية أنفسهم من وجهة نظر الآخرين.
  • الذات كعملية مستمرة: حتى بعد تطورها، تظل الذات "عملية اجتماعية" تتشكل وتتعدل باستمرار من خلال تفاعلاتنا.
  • استمرارية الذات: بمجرد أن تتطور الذات، فإنها تستمر حتى لو انقطع الفرد عن المجتمع. تصبح "بنية" داخلية.

الخلاصة: الذات عند ميد هي نتاج للتجربة الاجتماعية، وليست معطى بيولوجياً مسبقاً.

​آلية تطور الذات: الانعكاسية وأخذ دور الآخر

​كيف تنشأ هذه "الذات" الاجتماعية؟ الآلية الأساسية هي "الانعكاسية" (Reflexivity) والقدرة على "أخذ دور الآخر" (Taking the Role of the Other).

  • الانعكاسية: هي قدرة فريدة للبشر على أن يصبحوا "موضوعاً لأنفسهم" (Object to themselves). أي أن ننظر إلى أنفسنا ونفكر فيها ونقيمها كما لو كنا ننظر إلى شخص آخر.
  • أخذ دور الآخر: لا يمكننا رؤية أنفسنا كموضوع إلا من خلال تبني "وجهة نظر" (Perspective) الآخرين تجاهنا.

​يقول ميد: "إنه عن طريق الانعكاسية - إرجاع تجربة الفرد إلى نفسه - يتم إدخال العملية الاجتماعية برمتها إلى تجربة الأفراد المشاركين فيها؛ وبمثل هذه الوسائل، تمكن 'أن يتخذ الفرد موقف الآخر تجاه نفسه...'"

​ التجربة غير المباشرة للذات:

​نقطة مهمة يؤكدها ميد: "لا نستطيع تجربة 'ذواتنا' بشكل مباشر." لا يمكننا أن "نرى" ذاتنا كما نرى الطاولة أمامنا.

  • كيف نختبر الذات؟ بشكل غير مباشر فقط. وذلك "من خلال وضع أنفسنا في مكانة الآخرين، ومن ثم رؤية أفعالنا من هذا المنظور."
  • من هم "الآخرون"؟ يمكن أن يكونوا:
    • أفراد معينون: (الأم، الأب، الصديق) - نسميهم "الآخرون المهمون" (Significant Others).
    • المجتمع ككل: (وجهة النظر العامة للمجموعة أو المجتمع) - نسميه "الآخر المعمم" (Generalized Other).

​يقول ميد بوضوح: "فقط من خلال القيام بأدوار الآخرين تمكنا من العودة إلى أنفسنا."

​مراحل نمو الذات عند الطفل: من التقليد إلى اللعبة المنظمة

​يرى ميد أن هذه القدرة المعقدة على "أخذ دور الآخر" وبالتالي تطوير "ذات" واعية، تتطور تدريجياً عبر مراحل في الطفولة:

​1. مرحلة التقليد / المرحلة التحضيرية (Preparatory Stage / Imitation Stage)

  • العمر: تقريباً حتى 3 سنوات.
  • السلوك: الطفل يقلد الأصوات والإيماءات التي يراها دون فهم للمعنى وراءها. (مثل تكرار كلمة يسمعها، أو التلويح باليد).
  • الذات: لا توجد ذات واعية بعد. الطفل لا يميز نفسه عن محيطه. هو مجرد كائن يستجيب للمثيرات.

​2. مرحلة اللعب (Play Stage)

  • العمر: تقريباً من 3 إلى 6 سنوات.
  • السلوك: يبدأ الطفل في "لعب الأدوار" (Role-playing). يتظاهر بأنه شخص آخر مهم ومحدد (Significant Other) مثل "ماما"، "بابا"، "المعلمة"، "الطبيب". هو يلعب "دوراً واحداً في كل مرة".
  • الذات: هنا تبدأ الذات في الظهور. عندما يلعب الطفل دور "الأم"، فإنه يبدأ في رؤية نفسه (كطفل) ورؤية أمه من "وجهة نظر الأم". يبدأ في فهم "التوقعات" البسيطة المرتبطة بهذا الدور.
  • محدودية الذات: الذات في هذه المرحلة لا تزال "مجزأة" وغير منظمة. تتغير بتغير الدور الذي يلعبه الطفل. هو لا يستطيع بعد أن يرى نفسه من وجهات نظر متعددة في نفس الوقت.
    • مثال ميد (لعب الهندي): عندما يلعب الطفل الأمريكي دور "الهندي"، فهو "يستدعي في نفسه الاستجابات التي قد يستدعيها الآخرون" تجاه الهنود، ويبدأ في التصرف بناءً عليها.

​3. مرحلة المباراة / اللعبة المنظمة (Game Stage)

  • العمر: تقريباً من 7 سنوات فما فوق.
  • السلوك: ينتقل الطفل من لعب أدوار فردية إلى المشاركة في "ألعاب منظمة" (مثل كرة القدم، لعبة الغميضة المنظمة). هذه الألعاب تتطلب منه أن يأخذ في الاعتبار أدوار "متعددة" مترابطة في نفس الوقت.
  • الذات: هنا تتطور "الذات الكاملة" والمنظمة. لكي يلعب كرة القدم بنجاح، يجب عليه:
    • ​فهم دوره المحدد (حارس مرمى).
    • ​فهم دور كل لاعب آخر في فريقه (المدافع، المهاجم) وعلاقة أدوارهم بدوره.
    • ​فهم دور الفريق المنافس.
    • ​فهم "القواعد العامة" للعبة التي تنطبق على الجميع.
  • نشأة "الآخر المعمم": هذه القدرة على فهم الأدوار المتعددة والقواعد العامة هي التي تؤدي إلى تطوير المفهوم الحاسم: "الآخر المعمم".

​الآخر المعمم (Generalized Other): صوت المجتمع في داخلنا

  • ما هو؟ ليس شخصاً حقيقياً، بل هو "الموقف المُنظم" (Organized Attitude) أو "التوقعات والقيم والمعايير المشتركة" للمجتمع أو الجماعة التي ينتمي إليها الفرد.
  • كيف يتشكل؟ من خلال التفاعل المستمر (خاصة في مرحلة اللعبة المنظمة)، نقوم بتجريد وتعميم مواقف "الآخرين المهمين" المتعددة إلى "موقف عام" للمجتمع ككل.
  • الأهمية للذات: "الآخر المعمم" هو الذي يسمح للذات بأن تصبح "موحدة" (Unified) و**"منظمة"**. بدلاً من أن تتصرف بشكل مختلف مع كل شخص، تبدأ في التصرف بناءً على معايير عامة ومقبولة اجتماعياً.
  • وظائف "الآخر المعمم":
    1. التفكير المجرد والموضوعية: يسمح لنا بتقييم أفعالنا ليس فقط من وجهة نظر شخص معين، بل من وجهة نظر "المجتمع" أو "المنطق" أو "المبدأ العام".
    2. التنظيم الذاتي للسلوك: يصبح "الآخر المعمم" هو "المرجع الداخلي" الذي نستخدمه لتوجيه سلوكنا وضبطه ليتوافق مع توقعات المجتمع. (هو أساس "الضمير").
    3. المشاركة الفعالة في المجتمع: "فقط بقدر ما يتخذ [الفرد] مواقف المجموعة الاجتماعية المنظمة التي ينتمي إليها [...] فإنه يطور ذاتًا كاملة." فهم "الآخر المعمم" هو ما يجعل الفرد عضواً قادراً على التعاون والمساهمة في الأنشطة الاجتماعية المنظمة.
  • تعدد "الآخرين المعممين": يؤكد ميد أننا لا نستدمج "مجتمعاً واحداً" فقط. نحن ننتمي إلى مجموعات متعددة (العائلة، الأصدقاء، زملاء العمل، الوطن، الدين...). كل مجموعة لها "آخر معمم" خاص بها (توقعات وقيم). هذا التعدد هو أحد مصادر التفرد الفردي والصراع الداخلي أحياناً.

​"الأنا الفاعلة" (I) و "الأنا الاجتماعية" (Me): الحوار الداخلي للذات

​كما ذكرنا سابقاً، الذات عند ميد ليست كياناً واحداً، بل عملية تفاعل بين جانبين:

  • الأنا الاجتماعية ("Me"):
    • ​هي "الذات كـ موضوع" (Self as Object).
    • ​هي الجانب الاجتماعي، المنظم، التقليدي، والمستدمج من الذات.
    • ​تتكون من مواقف الآخرين (وخاصة الآخر المعمم) التي استدمجناها.
    • ​هي "ذاكرتنا" عن أدوارنا، التزاماتنا، وتوقعات المجتمع منا.
    • ​هي التي توفر "الرقابة" و"التوجيه" للسلوك.
  • الأنا الفاعلة ("I"):
    • ​هي "الذات كـ فاعل" (Self as Subject).
    • ​هي الجانب العفوي، التلقائي، غير المتوقع، المبدع، والحر من الذات.
    • ​هي "استجابتنا" لمواقف الآخرين (للـ "Me").
    • ​هي مصدر التغيير والجدة (Novelty) في السلوك. لا يمكن التنبؤ بها بالكامل.
    • ​نحن لا ندرك الـ "I" إلا بعد وقوع الفعل (في لحظة التأمل).

الحوار والتفاعل:

الحياة النفسية هي حوار مستمر بينهما. الـ "Me" يقدم "السياق" الاجتماعي والموقف، والـ "I" "يستجيب" لهذا الموقف بطريقة قد تكون متوافقة أو مبتكرة.

  • السلوك المتوافق (Conformity): يحدث عندما تهيمن الـ "Me".
  • السلوك المبدع أو الثوري: يحدث عندما تبرز الـ "I" وتتحدى التوقعات.

ضد التماثل (Conformity):

هذا التمييز هو إجابة ميد على القلق من أن "الآخر المعمم" سيؤدي إلى مجتمع من الأفراد المتماثلين. الـ "I" يضمن أن كل فرد يستجيب لـ "الآخر المعمم" بطريقته الفريدة والخاصة، بناءً على تاريخه وتجاربه. "جميع الذوات لديها سيرة ذاتية فريدة من نوعها، حتى لو كانت بنية الذات هي نفسها بالنسبة للجميع."

​ العقل والمجتمع: ليسا منفصلين عن الذات

​يرى ميد أن العقل (Mind) و المجتمع (Society) ليسا كيانين منفصلين عن الذات، بل هما جزء لا يتجزأ من نفس العملية الاجتماعية.

  • العقل (Mind):
    • ​ليس "شيئاً" في الدماغ، بل هو "وظيفة" أو "عملية".
    • ​هو "الحوار الداخلي" (Internal Conversation) الذي نجريه مع أنفسنا باستخدام "الرموز المهمة" (اللغة).
    • ينشأ اجتماعياً: لا يمكن أن يوجد "عقل" بدون "تفاعل اجتماعي" يسبقه ويتيح اكتساب اللغة والقدرة على "أخذ دور الآخر". العقل هو استدماج للحوار الاجتماعي.
  • المجتمع (Society):
    • ​ليس مجرد "بنية" خارجية ضاغطة.
    • ​هو أيضاً شيء "نحمله معنا في أذهاننا" من خلال "الآخر المعمم" و"الأنا الاجتماعية".
    • ينظم سلوكنا من الداخل: الأعراف والعادات والاستجابات المشتركة للمجتمع (المؤسسات) يتم تعلمها واستدماجها لتصبح جزءاً من "الـ Me"، وبالتالي توجه سلوكنا حتى في غياب الرقابة الخارجية.
    • "يتصرف المجتمع بأكمله تجاه الفرد في ظل ظروف معينة بطريقة مماثلة... هناك استجابة مماثلة من جانب المجتمع بأكمله في ظل هذه الظروف. ونحن نسمي ذلك تشكيل المؤسسة."

الخلاصة الميدانية: لا يمكن فهم أي من هذه الثلاثة (العقل، الذات، المجتمع) بمعزل عن الآخرين. هي عملية واحدة متكاملة و"متشكلة اجتماعياً" (Socially Constructed).

​خاتمة: إرث ميد - فهم الإنسان ككائن اجتماعي ورمزي

​في الختام، يقدم لنا جورج هربرت ميد رؤية عميقة ومؤثرة لفهم الطبيعة البشرية. لقد حررنا من النظرة الثنائية البسيطة (فرد مقابل مجتمع)، وأظهر لنا كيف أن "ذواتنا" و"عقولنا" هي نتاج معقد ورائع للتفاعل الاجتماعي المستمر، الذي تتوسطه اللغة والرموز.

"الذات الاجتماعية" ليست مجرد مفهوم نظري، بل هي دعوة لنرى أنفسنا والآخرين ككائنات تتشكل وتنمو وتتغير باستمرار ضمن نسيج العلاقات الاجتماعية. إنها تذكرنا بأن فهم "التفاعل" هو مفتاح فهم "الإنسان".

​على الرغم من بعض الانتقادات، لا يزال إرث ميد حياً ومؤثراً، ويشكل حجر الزاوية لمنظور التفاعل الرمزي ولكل من يسعى لفهم أعمق لديناميكيات الحياة الاجتماعية على المستوى الجزئي (Micro-level).

 أسئلة وأجوبة (تلخيص للنقاط الرئيسية)

  • من هو جورج هربرت ميد؟ فيلسوف وعالم نفس اجتماعي أمريكي، يعتبر أب التفاعل الرمزي، ركز على النشأة الاجتماعية للذات والعقل.
  • ما هو التفاعل الرمزي؟ نظرية تؤكد على دور الرموز (خاصة اللغة) والمعاني المشتركة التي تنشأ من التفاعل الاجتماعي في تشكيل السلوك والفهم البشري.
  • ما هي مساهمة ميد في التفاعل الرمزي؟ شرح كيف تتطور "الذات" من خلال التفاعل الاجتماعي عبر مراحل (اللعب والمباراة)، وكيف نرى أنفسنا عبر "أخذ دور الآخر" و"الآخر المعمم"، ودور اللغة والعقل في هذه العملية.
  • ما هي الانتقادات التي وجهت ضد عمل ميد؟ إهمال التواصل غير اللفظي والعواطف، إهمال البنى الاجتماعية الكبرى (الماكرو)، ونظرة قد تكون مفرطة في الاجتماعية للذات (إهمال الفاعلية الفردية).
  • كيف أثر عمل ميد على المجالات الأخرى؟ أسس لمنظور التفاعل الرمزي في علم الاجتماع، وأثر بعمق في علم النفس الاجتماعي ودراسات الاتصال.

تعليقات