مراجعة كتاب "قراءات في الفكر النقدي لمدرسة فرانكفورت" لكمال بومنير: تشريح لأزمة الحداثة
مراجعة تحليلية معمقة لكتاب "قراءات في الفكر النقدي لمدرسة فرانكفورت" للمفكر كمال بومنير. اكتشف "قراءته" الخاصة لأدورنو، هوركهايمر، ماركوز، وهابرماس، وجدلية النقد الجذري.
مقدمة: لماذا نحتاج "قراءة" جديدة لمدرسة فرانكفورت؟
تُعتبر مدرسة فرانكفورت (The Frankfurt School) الضمير النقدي والفلسفي للقرن العشرين. في عصر شهد صعود الفاشية، ووحشية الشمولية، وبريق الرأسمالية الاستهلاكية، وقف فلاسفة هذا المعهد (معهد البحوث الاجتماعية بفرانكفورت) ليطرحوا السؤال الأكثر إيلاماً: "كيف انهار مشروع التنوير؟".
لكن قراءة نصوصهم الأصلية ليست مهمة سهلة؛ فهي تتسم بال كثافة، والتشاؤم، والتعقيد الفلسفي. هنا تبرز أهمية الأعمال "الوسيطة" التي لا تكتفي بـ "الترجمة" أو "التلخيص"، بل تقدم "قراءة" (Reading) تحليلية ومنهجية.
يأتي كتاب "قراءات في الفكر النقدي لمدرسة فرانكفورت" للمفكر كمال بومنير في هذا السياق. إنه ليس مجرد "مقدمة" تقليدية (كما يوحي ملخصه الأولي)، بل هو محاولة "لتشريح" المسار الفكري لهذا التقليد، بدءاً من النقد الجذري لـ "أدورنو" و "هوركهايمر"، مروراً بـ "ثورية" ماركوز، ووصولاً إلى "التحول" التواصلي عند هابرماس.
في هذه المقالة التحليلية، سنستعرض "قراءة" كمال بومنير لهذه المدرسة، متتبعين كيف يفكك "النظرية النقدية" (Critical Theory) كأداة لفهم أزمتنا المعاصرة مع الحداثة والرأسمالية وصناعة الثقافة.
![]() |
| غلاف كتاب قراءات في الفكر النقدي لمدرسة فرانكفورت" لكمال بومنير |
1. "القراءة" التأسيسية: هوركهايمر وأدورنو وجدلية التنوير
يركز كمال بومنير في الجزء الأول من "قراءاته" على "اللحظة" التأسيسية التي شكلت هوية المدرسة: الهروب من النازية إلى أمريكا، وتأليف الكتاب-البيان: "جدلية التنوير" (Dialectic of Enlightenment) (1947).
أ. قراءة هوركهايمر: التنوير كـ "خرافة" جديدة
يحلل بومنير كيف قَلَبَ ماكس هوركهايمر (Max Horkheimer) الطاولة على الفكر الأوروبي.
- الأطروحة المركزية (كما يقرأها بومنير): لم يكن "التنوير" (الذي وعد بالحرية والعقل) نقيضاً "للهمجية" (الفاشية)، بل كان "سبباً" لها.
- "العقل الأداتي" (Instrumental Reason): يوضح بومنير أن "قراءة" هوركهايمر تركز على هذا المفهوم. لقد تحول "العقل" من أداة "للفهم" (Understanding) إلى أداة "للسيطرة" (Control) والهيمنة: السيطرة على الطبيعة، ثم السيطرة على البشر الآخرين، وأخيراً السيطرة (القمع) على الذات الداخلية.
- النتيجة (حسب بومنير): الفاشية (متمثلة في أوشفيتز) لم تكن "انحرافاً" عن الحداثة، بل كانت "التطبيق المنطقي" للعقل الأداتي (الكفاءة، البيروقراطية، نزع الإنسانية).
ب. قراءة أدورنو: الجدل السلبي وصناعة الثقافة
إذا كان هوركهايمر قد شخص "المرض" (العقل الأداتي)، فإن ثيودور أدورنو هو الذي حلل "أعراضه" الثقافية والفلسفية. "قراءة" بومنير لأدورنو، كما يبدو، تركز على جبهتين:
-
"صناعة الثقافة" (The Culture Industry):
- يوضح بومنير أن أدورنو، في مواجهته المباشرة مع هوليوود وثقافة البوب الأمريكية، لم يرَ فيها " فناً" للجماهير، بل "صناعة" لتدجينهم.
- هذه المنتجات (الأفلام، الموسيقى) هي "معيارية" (Standardized) و "منتجة بكميات كبيرة" (Mass-produced).
- وظيفتها (حسب قراءة بومنير لأدورنو): ليست الترفيه، بل "تعزيز هياكل السلطة". إنها تبيعنا "القبول" السلبي بالوضع الراهن كـ "متعة".
-
"الديالكتيك السلبي" (Negative Dialectics):
- هذا هو الرد الفلسفي. يوضح بومنير أن هذا الكتاب هو "رفض" لأي "حل" إيجابي.
- في عالم "غير عقلاني وقمعي" (عالم ما بعد أوشفيتز)، فإن أي فلسفة تقدم "إجابات" مريحة أو "حلولاً" هي فلسفة "كاذبة" ومتواطئة.
- "قراءة" بومنير تخلص إلى أن "الجدل السلبي" هو "فلسفة المقاومة" عبر "الرفض المستمر" (The Great Refusal) للاندماج في هذا الواقع.
2. "القراءة" الثورية: هربرت ماركوز والإنسان ذو البعد الواحد
ينتقل كمال بومنير بعد ذلك إلى "القراءة" الأكثر ثورية في المدرسة: هربرت ماركوز (Herbert Marcuse). إذا كان أدورنو "متشائماً" (يرى أن النظام مغلق تماماً)، فإن ماركوز كان "يبحث عن مخرج".
أ. "الرجل ذو البعد الواحد" (One-Dimensional Man)
يركز تحليل بومنير على هذا الكتاب كتحديث لنقد الرأسمالية.
- الأطروحة (حسب قراءة بومنير): المشكلة لم تعد "القمع" الواضح (الفقر، الديكتاتورية)، بل "القمع المريح" (Repressive Desublimation).
- "البعد الواحد": الرأسمالية الحديثة لم تعد تقمع رغباتنا، بل "تُشبعها" عبر الاستهلاك. لقد خلقت "احتياجات زائفة" (False Needs) (الحاجة لسيارة أحدث، لهاتف أجدد).
- النتيجة (كما يحللها بومنير): تم "اختزال" الأفراد إلى مجرد "مستهلكين". لقد ابتلع النظام "كل" أشكال المعارضة. حتى "الثورة" تُباع كـ "تي-شيرت".
ب. البحث عن "الفاعل" الجديد
على عكس أدورنو، لم يستسلم ماركوز. "قراءة" بومنير تبرز كيف أن ماركوز، الذي أصبح "الأب الروحي" لحركات الطلاب عام 1968، بحث عن "قوى" ثورية جديدة خارج الطبقة العاملة التقليدية (التي اندمجت في النظام):
- الطلاب.
- المثقفون.
- "المنبوذون" (Outcasts) على هامش المجتمع.
- هذا يربطه بفكر الحركات الاجتماعية الجديدة الذي طوره لاحقاً آلان تورين.
3. "القراءة" التحويلية: يورغن هابرماس وإنقاذ مشروع التنوير
الجزء الأخير والأكثر أهمية في "قراءات" كمال بومنير هو تناوله للجيل الثاني، ممثلاً في يورغن هابرماس (Jürgen Habermas). يوضح بومنير كيف أن هابرماس لا "يقلد" الجيل الأول، بل "ينقلب" عليه لينقذ ما تبقى من مشروع التنوير.
أ. "الفعل التواصلي" (Communicative Action)
"قراءة" بومنير توضح أن هابرماس يوافق على "تشخيص" الجيل الأول (سيطرة العقل الأداتي)، لكنه يرفض "النتيجة" (التشاؤم المطلق).
- الأطروحة (حسب هابرماس): العقل ليس "أداتياً" فقط. هناك نوع آخر من العقل: "العقل التواصلي" (Communicative Reason).
- ما هو؟ إنه العقل الذي نستخدمه ليس "للسيطرة" على الآخرين، بل "للتفاهم" (Understanding) معهم. إنه "الحوار العقلاني" الخالي من الإكراه، والذي يهدف للوصول إلى "إجماع".
ب. "النظام" و "عالم الحياة" (System and Lifeworld)
يحلل بومنير كيف يرى هابرماس أن "أزمة الحداثة" تكمن في أن "النظام" (System) (الاقتصاد الرأسمالي، والدولة البيروقراطية)، الذي يعمل بمنطق "العقل الأداتي"، قد بدأ "يستعمر" (Colonize) "عالم الحياة" (Lifeworld) (عائلاتنا، ثقافتنا، حواراتنا اليومية) الذي يجب أن يُحكم بمنطق "العقل التواصلي".
- الخلاصة (حسب قراءة بومنير): الحل ليس "رفض" الحداثة (كما فعل أدورنو)، بل "إكمال" مشروع الحداثة. الحل هو "الديمقراطية الجذرية" التي تتيح "للحوار العقلاني" (عالم الحياة) أن يسيطر على "النظام" (الاقتصاد والبيروقراطية)، وليس العكس.
ج. نقد ما بعد الحداثة
يشير بومنير، كما ورد في المسودة، إلى نقد هابرماس لـ "ما بعد الحداثة". فبينما يرى مفكرو ما بعد الحداثة أن "التنوير" قد مات، يصر هابرماس على أن "الثقة في إمكانية التغيير الاجتماعي التقدمي" لا تزال ممكنة عبر "الفعل التواصلي".
خاتمة: قيمة "قراءة" كمال بومنير
إن كتاب "قراءات في الفكر النقدي لمدرسة فرانكفورت" (كما حللناه هنا) يتجاوز كونه "مقدمة". إنه "أداة تحليلية" يقدمها كمال بومنير للباحث في علم الاجتماع والفلسفة.
القيمة المضافة لهذا الكتاب تكمن في:
- رسم المسار: يوضح "الخيط الناظم" الذي يربط نقد "العقل الأداتي" (هوركهايمر) بـ "صناعة الثقافة" (أدورنو)، ثم بـ "القمع المريح" (ماركوز)، وصولاً إلى "الحل التواصلي" (هابرماس).
- تجاوز التبسيط: يرفض "قراءة" مدرسة فرانكفورت كـ "كتلة واحدة" متشائمة، ويبرز "التحولات" العميقة بين أجيالها.
- تأكيد الصلة (Relevance): يثبت "بومنير" أننا لا نزال نعيش في العالم الذي حلله هؤلاء المفكرون. صناعة الثقافة اليوم هي (تيك توك، نتفليكس). "العقل الأداتي" هو (الخوارزميات، إدارة الموارد البشرية). "الرجل ذو البعد الواحد" هو (المستهلك المدمن).
إن "قراءات" كمال بومنير هي دعوة عاجلة لإعادة اكتشاف "الفكر النقدي"، ليس كـ "تمرين" أكاديمي، بل كـ "ضرورة" وجودية لفهم "الازدهار البشري" في مواجهة أنظمة تسعى دائماً لسحقه.
