إريك أولين رايت (1947-2019): رحلة "اليوتوبيا الواقعية" في البحث عن بدائل للرأسمالية
مقدمة: هل يمكن "تخيّل" عالم ما بعد الرأسمالية؟
في عصر يتسم باتساع فجوة عدم المساواة، والأزمات البيئية، والشعور العام بأن "النظام" الحالي لم يعد يعمل لصالح الجميع، يبرز سؤال أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى: "ما هو البديل؟". لعقود، بدا هذا السؤال بلا إجابة، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث سادت مقولة "لا يوجد بديل" (There Is No Alternative - TINA) للرأسمالية.
في قلب هذا الجدل، يقف عالم الاجتماع الأمريكي إريك أولين رايت (Erik Olin Wright) (1947-2019) كصوت فريد. لم يكن رايت مجرد ناقد آخر للرأسمالية، بل كان "مهندساً اجتماعياً" متفائلاً. لقد كرس حياته الأكاديمية ليس فقط لتشريح "مشاكل" الرأسمالية، بل أيضاً، وهو الأهم، لاستكشاف "حلول" عملية وممكنة.
كان إريك أولين رايت باحثاً نيو-ماركسياً بارزاً، قضى مسيرته في جامعة ويسكونسن ماديسون، لكن إرثه يتجاوز الأكاديميا. لقد نجح في تحويل علم الاجتماع من "علم نقدي" متشائم إلى "علم تحرري" يمنحنا الأدوات الفكرية ليس فقط "لفهم" العالم، بل "لتغييره".
![]() |
| إريك أولين رايت (1947-2019): رحلة "اليوتوبيا الواقعية" في البحث عن بدائل للرأسمالية. |
في هذه المقالة الشاملة، سنغوص في رحلة إريك أولين رايت الفكرية، بدءاً من تحليله المعقد للطبقات الاجتماعية، وصولاً إلى مشروعه الأهم: "الخيال اليوتوبي الحقيقي" (Envisioning Real Utopias)، بحثاً عن بدائل ديمقراطية وعادلة للرأسمالية.
1. التكوين الفكري: من ناشط في الستينيات إلى عالم اجتماع نيو-ماركسي
لفهم مشروع رايت، يجب أن نفهم جذوره. وُلد في بيركلي، كاليفورنيا عام 1947، ونشأ في قلب "العصر الذهبي" للحركات الاجتماعية في الستينيات.
كان شاباً منخرطاً بعمق في حركة الحقوق المدنية و الحركة المناهضة لحرب فيتنام. هذه التجارب المبكرة لم تكن مجرد نشاط شبابي عابر، بل شكلت بوصلته الأخلاقية والفكرية لبقية حياته. لقد رأى بعينه كيف يمكن للعمل الجماعي أن يغير المجتمع، ودفعه هذا الشغف بالعدالة الاجتماعية لدراسة التاريخ في جامعة هارفارد، ثم الحصول على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة كاليفورنيا، بيركلي.
عندما انضم إلى هيئة التدريس في جامعة ويسكونسن ماديسون عام 1976، حيث أمضى مسيرته بأكملها، حمل معه هذا الالتزام المزدوج:
- الدقة الأكاديمية: استخدام أدوات علم الاجتماع الكمية والنوعية بصرامة لفهم "كيف تعمل" الرأسمالية.
- الالتزام التحرري: توجيه هذا الفهم نحو هدف واضح وهو "تجاوز" الرأسمالية نحو مجتمع أكثر مساواة.
كان رايت جزءاً من "الماركسية التحليلية" (Analytical Marxism)، وهي مدرسة فكرية حاولت "تحديث" أفكار ماركس بأدوات تحليلية صارمة، متخلصة من "الدوغمائية" التي شابت الماركسية التقليدية.
2. الركيزة الأولى: تحليل الطبقات الاجتماعية (تفكيك الرأسمالية)
تركزت أعمال رايت المبكرة على السؤال الماركسي الكلاسيكي: "ما هي الطبقة؟". لقد أدرك أن نموذج ماركس البسيط (برجوازيون يملكون، وبروليتاريا لا تملك) لم يعد كافياً لوصف تعقيدات المجتمعات الرأسمالية المتقدمة في القرن العشرين.
المشكلة: أين نضع "المدراء"؟ أين نضع "المشرفين"؟ أين نضع "المهندسين" و "الأطباء" ذوي المهارات العالية الذين لا يملكون وسائل الإنتاج ولكنهم يتمتعون بسلطة ودخل كبيرين؟
أ. المفهوم الأهم: "المواقع الطبقية المتناقضة" (Contradictory Class Locations)
كانت إجابة رايت العبقرية هي مفهوم "المواقع الطبقية المتناقضة". جادل رايت بأن العديد من الوظائف في الرأسمالية الحديثة لا تقع بوضوح في "طبقة" واحدة، بل تحتل موقعاً "متناقضاً" بين الطبقات.
في تحليله الشهير في كتابه "الطبقات" (Classes) (1985)، ميز رايت بين ثلاثة أبعاد للسيطرة الاقتصادية:
- الاستغلال (Exploitation): السيطرة على "فائض القيمة" (الأرباح) الناتجة عن عمل الآخرين.
- السيطرة (Domination): السيطرة على "عمل" الآخرين (إعطاء الأوامر).
- المهارات/المؤهلات (Skills/Credentials): السيطرة على "المعرفة" النادرة التي تمنح قوة تفاوضية في السوق.
باستخدام هذا النموذج، قدم رايت خريطة طبقية أكثر دقة:
- الرأسماليون (Capitalists): يملكون وسائل الإنتاج، ويستغلون العمال، ويسيطرون عليهم. (واضح).
- العمال (Workers): لا يملكون، لا يستغلون أحداً، ولا يسيطرون على أحد. (واضح).
- المدراء والمشرفون (Managers/Supervisors): هذا هو الموقع المتناقض. هم "عمال" (لأنهم يتلقون راتباً ويتم استغلالهم من قبل المالكين)، لكنهم في نفس الوقت "رأسماليون" (لأنهم يسيطرون على العمال الآخرين ويمارسون السلطة نيابة عن المالك).
- أصحاب المهارات العالية (Skilled Employees): (مثل كبار المبرمجين أو المهندسين). هم "عمال" (يتم استغلالهم)، لكن مهاراتهم النادرة تمنحهم قوة (مثل الرأسماليين) في التفاوض على أجور أعلى واستقلالية أكبر.
- أصحاب العمل الصغير (Petty Bourgeoisie): (مثل صاحب متجر صغير يعمل بنفسه). هو لا يستغل أحداً ولا يتم استغلاله، لكنه لا يزال خاضعاً لضغوط السوق الرأسمالي.
هذا التحليل لم يكن مجرد تمرين أكاديمي. لقد سمح لرايت بفهم "لماذا" لا يتشكل "الوعي الطبقي" بسهولة. فالمدير الذي يشعر بالضغط من رؤسائه ومن العمال تحته، يعيش "تناقضاً" يمنعه من الانضمام بسهولة إلى أي من الطرفين.
3. الركيزة الثانية: "الخيال اليوتوبي الحقيقي" (بناء البدائل)
بعد عقود من "تشريح" الرأسمالية (مرحلة النقد)، أدرك رايت، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أن "النقد" وحده لا يكفي. لقد رأى أن اليسار أصبح بارعاً جداً في قول "لا" (نحن ضد الخصخصة، نحن ضد عدم المساواة)، لكنه فقد قدرته على قول "نعم" (نحن مع... ماذا بالضبط؟).
هنا بدأ مشروعه الأهم والأكثر إلهاماً: "مشروع اليوتوبيا الواقعية" (The Real Utopias Project)، الذي توّجه كتابه الضخم "الخيال اليوتوبي الحقيقي" (Envisioning Real Utopias) (2010).
أ. ما هي "اليوتوبيا الواقعية"؟
المصطلح نفسه يبدو متناقضاً، وهذا هو جوهر فكرة رايت:
- "يوتوبيا" (Utopian): لأنها تجسد "قيماً تحررية" (مثل المساواة، الديمقراطية، التضامن) وتتخيل عالماً أفضل جذرياً من عالمنا.
- "واقعية" (Real): لأنها ليست مجرد أحلام، بل هي "مؤسسات" موجودة بالفعل، "تنبض بالحياة" في "جيوب" صغيرة داخل مجتمعاتنا الرأسمالية الحالية.
كانت مهمة رايت هي "البحث" عن هذه البذور، ودراستها، وفهم "كيف تعمل"، والتفكير في "كيف يمكن توسيعها" لتحل محل المنطق الرأسمالي.
ب. أمثلة على "اليوتوبيا الواقعية"
استكشف رايت وفريقه العديد من النماذج العملية التي تظهر أن "عالماً آخر ممكن" لأن أجزاء منه موجودة بالفعل:
- التعاونيات العمالية (Worker Cooperatives):
- (مثل شبكة "موندراغون" في إسبانيا). هذه شركات "مملوكة" و "مدارة ديمقراطياً" من قبل عمالها. الأرباح توزع بينهم، والقرارات الكبرى (مثل الأجور والاستثمار) تُتخذ بالتصويت. إنها "ديمقراطية اقتصادية" في الممارسة.
- الدخل الأساسي غير المشروط (Unconditional Basic Income - UBI):
- فكرة إعطاء كل مواطن مبلغاً شهرياً ثابتاً، كافياً للعيش، دون شروط. يرى رايت أن هذا "يحرر" الفرد من "ابتزاز" سوق العمل، ويمنحه القوة ليقول "لا" لظروف العمل الاستغلالية، ويسمح للناس بمتابعة أنشطة ذات قيمة اجتماعية (مثل رعاية كبار السن، الفن، التعليم) حتى لو لم تكن "مربحة" للسوق.
- الموازنات التشاركية (Participatory Budgeting):
- (بدأت في "بورتو أليغري" بالبرازيل). نظام يتيح للمواطنين العاديين أن يقرروا بشكل مباشر وديمقراطي كيف تُصرف "أجزاء" من ميزانية مدينتهم. هذا ينقل السلطة من "التكنوقراط" (مثل الخبراء في مجتمع آلان تورين ما بعد الصناعي) إلى "الشعب".
- اقتصاد التضامن الاجتماعي (Social and Solidarity Economy):
- المنظمات غير الربحية، البنوك الأخلاقية، ومشاريع الإسكان التعاوني التي تهدف "للخدمة الاجتماعية" وليس "للربح".
- ويكيبيديا (Wikipedia):
- اعتبر رايت "ويكيبيديا" مثالاً ساطعاً على "يوتوبيا واقعية". إنها واحدة من أهم "وسائل إنتاج المعرفة" في العالم، وهي تعمل بمنطق "غير رأسمالي" تماماً: إنتاج "تعاوني" (ملايين المتطوعين)، "مفتوح المصدر"، و "مجاني" للجميع، ويموله "التبرع" وليس "الإعلانات" أو "الربح".
4. الإرث الأخير: "كيف تكون مناهضاً للرأسمالية؟"
في عام 2018، تم تشخيص إصابة إريك أولين رايت بسرطان الدم الحاد. وهو يواجه الموت، قرر أن يكتب خلاصة فكره، ليس للأكاديميين، بل لعامة الناس والناشطين.
النتيجة كانت كتابه الصغير والعميق "كيف تكون معاديًا للرأسمالية في القرن الحادي والعشرين" (How to Be an Anticapitalist in the Twenty-First Century) (2019)، الذي نُشر بعد وفاته بفترة وجيزة.
في هذا الكتاب، يلخص رايت استراتيجيته للتحول الاجتماعي. هو يجادل بأن محاولات "تحطيم" الرأسمالية (Smashing) (مثل الثورات العنيفة) قد فشلت وأدت إلى الاستبداد. ويقترح استراتيجية أكثر ذكاءً: "تآكل" الرأسمالية (Eroding Capitalism).
- استراتيجية التآكل: هي ببساطة "بناء" هذه "اليوتوبيات الواقعية" (التعاونيات، الموازنات التشاركية، الدخل الأساسي) داخل النظام الرأسمالي القائم.
- كلما نجحت هذه "الجزر" غير الرأسمالية وكبرت، كلما "تآكلت" هيمنة المنطق الرأسمالي (الربح، المنافسة) على حياتنا.
- التحول لن يكون "انفجاراً" واحداً، بل "عملية" طويلة الأمد من البناء الديمقراطي من الأسفل إلى الأعلى.
5. خاتمة: إرث رايت.. من النقد إلى الأمل العملي
توفي إريك أولين رايت في يناير 2019، تاركاً إرثاً فكرياً هائلاً.
ما يميز رايت عن العديد من النقاد الاجتماعيين هو "تفاؤله العملي". في حين قدم مفكرون مثل تيودور أدورنو نقداً متشائماً لـ "صناعة الثقافة" التي تبدو بلا مفر، وفي حين ركز آلان تورين على "الحركات الاجتماعية الجديدة" كقوة تغيير، فإن رايت أعاد "الطبقة" و "الاقتصاد" إلى المركز، لكنه فعل ذلك بطريقة "بناءة" وليست "هدامة".
لقد قدم لنا "بوصلة" ليس فقط "لتشخيص" العالم، بل "للملاحة" فيه نحو مستقبل مختلف.
إرث إريك أولين رايت هو دعوة مفتوحة: لا يكفي أن ننتقد العالم كما هو، بل يجب أن نجرؤ على "تخيل" العالم كما يمكن أن يكون، والأهم من ذلك، أن نبدأ "ببنائه" هنا والآن. لقد أعطى للخيال الإنساني دوراً "واقعياً" وملموساً في هندسة المستقبل.
