📁 آخر الأخبار

نوربيرت إلياس: الدليل الشامل لـ "عملية التمدن" وعلم اجتماع التشكيلات

نوربيرت إلياس: الدليل الشامل لـ "عملية التمدن" وعلم اجتماع التشكيلات

اكتشف فكر نوربيرت إلياس، رائد علم اجتماع الحضارة. تحليل عميق لنظريته في "عملية التمدن" (Sociogenesis و Psychogenesis)، "مجتمع البلاط"، و"علم اجتماع التشكيلات" (Figurational Sociology).

(مقدمة: العملاق الذي أعاد اكتشافه)

​في بانثيون عمالقة علم الاجتماع (ماركس، فيبر، دوركايم)، غالباً ما يُنسى اسم نوربيرت إلياس (Norbert Elias) (1897-1990). هذا المفكر الألماني، الذي عاش حياة طويلة شهدت حربين عالميتين وهروباً من النازية، لم يحظَ بالاعتراف الذي يستحقه إلا في وقت متأخر جداً من حياته. لكن أعماله، التي تجاهلتها الأوساط الأكاديمية لعقود، تركت أثراً لا يُمحى، مقدمةً ثورة هادئة في كيفية فهمنا للتاريخ، والسلطة، وحتى لأكثر سلوكياتنا حميمية.

​تميز إلياس بنهجه الفريد الذي رفض الفصل التقليدي بين "الفرد" و"المجتمع". بالنسبة له، كان هذا الانقسام هو المشكلة الكبرى في علم الاجتماع. لقد كرّس حياته لـ "حل" هذا اللغز، باحثاً عن الروابط الخفية بين التحولات طويلة المدى في البنى الاجتماعية (مثل صعود الدولة) والتحولات الدقيقة في السلوك الإنساني (مثل آداب المائدة).


نوربيرت إلياس: الدليل الشامل لـ "عملية التمدن" وعلم اجتماع التشكيلات
Portrait of Norbert Elias

​هذه المقالة هي رحلة شاملة في فكر هذا العملاق، نستكشف فيها مفاهيمه الأساسية: "عملية التمدن" (The Civilizing Process)، ودراسته العبقرية لـ "مجتمع البلاط" (The Court Society)، ومنهجه الثوري: "علم اجتماع التشكيلات" (Figurational Sociology).

​حياة إلياس: في قلب العاصفة الأوروبية

​لفهم نظرية إلياس عن "الحضارة" (Civilization) و"البربرية" (Barbarism)، يجب أن نفهم حياته.

​ولد إلياس في مدينة Breslau الألمانية (الآن في بولندا) عام 1897 لعائلة يهودية مزدهرة. كانت حياته المبكرة نموذجاً للاندماج المثقف. درس الطب، والفلسفة، وعلم الاجتماع، وتأثر بعمق بأفكار كارل مانهايم (رائد علم اجتماع المعرفة) وألفريد فيبر (أخو ماكس فيبر).

نقطة التحول الكبرى: كانت صعود النازية. كيهودي ومفكر نقدي، اضطر إلياس للهجرة عام 1933، أولاً إلى فرنسا ثم إلى بريطانيا. في المنفى، عاش فقيراً ومغموراً. في هذه الفترة، كتب رائعته "عملية التمدن" التي انتهى منها عام 1939.

المفارقة: بينما كان إلياس يكتب عن "انحسار العنف" و"زيادة ضبط النفس" في أوروبا، كانت القارة نفسها تغرق في أقصى درجات "البربرية" (الهولوكوست والحرب العالمية الثانية). هذه المفارقة هي مفتاح فكره: "الحضارة" ليست حالة ثابتة، بل هي "عملية" هشة ويمكن عكسها (De-civilization).

 المفتاح المنهجي: علم اجتماع التشكيلات (Figurational Sociology)

​قبل الغوص في "التمدن"، يجب أن نفهم "الأداة" التي ابتكرها إلياس. لقد سئم من النقاش العقيم في علم الاجتماع:

  1. البنيوية: التي ترى أن "المجتمع" (البنية) هو كيان ضخم يسحق الأفراد (مثل ماركس ودوركايم).
  2. الفردانية المنهجية: التي ترى أن "الأفراد" (الفاعلون) هم من يخلقون المجتمع (مثل فيبر).

​قال إلياس إن كلاهما مخطئ.

الحل: "التشكيلة" (Figuration)

قدم إلياس مفهوم "التشكيلة" ليحل هذا اللغز. أفضل مثال لشرحه هو "رقصة":

  • ​لا يمكنك فهم "الرقصة" (كـ "بنية") بدون "الراقصين" (كـ "أفراد").
  • ​ولا يمكنك فهم "حركات" الراقصين الفردية إلا كجزء من "الرقصة" (التشكيلة).

"التشكيلة" هي "شبكة" من الأفراد المترابطين (Interdependent). أفعالك مقيدة بأفعال الآخرين، وأفعالهم مقيدة بأفعالك. نحن لسنا "ذرات" منفصلة، ولسنا "دمى" تحركها البنية. نحن "لاعبون" في شبكات معقدة من الاعتماد المتبادل.

​هذا المنهج يرفض مفهوم "الإنسان المنغلق" (Homo Clausus) - أي الفرد كصندوق أسود معزول. بدلاً من ذلك، هو يدرس "الإنسان كعملية" (Homo Processus) يتشكل باستمرار داخل هذه "التشكيلات" الاجتماعية.

​ العمل الأهم: "عملية التمدن" (The Civilizing Process)

​هذا هو العمل الأهم لإلياس (نُشر في جزأين 1939، ولم يُكتشف عالمياً حتى 1969).

السؤال المركزي: لماذا وكيف أصبح الناس في المجتمعات الغربية (منذ العصور الوسطى) أكثر "تمدناً"؟

​ماذا يقصد بـ "التمدن"؟

لا يقصد أنه أصبحوا "أفضل" أخلاقياً. بل يقصد ملاحظة تاريخية: لقد أصبحوا أكثر تحكماً في انفعالاتهم (ضبط النفس).

​لاحظ إلياس (عبر قراءة "كتب الآداب" القديمة) أن السلوكيات التي كانت "عادية" في العصور الوسطى أصبحت "مقززة" أو "مخجلة" في العصر الحديث:

  • ​الأكل بالأيدي والبصق على المائدة.
  • ​التخلص من الفضلات الجسدية في الأماكن العامة.
  • ​التعبير المباشر عن الغضب (العنف).

السؤال هو "لماذا"؟ لماذا أصبحنا نخجل من أجسادنا وانفعالاتنا؟

إجابة إلياس عبقرية: إنها "عملية مزدوجة" (Dual Process) حدثت بالتوازي على مدى قرون.

​1. التكوين الاجتماعي (Sociogenesis): صعود الدولة

​هذا هو الجانب "السوسيولوجي" (Macro).

  • في العصور الوسطى: كانت السلطة "مجزأة" (Feudalism). كل "سيد إقطاعي" (Knight) هو "سيد" منطقته. العنف كان "مباحاً" وموزعاً. لحماية نفسك، كان يجب أن تكون "عنيفاً" ومستعداً للقتال في أي لحظة.
  • آلية الاحتكار (The Monopoly Mechanism): على مدى قرون، دخل هؤلاء "السادة" في صراع تنافسي. الفائز يبتلع أراضي المهزوم. ببطء، بدأت "احتكارات" صغيرة تتشكل.
  • النتيجة: بعد مئات السنين من الصراع، ظهر "فائز واحد" (الملك أو الدولة القومية الحديثة). هذا الفائز "احتك" شيئين:
    1. احتكار العنف: الدولة وحدها (عبر الجيش والشرطة) أصبح لها الحق "الشرعي" في استخدام العنف. (وهو ما لاحظه ماكس فيبر أيضاً).
    2. احتكار الضرائب: الدولة وحدها تجمع الضرائب لتمويل احتكارها للعنف.
  • النتيجة الاجتماعية: تزايد "تعقيد تقسيم العمل" و"الاعتماد المتبادل". لم تعد تعيش في مزرعة معزولة، بل أصبحت تعتمد على 50 شخصاً آخرين (الخباز، الجندي، جابي الضرائب) للبقاء على قيد الحياة.

​2. التكوين النفسي (Psychogenesis): بناء "جدار داخلي"

​هذا هو الجانب "النفسي" (Micro). كيف غيّر "التكوين الاجتماعي" شخصياتنا من الداخل؟

  • ​عندما "احتكرت" الدولة العنف، لم يعد مسموحاً لك (كفرد) أن تسل سيفك وتقتل شخصاً أهانك.
  • الضبط الخارجي (External Constraint): أصبح هناك "شرطي" يراقبك.
  • النتيجة النفسية: للبقاء في هذه "التشكيلة" الجديدة المعقدة، كان عليك أن تبدأ في "مراقبة نفسك".
  • الضبط الداخلي (Self-Control): هذا "الشرطي الخارجي" تحول ببطء إلى "شرطي داخلي". (وهو ما أسماه فرويد "الأنا الأعلى" أو Superego).
  • ارتفاع عتبة الخجل (Threshold of Shame):
    • ​السلوكيات التي كانت عادية (التي تذكرنا بـ "حيوانيتنا" مثل الأكل الفوضوي، العنف، الجنس العلني) أصبحت الآن "مخجلة" و"خاصة".
    • ​تم "خصخصة" الجسد. تم بناء "جدار نفسي" بين انفعالاتنا الفورية وسلوكنا الظاهر.

​إذن، "الإنسان المتمدن" عند إلياس هو إنسان طور "ضبطاً ذاتياً" قوياً، وأصبح قادراً على "التخطيط" للمستقبل والتحكم في انفعالاته اللحظية.

​دراسة الحالة: "مجتمع البلاط" (The Court Society)

​إذا كان "عملية التمدن" هو النظرية، فإن "مجتمع البلاط" هو "دراسة الحالة" التي تثبتها.

درس إلياس البلاط الملكي الفرنسي في القرن الـ 17 (عهد لويس الرابع عشر) كـ "نموذج مصغر" أو "بوتقة" تسارعت فيها عملية التمدن.

  • السياق: نجح الملك في "احتكار" السلطة. جرد النبلاء من قوتهم العسكرية (التكوين الاجتماعي).
  • التشكيلة (Figuration): كيف سيطر عليهم؟ أجبرهم على العيش معه في قصر فرساي.
  • الديناميكية: بدلاً من التنافس بـ "السيوف" على الأرض، أصبح النبلاء يتنافسون بـ "الكلمات" و"الآداب" على "المكانة الاجتماعية" (القرب من الملك).
  • التكوين النفسي (الشخصية البلاطية):
    • ​للبقاء في هذا "المجتمع" شديد التنافس، كان على النبيل أن يطور مهارات نفسية هائلة:
      1. التحكم المطلق في الانفعالات: إظهار الغضب = فقدان المكانة.
      2. آداب السلوك (Etiquette): أصبحت "آداب المائدة" و"اللياقة" سلاحاً للتنافس (من يعرف الشوكة الصحيحة).
      3. الملاحظة الدائمة: مراقبة الآخرين باستمرار (تعبيرات وجوههم) لفهم نواياهم.
      4. التلاعب والتمويه: القدرة على إخفاء مشاعرك الحقيقية وإظهار "الكياسة" و"اللباقة".

​هذه "الشخصية البلاطية" هي النموذج الأولي لـ "الإنسان المتمدن" الحديث الذي يمارس "ضبط النفس" ليس بالضرورة لأسباب أخلاقية، بل كضرورة "استراتيجية" للنجاح في شبكة اجتماعية معقدة.

​ما وراء التمدن: الموت، الزمن، والجسد

​امتد تحليل إلياس ليشمل كيف غيّرت "عملية التمدن" مفاهيمنا الأساسية:

  • "وحدة الموتى" (The Loneliness of the Dying):
    • ​في العصور الوسطى، كان الموت "حدثاً عاماً". يحتضر الفرد في سريره محاطاً بعائلته وجيرانه. كان الموت جزءاً طبيعياً من الحياة.
    • ​في العصر الحديث، أصبحنا "نخجل" من الموت (كما نخجل من الانفعالات الجسدية).
    • النتيجة: أصبح الموت "معقماً" و"مخصخصاً". نحن "نخفي" الموتى والمحتضرين في المستشفيات، بعيداً عن الأنظار. أصبح الموت "وحيداً"، وهو الثمن الذي ندفعه مقابل "تمدننا".
  • "بحث في الزمن" (Time: An Essay):
    • ​حتى "الزمن" ليس معطى طبيعياً، بل هو "بناء اجتماعي" مرتبط بضبط النفس.
    • ​للسيطرة على انفعالاتك، يجب أن تكون قادراً على "التخطيط للمستقبل" (تأجيل الإشباع الفوري). هذا يتطلب إحساساً دقيقاً بـ "الوقت" كخط مستقيم.
    • ​هذا يختلف عن "زمن" الفلاح في العصور الوسطى، الذي كان "دائرياً" (مرتبطاً بالمواسم).

​ نقد وإرث إلياس: تقييم متوازن

​على الرغم من عبقرية إلياس، واجهت أعماله انتقادات مهمة، كما ذكرت في ملخصك:

  1. المركزية الأوروبية (Eurocentrism):
    • النقد: يركز إلياس حصرياً على المجتمعات الغربية (فرنسا، ألمانيا، إنجلترا) ويقدمها كـ "نموذج" للتمدن، مهملاً المجتمعات الأخرى.
    • الرد: إلياس لم يكن يقول إن أوروبا "أفضل"، بل كان "يؤرخ" لعملية "محددة" حدثت هناك. هو يصف "ما حدث"، ولم يكن يضع "معياراً" عالمياً.
  2. تبسيط العملية (Oversimplification):
    • النقد: اتُهم بأنه يرى "التمدن" كعملية خطية مستمرة (Linear process)، وأنه أهمل دور الصراع والتغيير الاجتماعي المفاجئ (الثورات).
    • الرد: هذا سوء فهم. "آلية الاحتكار" التي وصفها هي "نظرية صراع" بامتياز. هو فقط نظر للصراع على المدى الطويل (longue durée) بدلاً من اللحظات الثورية.
  3. أخطر نقد: "عملية التمدن المعاكس" (De-civilization):
    • ​كيف يمكن لنظرية "التمدن" أن تفسر "الهولوكوست" والبربرية التي حدثت في "أكثر" دول أوروبا (ألمانيا) تمدناً؟
    • ​إلياس (الذي هرب بنفسه من النازية) كان واعياً جداً بهذا. في أعماله اللاحقة، جادل بأن "التمدن" ليس "نهاية التاريخ"، بل هو "عملية هشة" (Fragile). عندما تنهار "احتكارات الدولة" (كما حدث في جمهورية فايمار)، يمكن أن تحدث "عملية تمدن معاكس" سريعة تعود فيها البربرية والعنف الفوري.

​ خاتمة: إرث إلياس الخالد

نوربيرت إلياس هو عالم الاجتماع الذي ربط "آداب المائدة" بـ "بناء الدولة". هو الذي ربط "الخجل" بـ "احتكار السلطة".

​إرثه الأكبر هو رفضه للفصل بين الفرد والمجتمع، والتأكيد على:

  • البعد التاريخي: لا يمكن فهم أي ظاهرة اجتماعية (حتى "الموت") دون رؤية تطورها التاريخي الطويل.
  • الربط بين البنى وعلم النفس: البنى الاجتماعية (مثل الدولة) لا "تسحقنا" فقط، بل "تعيد تشكيل" شخصياتنا من الداخل (Psychogenesis).
  • التركيز على الجسد والانفعالات: لقد وضع "الجسد" و"العواطف" و"الخجل" في قلب التحليل السوسيولوجي.

​في عصرنا الحالي، الذي يشهد "تشكيلات" جديدة من الاعتماد المتبادل (العولمة) وتحديات جديدة "لاحتكار الدولة" للعنف، يصبح منهج إلياس في "صيد الروابط" الخفية أكثر أهمية من أي وقت مضى.

تعليقات