📁 آخر الأخبار

غوستاف لوبون: المؤسس المثير للجدل لـ "سيكولوجية الجماهير"

غوستاف لوبون: المؤسس المثير للجدل لـ "سيكولوجية الجماهير"

​مقدمة: لماذا لا نزال نقرأ غوستاف لوبون اليوم؟

​في عصرنا الحالي، عصر التسارع الاجتماعي ووسائل التواصل الاجتماعي التي تحول الأفراد إلى "جماهير افتراضية" في لحظات، تبدو أفكار مفكر من القرن التاسع عشر أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. غوستاف لوبون (Gustave Le Bon) (1841-1931)، الطبيب، المؤرخ، وعالم الاجتماع الفرنسي، هو واحد من أكثر المفكرين تأثيراً وإثارة للجدل في التاريخ الحديث.

​رغم أن علم الاجتماع الأكاديمي الحديث قد يتجاوز الكثير من استنتاجاته، إلا أن لوبون كان أول من وضع يده على العصب الحساس للحداثة: قوة "الجمهور" (The Crowd). لقد كشف بوضوح مرعب كيف أن الأفراد، عندما يجتمعون، يتحولون إلى كائن جديد، كائن عاطفي، غير عقلاني، وقابل للقيادة بشكل مخيف.

غوستاف لوبون: المؤسس المثير للجدل لـ "سيكولوجية الجماهير"
غوستاف لوبون: المؤسس المثير للجدل لـ "سيكولوجية الجماهير".

​لم تكن مساهمات Le Bon المؤثرة مجرد نظريات أكاديمية؛ بل كانت دليلاً عملياً استلهم منه المسوقون، وخبراء الدعاية، وحتى أكثر قادة القرن العشرين استبداداً. في هذه المقالة الشاملة، سنغوص في سيرة المؤرخ وعالم الاجتماع غوستاف لوبون، ونحلل بعمق نظريته المركزية، ونستعرض أهم كتبه، لنفهم أخيراً إرثه المزدوج: هل كان عبقرياً كشف أسرار السلوك الجماعي أم مُنظّراً خطيراً برر العنصرية والاستبداد؟

​1. التعريف بغوستاف لوبون: الرجل في سياق عصره

​لفهم فكر لوبون، يجب أن نفهم عصره. وُلد غوستاف لوبون عام 1841، وعاش في فترة من الاضطرابات الهائلة في فرنسا وأوروبا: سقوط الإمبراطوريات، صعود الاشتراكية، الثورة الصناعية، وتجارب "كومونة باريس" (1871) الدامية.

​كان لوبون، القادم من خلفية أرستقراطية، ينظر بقلق وخوف إلى هذا العالم الجديد. لقد رأى "الجماهير" (الطبقات العاملة، الثوار، الناخبون الجدد) كقوة صاعدة ومدمرة تهدد النظام القديم الذي عرفه.

  • التكوين الموسوعي: لم يكن لوبون عالم اجتماع بالمعنى الضيق. لقد بدأ كطبيب، ثم تحول إلى علم الآثار والأنثروبولوجيا، وسافر كثيراً إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا. هذا التكوين الموسوعي منحه منظوراً واسعاً (وإن كان منحازاً) لدراسة "الأعراق" و "الحضارات".
  • الخوف من الديمقراطية: كان لوبون من أشد منتقدي الديمقراطية البرلمانية. لم يرَ فيها حكماً للشعب، بل رآها مسرحاً لسيطرة "الغوغاء" غير العقلانيين. هذا الخوف هو الذي دفعه لصياغة نظريته الأهم.

​2. النظرية المركزية: "سيكولوجية الجماهير" (The Crowd Psychology)

​إن المساهمة الأهم والأشهر لغوستاف لوبون هي كتابه الصادر عام 1895: "سيكولوجية الجماهير" (La Psychologie des foules). هذا الكتاب لم يكن مجرد تحليل، بل كان بمثابة "إنذار" للنخب الحاكمة.

​يجادل لوبون بأن الأفراد يتصرفون بشكل مختلف تماماً عندما يكونون وحدهم مقارنة بكونهم جزءاً من "جمهور نفسي" (Psychological Crowd). هذا الجمهور ليس مجرد تجمع عشوائي للأفراد، بل هو "كائن" جديد له خصائص خاصة.

​خصائص "الجمهور النفسي" عند لوبون:

  1. تلاشي الوعي الفردي: بمجرد أن يصبح الفرد جزءاً من جمهور، يذوب وعيه الفردي، وتفكيره النقدي، ومسؤوليته الأخلاقية. يحل محلها "العقل الجماعي" أو "الروح الجماعية" (Collective Mind).
  2. سيطرة اللاوعي والعاطفة: هذا العقل الجماعي ليس عقلانياً، بل هو "لا واعي" وعاطفي ومندفع. الجماهير، حسب لوبون، لا تفكر بالمنطق، بل "بالصور" و "المشاعر" المتطرفة (إما الحب الأعمى أو الكراهية المطلقة).
  3. العدوى العقلية (Mental Contagion): الأفكار والمشاعر تنتشر داخل الجمهور كالنار في الهشيم، تماماً مثل "العدوى" الفيروسية. يصبح الفرد "قابلاً للإيحاء" (Suggestible) بشكل يشبه التنويم المغناطيسي، ويفقد قدرته على مقاومة التيار.
  4. اللاعقلانية والاندفاع: الجمهور عاطفي، مندفع، لا يتحمل الشك، ويميل إلى التبسيط المخل. إنه يريد "زعيماً" يمنحه "وهماً" أو "إيماناً" يتبعه بشكل أعمى.

​كيف يتم "قيادة" الجماهير؟

​لم يكتفِ لوبون بالتشخيص، بل قدم "دليل إرشادي" (Manual) لكيفية السيطرة على هذه الجماهير. لقد حدد ثلاث آليات رئيسية يستخدمها "القائد" (Leader):

  1. التأكيد (Affirmation): تقديم الأفكار كشعارات بسيطة، قاطعة، وجازمة، خالية من أي دليل منطقي.
  2. التكرار (Repetition): تكرار هذه الشعارات مراراً وتكراراً حتى تثبت في "لاوعي" الجمهور كحقائق بديهية. (هذه التقنية أصبحت حجر الزاوية في الدعاية الحديثة).
  3. العدوى (Contagion): استخدام "الهيبة" (Prestige) الشخصية للقائد لنشر هذه الأفكار بين أتباعه، الذين ينشرونها بدورهم لبقية المجتمع.

​3. مساهمات Le Bon المؤثرة (تحليل أهم الكتب)

​بينما يطغى "سيكولوجية الجماهير" على إرثه، فإن أعماله الأخرى توضح تطور فكره (وانحيازاته العميقة).

​أ. "سيكولوجية الشعوب" (Les Lois psychologiques de l'évolution des peuples - 1894)

  • التاريخ الصحيح: 1894 (وليس 1921 كما يُشاع).
  • المساهمة: هذا الكتاب يضع الأساس العنصري لفكره. يجادل لوبون بأن "العرق" (Race) هو المحرك الأساسي للتاريخ، وليس المؤسسات أو القوانين.
  • ​يقسم الشعوب إلى "أعراق بدائية"، "أعراق دنيا"، "أعراق متوسطة"، و "أعراق عليا" (الأوروبيون طبعاً).
  • ​يرى أن لكل "عرق" "روحاً قومية" (National Soul) ثابتة تحدد مصيره. هذا الكتاب هو الذي جعله محبوباً لدى منظري الاستعمار والتفوق العرقي.

​ب. "الحشد: دراسة للعقل الشعبي" (La Psychologie des foules - 1895)

  • التاريخ الصحيح: 1895.
  • المساهمة: كما شرحنا بالتفصيل أعلاه، هذا هو عمله الأهم. هو تطبيق لنظرياته العرقية ولكن على "الطبقات" الاجتماعية داخل أوروبا.
  • ​الجمهور بالنسبة له هو "الطبقة العاملة" أو "الغوغاء" الذين يفتقرون إلى عقلانية النخبة الأرستقراطية. الكتاب هو صرخة تحذير للنخب من صعود الديمقراطية والاشتراكية.

​ج. "سيكولوجية الثورة" (La Révolution française et la psychologie des révolutions - 1912)

  • التاريخ الصحيح: 1912 (وليس 1899).
  • المساهمة: في هذا الكتاب، يطبق لوبون نظريته عن "الجماهير" على حدث تاريخي ضخم: الثورة الفرنسية.
  • ​يجادل بأن الثورة لم تكن نتاجاً لـ أفكار التنوير العقلانية، بل كانت انفجاراً "لا عقلانياً" و "دينياً" (بمعنى الإيمان الأعمى) لـ "روح الجماهير".
  • ​يرى أن "قادة" الثورة (مثل روبسبير) كانوا مجرد دُمى في يد "المنطق الجماعي" اللاواعي للجمهور، الذي كان متعطشاً للعنف باسم "مبادئ" مجردة.

​د. "تطور القوى" (L'Évolution des forces - 1907)

  • التاريخ الصحيح: 1907.
  • المساهمة: هذا الكتاب يكشف جانب لوبون كـ "فيلسوف للمادة". إنه محاولة طموحة (وغير ناجحة علمياً) للتوحيد بين الفيزياء وعلم النفس.
  • ​يجادل بأن الطاقة المادية والطاقة النفسية (الفكر، الإرادة) هما شيء واحد. كانت محاولته لإيجاد "قانون علمي" واحد يفسر كل شيء، من حركة الذرات إلى صعود وسقوط الحضارات.

​هـ. "العالم في الثورة" أو "اختلال توازن العالم" (Le Déséquilibre du Monde - 1921)

  • التاريخ الصحيح: 1921 (العنوان يُترجم غالباً بـ "العالم غير المتوازن"، وليس 1927).
  • المساهمة: هذا هو تحليل لوبون لعالم ما بعد الحرب العالمية الأولى. إنه كتاب يملؤه التشاؤم.
  • ​يرى أن الحرب دمرت "الهيبة" القديمة (النخب، التقاليد، الدين)، وأطلقت العنان لقوى "الجماهير" المدمرة في جميع أنحاء أوروبا، وخاصة مع صعود البلشفية في روسيا.
  • ​إنه يرى العالم وهو يغرق في فوضى "لا عقلانية" حذر منها قبل 30 عاماً.

​4. الإرث المزدوج: العبقرية والنقد

​لا يمكن كتابة مقال احترافي عن غوستاف لوبون دون معالجة إرثه المثير للجدل.

​التأثير الهائل (الإرث الإيجابي/المحايد)

  1. مؤسس علم النفس الاجتماعي: يعتبر لوبون (إلى جانب غابرييل تارد) الأب المؤسس لـ "علم النفس الاجتماعي" (Social Psychology) ودراسة "السلوك الجماعي".
  2. تأثيره على فرويد: اعترف سيغموند فرويد مباشرة بتأثير لوبون في كتابه "علم نفس الجماعة وتحليل الأنا"، وإن كان فرويد قد طور الأفكار بشكل أعمق.
  3. أبو الدعاية الحديثة: يُعتبر إدوارد بيرنيز (ابن أخت فرويد) "أبو العلاقات العامة"، وقد بنى نظرياته في "هندسة الإجماع" (Engineering Consent) مباشرة على أفكار لوبون حول كيفية "قيادة" اللاوعي الجماهيري.
  4. نقد صناعة الثقافة: يمكن رؤية صدى لأفكار لوبون في نقد مدرسة فرانكفورت لـ "صناعة الثقافة"، التي تعمل أيضاً على "تنميط" الجماهير وجعلها سلبية وغير عقلانية.

​النقد الشديد (الإرث المظلم)

  1. انعدام المنهج العلمي: يُنتقد لوبون بشدة لكونه "فيلسوف كرسي" (Armchair philosopher). نظرياته ليست مبنية على تجارب علمية أو بيانات دقيقة، بل على ملاحظات شخصية منحازة وتعميمات تاريخية.
  2. النخبوية وكراهية الديمقراطية: كان فكر لوبون مدفوعاً بخوف أرستقراطي من "الجماهير". هو لم "يحلل" الجماهير بقدر ما كان "يشيطنها" كقوة همجية.
  3. العنصرية الصريحة والتمييز الجنسي: كتبه (خاصة "سيكولوجية الشعوب") مليئة بالتصنيفات العنصرية الفجة والتمييز الصريح ضد المرأة (التي اعتبرها عاطفية وغير عقلانية، مثلها مثل الجماهير).
  4. "دليل الطغاة": وهذا هو الإرث الأخطر. يُقال إن كتاب "سيكولوجية الجماهير" كان "الكتاب المفضل" لكل من بينيتو موسوليني وأدولف هتلر. لقد وجدوا في تحليلات لوبون (التأكيد، التكرار، العدوى، دور القائد) وصفة جاهزة لحشد الجماهير والوصول إلى السلطة.

​خاتمة: لوبون في عصر السوشيال ميديا

​كان غوستاف لوبون شاهداً على ولادة "عصر الجماهير" في نهاية القرن التاسع عشر. واليوم، نحن نعيش في ذروة هذا العصر. وسائل التواصل الاجتماعي هي "جمهور نفسي" هائل يعمل 24/7.

  • العدوى العقلية هي ما نسميه اليوم "الترند الفيروسي" (Viral Trend).
  • التأكيد والتكرار هما أساس عمل "الخوارزميات" و "غرف الصدى" (Echo Chambers).
  • القادة الجدد هم "المؤثرون" (Influencers) الذين يستخدمون "الهيبة" لحشد المتابعين.

​إن قراءة غوستاف لوبون اليوم ليست لتبرير أفكاره العنصرية أو النخبوية، بل لأن تحذيره، بغض النظر عن دوافعه، لا يزال صالحاً: عندما يتخلى الفرد عن وعيه النقدي لصالح "الروح الجماعية"، فإنه يفتح الباب أمام أخطر أشكال التلاعب والاستبداد. وفي عصرنا الرقمي، أصبح هذا التحدي أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، مما يتطلب منا تفعيل الخيال الإنساني النقدي لمقاومة هذا التيار.

تعليقات