روبرت بارك: مؤسس مدرسة شيكاغو ومهندس "علم الاجتماع الحضري" ونظرية الرجل الهامشي

(مقدمة المقال):

في تاريخ العلوم الاجتماعية، هناك علماء يدرسون المجتمع من مكاتبهم الوثيرة، وهناك علماء ينزلون إلى الشوارع، يغوصون في الأحياء الفقيرة، ويختلطون بالمهاجرين والمهمشين لفهم نبض المدينة. روبرت إي بارك (Robert E. Park) كان رائداً لهذا النوع الثاني. إنه الصحفي الذي تحول إلى عالم اجتماع، ليقود ثورة منهجية جعلت من مدينة شيكاغو "مختبراً اجتماعياً" مفتوحاً.

يُعتبر بارك (1864-1944) العمود الفقري لـ مدرسة شيكاغو (Chicago School) الشهيرة، والمؤسس الحقيقي لـ علم البيئة البشرية (Human Ecology). لم يكتفِ بدراسة النظريات المجردة، بل صاغ مفاهيم لا تزال تحكم فهمنا للمدن والهجرة حتى اليوم، مثل "الرجل الهامشي"، "دورة العلاقات العرقية"، والفرق بين "الحشد والجمهور".

في هذا الملف الأكاديمي الشامل، سنستعرض سيرة هذا العالم الفذ، ونحلل نظرياته التي ربطت بين البيئة والسلوك البشري، وكيف حول الصحافة إلى أداة سوسيولوجية دقيقة، مع استعراض لأهم مؤلفاته التي شكلت وعي أجيال من الباحثين.

صورة عالم الاجتماع روبرت بارك Robert E.Park

أولاً: من الصحافة إلى الأكاديميا.. سيرة غير تقليدية

لم يبدأ روبرت بارك حياته كأكاديمي تقليدي، وهذا سر عبقريته.

المولد والنشأة: ولد في بنسلفانيا عام 1864، ونشأ في الغرب الأوسط الأمريكي.
المرحلة الصحفية: عمل بارك لمدة 11 عاماً كصحفي استقصائي في مدن مثل مينيابوليس ونيويورك وشيكاغو. هذه الفترة علمته كيف يراقب التفاصيل الدقيقة للحياة الحضرية، وكيف يكتب عن "القصص الإنسانية" وراء الأرقام. كان يقول إن الصحافة تعطيك "الأخبار الكبيرة" (Big News)، لكن علم الاجتماع يعطيك "الحقائق الكبيرة" (Big Truths).
التحول الأكاديمي: لم يكتفِ بالصحافة، بل سافر إلى ألمانيا ودرس الفلسفة وعلم الاجتماع، حيث تتلمذ على يد عالم الاجتماع الألماني الشهير جورج سيميل (Georg Simmel)، الذي أثر فيه بعمق بنظرياته عن "الغريب" و"المدينة".
العمل مع بوكر تي واشنطن: قبل انضمامه لجامعة شيكاغو، عمل لمدة سبع سنوات سكرتيراً ومساعداً للمصلح الأمريكي من أصل أفريقي بوكر تي واشنطن في معهد توسكيجي، مما منحه بصيرة نادرة حول العلاقات العرقية ومعاناة السود في أمريكا، وهي خبرة شكلت لاحقاً نظرياته عن العرق.

ثانياً: مدرسة شيكاغو وعلم البيئة البشرية (Human Ecology)

عندما انضم بارك إلى جامعة شيكاغو عام 1914، أسس مع زملائه (مثل إرنست بورغيس) ما يعرف بـ "البيئة البشرية".

استعار بارك مفاهيم من علم الأحياء (Biology) وطبقها على المجتمع البشري.

الفكرة الجوهرية: المدينة تشبه "الغابة" أو "الكائن الحي".

التنافس (Competition): كما تتنافس النباتات على ضوء الشمس، يتنافس البشر والجماعات في المدينة على "المكان" و"الموارد الاقتصادية". هذا التنافس هو المحرك الأساسي لتوزيع السكان.
الهيمنة (Dominance): تسيطر جماعات معينة (تجارية أو صناعية) على مركز المدينة (مناطق النفوذ)، وتدفع الجماعات الأضعف (المهاجرين الجدد) إلى المناطق الهامشية.
التعاقب (Succession): عندما تدخل جماعة مهاجرة جديدة إلى حي معين، وتخرج الجماعة القديمة منه، تشبه هذه العملية تعاقب النباتات في البيئة الطبيعية.

هذا المنظور جعل المدينة تبدو كنظام ديناميكي حي، وليست مجرد مباني وشوارع.

ثالثاً: النظريات الكبرى لروبرت بارك

1. نظرية دورة العلاقات العرقية (Race Relations Cycle)

من أشهر مساهمات بارك، حيث وضع نموذجاً يفسر كيف تتفاعل الجماعات المهاجرة مع المجتمع المضيف. تتكون الدورة من أربع مراحل حتمية (من وجهة نظره):

أ. الاتصال (Contact): اللقاء الأول بين المهاجرين والسكان الأصليين.
ب. الصراع (Conflict): التنافس على الموارد والوظائف والسكن يؤدي لتوترات.
ج. التكيف (Accommodation): يتوقف الصراع المفتوح، وتنشأ ترتيبات اجتماعية (مثل العزلة في أحياء خاصة أو نظام طبقي) تسمح بالتعايش المؤقت.
د. التمثل/الاستيعاب (Assimilation): المرحلة النهائية حيث تذوب الفوارق الثقافية ويندمج المهاجرون كلياً في المجتمع الجديد. (ملاحظة نقدية: انتقد علماء لاحقون حتمية المرحلة الأخيرة، مشيرين إلى أن بعض الجماعات تحافظ على هويتها ولا تندمج بالكامل).

2. نظرية الرجل الهامشي (The Marginal Man)

في مقاله الشهير عام 1928، صاغ بارك مصطلح "الرجل الهامشي".

التعريف: هو الفرد الذي يعيش على الحدود بين ثقافتين مختلفتين ومتصارعتين، ولا ينتمي بالكامل لأي منهما (مثل المهاجر، أو المولود من عرقين مختلطين).
التأثير النفسي: يعاني هذا الشخص من اضطراب نفسي، وشعور بالاغتراب وعدم الاستقرار.
الوجه الإيجابي: رأى بارك أن الرجل الهامشي، بسبب وضعه الفريد، يمتلك "بصيرة كونية" وذكاءً متقداً، لأنه يتحرر من قيود العادات التقليدية لكلا الثقافتين، مما يجعله أكثر قدرة على الإبداع والابتكار. الرجل الهامشي هو محرك الحضارة الحديثة.

3. المسافة الاجتماعية (Social Distance)

طور بارك مفهوم "المسافة الاجتماعية" (الذي حوله تلميذه بوغاردوس إلى مقياس إحصائي). وهي تعني درجة التعاطف والتفاهم بين الأفراد أو الجماعات.

كلما قلت المسافة الاجتماعية، زاد التفاهم (مثل العلاقة داخل الأسرة).
كلما زادت المسافة، زاد التحيز والجمود (مثل العلاقة بين عرقين متنافرين في المدينة).

رابعاً: الحشد والجمهور (السلوك الجمعي)

في كتابه "الحشد والجمهور ومقالات أخرى"، قدم بارك تحليلاً دقيقاً للفرق بين أنواع التجمعات البشرية:

الحشد (The Crowd): تجمع تحركه العاطفة المشتركة والعدوى النفسية. في الحشد، يذوب الفرد وتختفي عقلانيته، ويسيطر الدافع الغريزي (مثل أعمال الشغب). الحشد لا "يفكر"، بل "يشعر".
الجمهور (The Public): تجمع عقلاني من أفراد متباعدين جسدياً لكنهم يتفاعلون حول "قضية" معينة. الجمهور يتميز بوجود الرأي العام، والنقاش، والجدل، وتضارب المصالح. اعتبر بارك أن "الجمهور" والرأي العام هما أساس الديمقراطية والمجتمع الحديث، بينما "الحشد" هو شكل بدائي.

خامساً: المنهجية.. الخروج من البرج العاجي

يُنسب لروبرت بارك الفضل في نقل علم الاجتماع من "التنظير المكتبي" إلى "البحث الميداني" (Fieldwork).

كانت نصيحته الشهيرة لطلابه:

"اذهبوا وتلطخ بنطالكم بقذارة البحث الحقيقي. اخرجوا إلى الأحياء الفقيرة، والفنادق الرخيصة، والنوادي الليلية، والأحياء الذهبية. راقبوا الناس، استمعوا إليهم، واكتبوا ما ترونه، لا ما تتخيلونه."

بفضل هذا النهج، أنتجت مدرسة شيكاغو دراسات إثنوغرافية خالدة عن العصابات، والمشردين (Hobo)، وصالات الرقص، والجريمة المنظمة.

سادساً: أهم مؤلفات روبرت بارك

ترك بارك مكتبة غنية، غالباً ما كانت مقالات جمعت لاحقاً في كتب، ومن أهمها:

"المدينة" (The City - 1915): الكتاب التأسيسي لعلم الاجتماع الحضري، كتبه بمشاركة إرنست بورغيس وماكنزي. وضع فيه مخطط "الدوائر المركزية" لتوسع المدينة.
"الهجرة البشرية والرجل الهامشي" (1928): مقال تحليلي يربط بين التنقل الجغرافي والتغير الثقافي.
"مقدمة في علم الاجتماع" (Introduction to the Science of Sociology - 1921): عُرف بـ "الكتاب الأخضر"، وكان الكتاب المدرسي الأهم لعلم الاجتماع في أمريكا لعدة عقود.

(خاتمة المقال):

في الختام، يظل روبرت بارك واحداً من العمالقة الذين شكلوا وعينا بالحياة الحديثة. لقد علمنا أن المدينة ليست كتلاً من الإسمنت، بل هي شبكة معقدة من العلاقات البشرية، والتنافس، والهويات المتصارعة.

نظرياته عن "الرجل الهامشي" و"دورة العلاقات العرقية" لا تزال أدوات تحليلية قوية لفهم قضايا اللاجئين، والهجرة، والعولمة في عالمنا اليوم. لقد أثبت بارك أن الصحفي الفضولي يمكن أن يصبح عالماً فذاً إذا امتلك المنهج الصحيح والشغف بالحقيقة.

الأسئلة الشائعة (FAQ)

س: ما هو مفهوم "الرجل الهامشي" عند روبرت بارك؟

ج: هو الشخص الذي يعيش في تقاطع ثقافتين مختلفتين (مثل المهاجر)، مما يجعله يشعر بالغربة النفسية وعدم الانتماء الكامل لأي منهما، لكنه في المقابل يمتلك رؤية أوسع وذكاءً ثقافياً نتيجة هذا الموقع الفريد.

س: ما هي "مدرسة شيكاغو" في علم الاجتماع؟

ج: هي أول مدرسة كبرى لعلم الاجتماع في أمريكا، تأسست في جامعة شيكاغو في أوائل القرن العشرين. اشتهرت باستخدام المدينة كمختبر للبحث الميداني، والتركيز على المشكلات الاجتماعية مثل الجريمة والهجرة والتحضر.

س: كيف يختلف "الحشد" عن "الجمهور" عند بارك؟

ج: الحشد تحركه العاطفة والعدوى النفسية واللاعقلانية (مثل المظاهرات الغاضبة)، بينما الجمهور هو تجمع عقلاني يقوم على النقاش وتبادل الآراء وتكوين الرأي العام حول قضية ما.

boukultra | شريان المعرفة

روبرت بارك: مؤسس مدرسة شيكاغو ومهندس "علم الاجتماع الحضري" ونظرية الرجل الهامشي