📁 آخر الأخبار

علم الاجتماع في عالم متغير" – رؤية صلاح مصطفى الفوال لمستقبل السوسيولوجيا

علم الاجتماع في عالم متغير" – رؤية صلاح مصطفى الفوال لمستقبل السوسيولوجيا

​المقدمة: ضرورة التغير في علم الاجتماع في عالم متغير

​في خضم التغيرات المتسارعة التي تشهدها مجتمعاتنا على كافة الأصعدة – المادية وغير المادية، محليًا وعالميًا – يبرز علم الاجتماع كأداة تحليلية لا غنى عنها لفهم هذه التحولات. لكن هذا العلم نفسه، وبحكم طبيعة موضوعه (المجتمع المتغير)، لا يتمتع بخاصية الثبات، بل هو في تغير وتطور مستمر على مستوى النظرية والمنهج والتطبيق. هنا تكمن أهمية كتاب "علم الاجتماع في عالم متغير" للدكتور صلاح مصطفى الفوال، أستاذ علم الاجتماع ورئيس مركز البحوث والدراسات العربية بالقاهرة. يقدم هذا المؤلف، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1996م، رؤية سوسيولوجية شاملة تتتبع مسيرة هذا العلم الحيوي منذ نشأته المبكرة وحتى نهاية القرن العشرين، مع تحديد التزاماته وميادين دراساته المقترحة للقرن الحادي والعشرين.

​الدكتور صلاح مصطفى الفوال لا يكتفي بعرض تاريخي، بل يقدم إطارًا تحليليًا متكاملًا لـأصول علم الاجتماع، مؤكدًا على أن الفكر الاجتماعي، وإن اختلفت طرق التعبير عنه، هو فكر واحد ظل المجتمع يمثل مجاله الأساسي للدراسة. ويشدد الكتاب على أن مواجهة التغيرات المتلاحقة تتطلب تجاوز مرحلة التعاون بين علم الاجتماع والعلوم الأخرى إلى مرحلة التكامل، وهو مبدأ يفرض ظهور موضوعات وميادين جديدة للبحث السوسيولوجي. كما يطرح الفوال قائمة بموضوعات حيوية يرى أنها يجب أن تكون محور الاهتمام الأول لـعلم الاجتماع في عالم متغير خلال الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.


علم الاجتماع في عالم متغير" – رؤية صلاح مصطفى الفوال لمستقبل السوسيولوجيا
غلاف كتاب علم الاجتماع في عالم متغير.

​هذه المقالة الاحترافية ستغوص في أعماق كتاب "علم الاجتماع في عالم متغير" لتسليط الضوء على أبرز محاوره الفكرية، بدءًا من البدايات المبكرة للتفكير الاجتماعي، مروراً بإسهامات ابن خلدون في علم الاجتماع وأصول علم الاجتماع الحديثة، وصولاً إلى الرؤية المستقبلية للدكتور صلاح مصطفى الفوال لمستقبل هذا العلم في ظل التحديات العالمية المتغيرة. إنها رحلة فكرية لا غنى عنها لكل باحث أو مهتم بفهم بنية وتطور المجتمع.

​🏛️ البدايات المبكرة للفكر الاجتماعي: الحضارة المصرية واليونانية

​خصص الدكتور صلاح مصطفى الفوال الباب الأول من كتابه لـالبدايات المبكرة للتفكير الاجتماعي في مرحلة ما قبل الميلاد، مركزًا على الحضارتين المصرية واليونانية. ويقدم هذا الجزء أساسًا متينًا لفهم الجذور التاريخية لـأصول علم الاجتماع.

​الفكر الاجتماعي المصري القديم

​يُعتبر الفكر الاجتماعي المصري القديم، في رأي الفوال، أول فكر اجتماعي منظم ساهم في بناء حضارة عظيمة. ومن أهم سماته أنه كان تعبيراً عن الواقع الاجتماعي، وممتزجاً بالعقائد الدينية، ونتاجاً للحياة المجتمعية المتصلة بالنيل والأرض. ويعرض الكتاب لمصادر هذا الفكر من خلال:

  • الوصايا: التي تضمنت قيماً اجتماعية حول تكوين الأسرة، وتنشئة الأبناء، واحترام المرأة.
  • التشريعات: كمرسوم حور محب الذي استهدف محاربة الفساد والرشوة، وتشريعات أمحوتب التي نظمت العلاقة بين الزوجين وحقوق الزوجة على زوجها.
  • الأدب: الذي كان صورة حية للواقع الاجتماعي، مثل قصة "الفلاح الفصيح" التي تعبر عن معاناة الشعب من الظلم والفساد.

​كما يتناول الكتاب بالتفصيل البناء الاجتماعي القديم، والطبقات، ونظام الرق الذي تميز بالإنسانية مقارنة بالأمم الأخرى.

​الفكر الاجتماعي اليوناني القديم

​يربط الكتاب الفكر اليوناني القديم بالأساس بأفلاطون وأرسطو.

  • أفلاطون: الذي شرح تطور المجتمعات على أساس منهجي، بدءًا من المرحلة البدائية (الرعوية) وصولًا إلى المجتمع السياسي الكامل (مجتمع المدينة). وتأثرت رؤيته للمجتمع بأقسام النفس البشرية (العقل، الروح، الشهوة) فقسم المجتمع إلى ثلاث طبقات (الفلاسفة/الحكام، المحاربون، الزراع/التجار).
  • أرسطو: تلميذ أفلاطون، اعتبر أن الإنسان مدني بالطبع أو "حيوان سياسي". رأى أن الأسرة هي الخلية الطبيعية الأولى، وأن اجتماع القرى يؤدي إلى نشأة مجتمع المدينة الذي يُعد أكمل الوحدات الاجتماعية. تميز منهج أرسطو بالواقعية، الوصف، والمقارنة، مما جعله أكثر تأثيرًا في نظريات علم الاجتماع.

​هذه الجذور المبكرة توضح أن التفكير في الظواهر الاجتماعية سابق لوجود التسمية الحديثة لـعلم الاجتماع.

​🌙 الفكر الاجتماعي الإسلامي: من الفارابي إلى البيروني

​في الباب الثاني، ينتقل الدكتور صلاح مصطفى الفوال ليؤكد على الدور الريادي لعلماء المسلمين في إرساء أسس الفكر السوسيولوجي الإسلامي. وقد أثرت إسهاماتهم في شتى مجالات العلوم، بما في ذلك ما تطور لاحقاً ليصبح علم الاجتماع.

​الفارابي وإسهاماته السوسيولوجية

​يعتبر الفارابي أحد أهم رواد الفكر السوسيولوجي المثالي، ويظهر ذلك في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة".

  • ضرورة التجمع: أكد الفارابي على أن الاجتماع الإنساني ضروري لأن الإنسان لا يستطيع أن يحقق كمالاته بمفرده.
  • أشكال التجمع: قسم الفارابي المجتمعات إلى كاملة (عظمى، وسطى، صغرى) وغير كاملة (قرية، حلة، منزل)، معتمدًا في ذلك على حجم التجمع وقدرته على تلبية احتياجات أعضائه.
  • المدينة الفاضلة: هي التي يكون هدف الاجتماع فيها التعاون على تحقيق السعادة، وشبهها بأعضاء الجسد الواحد الذي يعمل بتناغم تحت رئاسة القلب (الرئيس). وحدد الفارابي 12 شرطًا لرئيس المدينة الفاضلة (ستة موروثة وستة مكتسبة). هذا الاتجاه يمثل النموذج اليوتوبي في نظريات علم الاجتماع.

​إسهامات ابن مسكويه والبيروني

  • ابن مسكويه: ركز في كتابه "تهذيب الأخلاق" على الأخلاق كعامل اجتماعي ضروري لقوام المجتمع. رأى أن المجتمع ضرورة أخلاقية، وأن الإنسان لا يبلغ كماله إلا بالاجتماع، متأثرًا بفكرة المماثلة العضوية (تشبيه المجتمع بالكائن الحي).
  • البيروني وإسهاماته السوسيولوجية: يعتبر البيروني رائداً ومنهجه مؤسسًا لـلأنثروبولوجيا الاجتماعية. من أهم إسهاماته:
    • المنهج العلمي: نادى بالاعتماد على الملاحظة والتجربة ورفض التقليد، وبضرورة الرجوع إلى المصادر الأصلية.
    • دراسة الثقافات المقارنة: في كتابه "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" (كتاب الهند الكبير)، قدم دراسة سوسيولوجية/أنثروبولوجية شاملة للمجتمع الهندي من حيث العادات والديانات والبناء الاجتماعي، معتمدًا على المنهج الوصفي والمقارن. يعد البيروني بحق واحدًا من الأعلام الذين مهدوا لـأصول علم الاجتماع المنهجية.

​هذه المساهمات تؤكد العمق التاريخي لـفكر صلاح مصطفى الفوال في تتبع الجذور غير الغربية لـعلم الاجتماع.

​🌟 ابن خلدون: المؤسس الحقيقي لـ"علم العمران البشري"

​يخصص الدكتور صلاح مصطفى الفوال الفصل السابع من الباب الثالث لـابن خلدون، ويقدمه بوضوح كـابن خلدون علم الاجتماع والمخترع العربي المسلم لـ"علم العمران البشري" أو "علم الاجتماع الإنساني".

​أهمية ابن خلدون كمؤسس لـ"علم الاجتماع"

  • الاستقلالية المنهجية: يرى الفوال أن ابن خلدون استطاع أن يبتكر علمًا جديدًا له موضوعه ومنهجه، وهو ما يعرف اليوم بـعلم الاجتماع. وقد اعتمد في ذلك على نقد كتابات المؤرخين التي تمتلئ بالمغالطات والأوهام.
  • النظرية السوسيولوجية الخلدونية: تتمحور نظرية ابن خلدون حول الصراع المستمر بين البداوة والحضر.
    • البداوة والحضر: يرى أن البداوة (المجتمع الريفي/الصحراوي) هي الأصل الطبيعي، وأنها سابقة على الحضر (مجتمع المدينة). والحضر هو غاية العمران وكماله.
    • العصبية: هي الأساس الذي تقوم عليه الدولة، وهي رابطة شعورية قوية تنشأ في البداوة وتضعف في الحضر.
    • دورة حياة الدولة: قدم ابن خلدون نظرية دورية لتطور الدول، حيث تمر الدولة بأجيال (عادة أربعة) تبدأ بقوة العصبية وتتجه نحو الضعف والترف، حتى تسقط وتحل محلها دولة جديدة. هذه الدورة هي في جوهرها صراع بين البداوة والحضر.

​قواعد البحث في المنهج الخلدوني

​وضع ابن خلدون قواعد منهجية واضحة للبحث السوسيولوجي/التاريخي:

  • الاعتماد على الملاحظة والتجربة: وهي أولى خطوات المنهج الاستقرائي.
  • التفسير والتحليل: يجب تفسير الظواهر بتحليلها واستخدام "منطق التعليل".
  • المقارنة: يجب استخدام منهج المقارنة للوقوف على الفروق والتشابهات بين المجتمعات.
  • دراسة تطور الظواهر وطبائع العمران: دراسة الظواهر في تطورها وليس بمعزل عن سياقها التاريخي/الثقافي.

​الفكر الخلدوني، كما يوضحه الفوال، يعد بحق نظرية سوسيولوجية متكاملة سبقت رواد الغرب بقرون، وكان يجب أن يحظى باعتراف عالمي أكبر في سجل تاريخ علم الاجتماع.

​🔬 رواد علم الاجتماع الغربي: كونت ومورجان

​بعد استعراض الجذور التاريخية والإسلامية، ينتقل الكتاب إلى الآباء المؤسسين لـعلم الاجتماع في الغرب.

​أوجست كونت وزعامة علم الاجتماع

​يُعتبر أوجست كونت (1798–1857م) المخترع الفرنسي لاسم "علم الاجتماع" (Sociologie).

  • قانون المراحل الثلاث (Lois des trois etats): وهو الركيزة الأساسية لـنظريات علم الاجتماع عند كونت، ويفسر تطور المعرفة الإنسانية والمجتمع عبر ثلاث مراحل:
    • المرحلة اللاهوتية (أو الدينية): تفسر الظواهر باللجوء إلى قوى خارقة أو الآلهة.
    • المرحلة الفلسفية (أو الميتافيزيقية): تفسر الظواهر بإرجاعها إلى قوى مجردة غير محسوسة (مثل الطبيعة).
    • المرحلة الوضعية (أو العلمية): وهي مرحلة النضج، حيث يتم تفسير الظواهر من خلال القوانين التي تحكمها، بالاعتماد على الملاحظة والتجربة.
  • ركائز النظرية السوسيولوجية: قسم علم الاجتماع إلى قسمين رئيسيين:
    • الاستاتيكا الاجتماعية (Social Statics): ويهتم بدراسة شروط النظام والاستقرار الاجتماعي (بنية المجتمع).
    • الديناميكا الاجتماعية (Social Dynamique): ويهتم بدراسة التغير والتقدم الاجتماعي (حركة المجتمع وتطوره).
  • منهج البحث: اعتمد كونت على المنهج الوضعي القائم على الملاحظة، التجربة، المقارنة، والمنهج التاريخي.

​لويس هنري مورجان ونظرية التطور الثقافي

​يقدم الكتاب لويس هنري مورجان (1818–1881م) كأحد الرواد في نظرية التطور الثقافي.

  • مراحل التطور: قسم مورجان التطور البشري إلى ثلاث مراحل رئيسية، يمر المجتمع بها بالضرورة تبعًا للتقدم التكنولوجي (خاصة في العلاقة مع تطور الدين والأسرة والملكية):
    • ​الوحشية (Savagery).
    • ​البربرية (Barbarism).
    • ​الحضارة (Civilization).

​وقد أثرت إسهامات مورجان في نظريات علم الاجتماع التطورية، خاصة في الفكر الماركسي.

​🎯 التزامات علم الاجتماع في عالم متغير

​يُختتم الكتاب برؤية الدكتور صلاح مصطفى الفوال لمستقبل علم الاجتماع في القرن الحادي والعشرين، مؤكدًا أن التغيرات التي يشهدها العالم اليوم تتطلب جهداً خاصاً ليس لمجرد متابعتها، بل لمحاولة التنبؤ بسلوكياتها والتكيف معها.

​أسس الدراسة السوسيولوجية

​لكي يتمكن علم الاجتماع من أداء دوره في عالم متغير، يرى الفوال ضرورة التزام أي دراسة سوسيولوجية بالأسس التالية:

  • الفهم الصحيح للوحدات الاجتماعية.
  • التفسير العلمي لأسباب حدوث الظاهرة.
  • التنبؤ الواعي بإمكانية تكرار الظاهرة.
  • تهيئة الوحدات الاجتماعية للتكيف مع التغيرات في البناء أو الثقافة.

​ميادين مقترحة للقرن الحادي والعشرين

​في ضوء مبدأ التكامل مع العلوم الأخرى، يطرح فكر صلاح مصطفى الفوال مجموعة من الموضوعات (النوابت) التي يجب أن تكون على قمة اهتمامات علم الاجتماع خلال الربع الأول من القرن الحادي والعشرين:

  • البطالة وزيادة النسل.
  • التطرف الديني والإرهاب والجريمة المنظمة.
  • التفكك الأسري وتبدل القيم.
  • الانفتاح الإعلامي والاقتصادي.
  • التلوث البيئي والتمييز العنصري.
  • مشاكل النظام العالمي الجديد.
  • الإدمان والعادات السيئة للاستهلاك.

​هذه القائمة تعكس وعيًا عميقًا بالظواهر التي تجاوزت المحلية إلى العالمية، وتؤكد على ضرورة أن يتجه علم الاجتماع نحو الاتجاه التكاملي في التعامل مع وحدات التحليل السوسيولوجي المختلفة.

​الخاتمة

​يمثل كتاب "علم الاجتماع في عالم متغير" للدكتور صلاح مصطفى الفوال مرجعًا أساسيًا لفهم أصول علم الاجتماع ونظريات علم الاجتماع وتاريخه. إنه ليس مجرد عرض تاريخي؛ بل هو دعوة واضحة لـعلم الاجتماع للتخلي عن الجدل العقيم وتبني منهج تكاملي وتنبؤي قادر على مواجهة تحديات العصر. من خلال تتبع مسيرة الفكر الاجتماعي من الحكماء المصريين القدامى إلى ابن خلدون علم الاجتماع ورادته الغربيين، ينجح الفوال في تحديد هوية هذا العلم المتجدد.

​إن الرؤية المستقبلية التي يقدمها الدكتور صلاح مصطفى الفوال والتزامه بتحديد ميادين عمل جديدة (كالتطرف، الجريمة المنظمة، التفكك الأسري) يؤكد على ضرورة أن يكون علم الاجتماع في عالم متغير أداة فاعلة للإصلاح والتكيف، وليس مجرد مُحلل للواقع. هذا الكتاب ضروري لكل طالب وباحث يسعى لفهم حركة المجتمع والتعمق في فكر صلاح مصطفى الفوال الذي يسعى دائمًا لربط النظرية بالتطبيق.

مواضيع ذات صلة

  1. حياة وأفكار ابن خلدون: نظرة عميقة على مؤسس علم الاجتماع
    يتناول النظرية الخلدونية في العمران والصراع بين البداوة والحضر، وهي الأساس الذي اعتمد عليه الفوال في تأصيل علم الاجتماع العربي.

  2. أوغست كونت: مؤسس علم الاجتماع والفلسفة الوضعية | تحليل شامل لأفكاره ونظرياته
    دراسة تحليلية لقانون المراحل الثلاث والركائز السوسيولوجية لكونت الذي يُعد من أبرز المؤسسين الذين أشار إليهم الفوال.

  3. النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – طلعت إبراهيم لطفي (ملف PDF)
    يعرض أبرز نظريات علم الاجتماع الحديثة والمعاصرة التي تشكل خلفية فكرية لكتاب "علم الاجتماع في عالم متغير".

تعليقات