📁 آخر الأخبار

هوس "التريند": لماذا نركض جميعاً خلف القطيع الرقمي؟ (قراءة سوسيو-نفسية)

هوس "التريند": لماذا نركض جميعاً خلف القطيع الرقمي؟ (قراءة سوسيو-نفسية)

بقلم: فريق تحرير Boukultra

​في لحظة ما، وبدون سابق إنذار، يقرر ملايين البشر حول العالم القيام بنفس الحركة الراقصة، أو استخدام نفس المقطع الصوتي، أو تبني نفس الرأي في قضية ما. وفجأة، يصبح من لا يشارك في هذا الطقس الجماعي شخصاً "خارج السياق"، أو كائناً رقمياً مهدداً بالانقراض.

​إنه "التريند" (The Trend).

​هذه الظاهرة التي تبدو في ظاهرها ترفيهية، عفوية، وبريئة، لكنها تخفي تحت سطحها البراق محركات نفسية واجتماعية عميقة الجذور في الطبيعة البشرية القديمة. لماذا نشعر بذلك الضغط الخفي للمشاركة؟ وهل نحن نتحكم فعلاً في اختيار ما نتابعه، أم أن خوارزميات المنصات تتلاعب بغرائزنا البدائية لتوجهنا حيث تريد؟


حشود من الناس المتشابهين ينظرون إلى هواتفهم الذكية في الشارع، تعبيراً عن ظاهرة الانقياد الجماعي والتريند الرقمي.
لقطة واسعة لحشد ضخم من الناس يرتدون ملابس رمادية متشابهة، يسيرون كأنهم منومون مغناطيسياً في اتجاه واحد، ووجوههم مضيئة فقط بشاشات هواتفهم الذكية. الصورة تعطي شعوراً قوياً بالامتثال وفقدان الفردية.


​في هذا المقال التحليلي، نحاول تفكيك ظاهرة "التريند" بعين عالم الاجتماع الذي يرى حركة الجماعة، ومشرط عالم النفس الذي يشرح دوافع الفرد الخفية.

​1. السوسيولوجيا: البحث عن "القبيلة الرقمية"

​الإنسان كائن اجتماعي بطبعه. عبر التاريخ، لم يكن أسوأ مخاوفنا هو الموت بحد ذاته، بل "النفي من القبيلة"، لأن النفي في العصور الغابرة كان يعني الموت الحتمي وحيداً في العراء.

​في عصرنا الرقمي، لم تعد القبيلة هي رابطة الدم، بل أصبحت "القبيلة الافتراضية" التي تتجمع حول هاشتاغ معين أو تريند رائج.

​الدليل الاجتماعي (Social Proof)

​يخبرنا علم الاجتماع أننا عندما نكون في موقف غير مؤكد، أو لا نعرف كيف نتصرف، فإننا ننظر غريزياً إلى ما يفعله الأغلبية ونقلدهم. هذا ما يسمى بـ "الدليل الاجتماعي". إذا كان الملايين يشاركون في تحدٍ معين، فعقلنا الباطن يهمس لنا: "لابد أن هذا هو التصرف الصحيح أو المقبول الآن". التريند يوفر لنا "خريطة سلوك" جاهزة وآمنة في عالم معقد ومتغير.

​عملة القبول الاجتماعي

​المشاركة في التريند هي بمثابة دفع "اشتراك" رمزي في النادي الاجتماعي المعاصر. إنها طريقتنا الصامتة للقول للمجتمع: "أنا منكم، أنا أفهم لغتكم، أنا مواكب للعصر". عدم المشاركة يضعك تلقائياً في خانة "الآخر" (Out-group)، وهو شعور بالإقصاء مؤلم اجتماعياً لا يتحمله الكثيرون.

هذه الحركة الجماعية الافتراضية لا تختلف في جوهر دوافعها عن التحركات البشرية الكبرى على أرض الواقع، مثل [ظاهرة الهجرة الداخلية ومحركاتها الاجتماعية]، فالدافع في الحالتين غالباً ما يكون أعمق من مجرد قرار فردي منعزل، بل هو استجابة لظروف بيئية واجتماعية ضاغطة.

​2. السيكولوجيا: رعب أن يفوتك شيء ما (FOMO)

​إذا كان علم الاجتماع يفسر رغبتنا في الانضمام للقطيع، فإن علم النفس يفسر خوفنا المرعب من التخلف عنه.

​متلازمة FOMO (Fear of Missing Out)

​هو المحرك النفسي الأقوى لعصرنا الحالي. إنه ذلك القلق الدفين والمستمر بأن هناك شيئاً مثيراً أو مهماً يحدث الآن في مكان ما، وأنت لست جزءاً منه. "التريند" هو تجسيد لهذا "الحدث المهم". عندما ترى الجميع يتحدثون عن مسلسل معين أو يستخدمون "فلتر" جديد، تشعر بنوع من القلق الوجودي بأنك تصبح غير ذي صلة (Irrelevant)، أو أنك تُنسى. المشاركة في التريند هي محاولة سريعة لتسكين هذا القلق اللحظي.

​الألم الحقيقي للإقصاء

​أثبتت دراسات علم الأعصاب الحديثة أن الألم النفسي الناتج عن الإقصاء الاجتماعي ينشط نفس مناطق الدماغ المسؤولة عن الألم الجسدي الحقيقي. ببساطة، تجاهل المجتمع لك "يؤلم" فعلياً. لذلك، نستخدم التريند كدرع نحتمي به من هذا الألم المحتمل.


شخص يمسك هاتفاً ذكياً في غرفة مظلمة، وشاشة الهاتف تظهر إشعارات الإعجابات، مما يرمز إلى إدمان الدوبامين ومتلازمة FOMO على وسائل التواصل.
لقطة مقربة ليد تمسك هاتفاً ذكياً في الظلام الدامس. الشاشة هي مصدر الضوء الوحيد، وتظهر عليها أيقونات الإعجابات (قلوب حمراء) تطفو، مع انعكاس الضوء على جزء من وجه الشخص الذي يبدو في حالة ترقب. الصورة تعبر عن الإدمان والقلق في العزلة.

​3. كيمياء الدماغ: حقنة الدوبامين السريعة

​لماذا "ندمن" متابعة التريندات والمشاركة فيها؟ الإجابة تكمن في الكيمياء الحيوية لأدمغتنا. منصات التواصل الاجتماعي مصممة هندسياً لتكون مشابهة لـ "ماكينات القمار" (Slot Machines) النفسية.

​التريند كطريق مختصر للمكافأة

​عندما تتعب في إنشاء محتوى أصلي ومعقد، قد لا تحصل على أي تفاعل، مما يسبب لك إحباطاً. لكن عندما تشارك في "تريند" رائج، فإن احتمالية حصولك على "لايكات" ومشاهدات تكون أعلى بكثير؛ لأن الخوارزميات تدعم هذا المحتوى، والناس مبرمجون حالياً للبحث عنه.

​حلقة الدوبامين المغلقة

​كل إعجاب (Like) أو تعليق إيجابي يمنح دماغك دفعة صغيرة وسريعة من "الدوبامين" (هرمون المتعة ونظام المكافأة في الدماغ). المشاركة في التريند هي أسهل وأسرع طريقة للحصول على هذه الجرعة. نحن في الحقيقة لا نركض خلف المحتوى، نحن نركض خلف الدوبامين الذي يعدنا به هذا المحتوى.

​4. أزمة الهوية: ارتداء الأقنعة الجاهزة

​في عالم سائل وسريع التغير، يعاني الكثيرون (خاصة في مراحل التكوين كالشباب والمراهقة) من صعوبة في تكوين هوية ثابتة ومستقلة. سؤال "من أنا؟" أصبح أصعب من أي وقت مضى.

​هنا يتدخل التريند ليوفر "قوالب هوية" جاهزة وسريعة الاستهلاك. اليوم أتبنى هوية "المثقف العميق" لأنها تريند، وغداً أتبنى هوية "الساخر اللامبالي" لأنها أصبحت الموجة الجديدة. هذا يسمح للأفراد بتجربة شخصيات مختلفة دون التزام حقيقي.

وكما تعلمنا من الدراسات التي تربط بين [الثقافة الشعبية والأنثروبولوجيا وتحليل الرمزية والخيال]، فإن الإنسان يستخدم هذه الرموز المتداولة (التريندات) لبناء صورة عن ذاته أمام الآخرين، وتجربة شخصيات مختلفة دون التزام حقيقي.

​لكن الخطر يكمن في ذوبان الذات الحقيقية في طوفان النسخ المكررة، حيث يصبح الفرد مجرد صدى لصوت الجموع، فاقداً لبوصلته الداخلية وقدرته على التفكير النقدي المستقل.

خاتمة: نحو استعادة الوعي الرقمي

​إن الانغماس غير الواعي في هوس التريند يحمل مخاطر حقيقية، أبرزها تآكل التفكير النقدي. فبدلاً من أن نقيّم المحتوى بعمق، نشارك فيه فقط لأنه "رائج"، مما قد يساهم في نشر التفاهة أو حتى المعلومات المغلوطة والضارة.

التوصيات لقراءة نقدية للواقع الرقمي:

​الهدف ليس اعتزال المنصات الرقمية، بل تغيير طريقة تعاملنا معها من "التبعية العمياء" إلى "الاستخدام الواعي". ولتحقيق ذلك، نحتاج إلى:

  1. تفعيل "مطبّات سرعة" ذهنية: قبل أن تسارع للمشاركة في التريند القادم، توقف للحظة واسأل نفسك: "هل أشارك لأنني مقتنع بهذا المحتوى، أم لأنني خائف فقط من أن أكون الوحيد الذي لم يفعل؟".
  2. تطوير التفكير النقدي الرقمي: اسأل دائماً: ما الهدف من هذا التريند؟ من المستفيد من انتشاره؟ هل يعكس قيمة حقيقية أم مجرد ضوضاء؟
  3. إعادة تقييم العلاقة بالمنصات: هل نستخدم هذه الأدوات للتواصل والتبادل المعرفي، أم تحولنا إلى مجرد أدوات في يد الخوارزميات لزيادة أرباح اقتصاد الانتباه؟

​في النهاية، الحرية الحقيقية في العصر الرقمي ليست في القدرة على المشاركة في كل شيء، بل في القدرة على اختيار متى نمتنع عن المشاركة، حتى لو كان القطيع كله يركض في الاتجاه المعاكس.

تعليقات