📁 آخر الأخبار

إريك أولين رايت: دليل شامل لعالم الاجتماع الذي أعاد تعريف الطبقة وتخيل "اليوتوبيا الواقعية"

إريك أولين رايت: دليل شامل لعالم الاجتماع الذي أعاد تعريف الطبقة وتخيل "اليوتوبيا الواقعية"

استكشف فكر إريك أولين رايت، رائد الماركسية التحليلية. تحليل عميق لنظريته في التدرج الطبقي، مفهوم "المواقع الطبقية المتناقضة"، ومشروعه الضخم "اليوتوبيا الواقعية" كبدائل للرأسمالية.

(مقدمة: لماذا لا يزال إريك أولين رايت مهماً؟)

​في عالم يتسم باتساع فجوة اللامساواة والبحث المحموم عن بدائل، يبرز اسم عالم الاجتماع الأمريكي إريك أولين رايت (Erik Olin Wright) (1947-2019) كواحد من أهم المفكرين النقديين في عصرنا. لم يكن رايت ماركسياً تقليدياً يكتفي بتكرار مقولات القرن التاسع عشر، بل كان "ماركسياً تحليلياً" شجاعاً، كرس حياته لتفكيك "الصندوق الأسود" للطبقة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة.

​بينما ركز الكثيرون على نقد الرأسمالية، ذهب رايت إلى ما هو أبعد: لقد تجرأ على تخيل "بدائل مستقبلية مساواتية" لا تقف عند حدود الحلم، بل تتسم بالواقعية والقابلية للتطبيق، وهو ما أطلق عليه مشروعه الفكري الأبرز: "اليوتوبيا الواقعية" (Real Utopias).


إريك أولين رايت: دليل شامل لعالم الاجتماع الذي أعاد تعريف الطبقة وتخيل "اليوتوبيا الواقعية"
صورة إريك أولين رايت.

​هذه المقالة ليست مجرد سيرة ذاتية، بل هي غوص عميق في إرث رايت الفكري: كيف حدّث المفهوم الماركسي للطبقة ليناسب تعقيدات القرن الحادي والعشرين؟ ما الذي عناه بـ "المواقع الطبقية المتناقضة"؟ وكيف يمكننا بناء "ثورة خلالية" نحو مجتمع أكثر عدلاً؟

​ حياة إريك أولين رايت: مسيرة أكاديمي راديكالي

​لفهم فكر رايت، يجب فهم السياق الذي نشأ فيه. ولد إريك أولين رايت في 9 فبراير 1947 في بيركلي، كاليفورنيا. كان جزءاً من جيل من الأكاديميين الشباب الذين تشكل وعيهم السياسي في خضم حركات اجتماعية هائلة.

​التشكل الفكري في عصر الثورة

​لم تكن مساهمات رايت الفكرية وليدة برج عاجي. فمنذ منتصف السبعينيات، كان في طليعة جيل أكاديمي أصبح "راديكالياً" بسبب حدثين مفصليين: معارضة حرب فيتنام و حركة الحقوق المدنية. هذا السياق دفعه هو وآخرين إلى إعادة قراءة ماركس ليس كنص مقدس، بل كأداة تحليلية نقدية لفهم جذور اللامساواة والسلطة.

​مسيرته الأكاديمية كانت لافتة:

  • ​حصل على شهادة البكالوريوس من كلية هارفارد (1968).
  • ​أتبعها بشهادة بكالوريوس أخرى من كلية باليول، جامعة أكسفورد (1970).
  • ​نال درجة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا، بيركلي (1976)، وهي واحدة من أكثر البيئات الأكاديمية راديكالية في ذلك الوقت.

​منذ ذلك الحين، أصبح أستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة ويسكونسن-ماديسون، وبقي هناك طوال مسيرته المهنية، ملتزماً بشكل مطرد بمشروعه البحثي لأكثر من ربع قرن. وكتتويج لمكانته الأكاديمية الرفيعة، تم انتخابه رئيساً للجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع (ASA) في عام 2012.

​توفي رايت في 23 يناير 2019 بعد صراع مع اللوكيميا، تاركاً وراءه إرثاً فكرياً ضخماً يتسم بالدقة التحليلية والأمل المستقبلي.

​ المشروع الأول: تحديث مفهوم "الطبقة" (Class)

​كان اهتمام رايت الأساسي هو دراسة التدرج الطبقي الاجتماعي. لقد رأى أن التحليل الماركسي الكلاسيكي (الذي يقسم المجتمع ببساطة إلى برجوازيين وبروليتاريا) لم يعد كافياً لوصف المجتمعات الرأسمالية الحديثة. لماذا؟

​لأن الرأسمالية تطورت. لم نعد نعيش في عالم المصانع الفيكتوري. لقد ظهرت "طبقة وسطى" ضخمة من المديرين، والمهنيين، والموظفين التقنيين. هؤلاء ليسوا "عمالاً" بالمعنى التقليدي (لا يعملون بأيديهم في المصنع)، وليسوا "رأسماليين" (لا يمتلكون وسائل الإنتاج).

​(H3) الماركسية التحليلية: لا للدوغمائية، نعم للدقة

​انتمى رايت إلى مدرسة فكرية تُعرف بـ "الماركسية التحليلية" (Analytical Marxism)، أو ما أطلقوا عليه أحياناً "ماركسية بلا هراء" (No-Bullshit Marxism). هدفهم كان استخدام أدوات التحليل المنطقي الصارم والمنهجيات التجريبية (التي عادة ما ترتبط بالفكر غير الماركسي) لتنقية المفاهيم الماركسية الأساسية مثل "الطبقة" و"الاستغلال".

​رفض رايت الحتمية التاريخية وركز على "الآليات" (Mechanisms). كان سؤاله: كيف بالضبط تنتج الرأسمالية اللامساواة؟

​(H3) المفهوم الثوري: "المواقع الطبقية المتناقضة" (Contradictory Class Locations)

​هذا هو الإسهام النظري الأهم لرايت في تحليل التدرج الطبقي.

​بدلاً من رؤية الطبقة كصناديق منفصلة، رآها رايت كشبكة من "العلاقات". وحدد أن اللامساواة لا تأتي فقط من "ملكية وسائل الإنتاج" (كما قال ماركس)، بل من السيطرة على ثلاثة أنواع من الموارد:

  1. أصول رأس المال (Capital assets): (المصانع، المال، الأسهم) - هذا هو المفهوم الماركسي الكلاسيكي.
  2. أصول التنظيم (Organizational assets): (السيطرة على البيروقراطية واتخاذ القرار) - أي موقعك في التسلسل الهرمي للسلطة.
  3. أصول المهارة (Skill/Credential assets): (السيطرة على المعرفة النادرة والشهادات العليا).

​بناءً على هذا، وجد رايت أن العديد من الفئات تقع في "مواقع متناقضة":

  • المديرون (Managers): هم "عمال" لأنهم يبيعون قوة عملهم للرأسمالي ويخضعون لسلطته. لكنهم في نفس الوقت "رأسماليون" جزئياً لأنهم يمارسون السلطة (أصول التنظيم) على العمال الآخرين نيابة عن المالك.
  • المهنيون ذوو المهارات العالية (Professionals): (مثل الأطباء، المهندسين، المبرمجين). هم "عمال" (يتلقون أجراً)، لكن "مهاراتهم النادرة" (أصول المهارة) تمنحهم قوة تفاوضية عالية واستقلالية في العمل، مما يجعلهم أقرب إلى الرأسماليين الصغار منهم إلى البروليتاريا التقليدية.
  • أصحاب الأعمال الصغيرة (Small Employers): يمتلكون وسائل إنتاجهم (رأسماليون)، لكنهم غالباً ما يضطرون للعمل بأنفسهم جنباً إلى جنب مع موظفيهم (عمال).

​(H3) لماذا هذا المفهوم مهم؟

​لأنه يفسر "الوعي الطبقي" المتباين. الماركسيون الكلاسيكيون تساءلوا: لماذا لا يقوم العمال بثورة؟ إجابة رايت: لأن "الطبقة العاملة" ليست كتلة واحدة. المديرون والمهنيون، بسبب "مواقعهم المتناقضة"، يحملون "مصالح متضاربة". مصالحهم قد تتماهى أحياناً مع العمال (مثل المطالبة بأجور أعلى) وأحياناً مع الرأسماليين (مثل الحفاظ على سلطتهم الهرمية أو ندرة مهاراتهم).

​هذا التحليل الدقيق سمح لرايت بتطوير تصنيفات طبقية دقيقة مكنت الباحثين من مقارنة البنى الطبقية في مختلف المجتمعات الرأسمالية المتقدمة.

​المشروع الثاني: "تصور اليوتوبيا الواقعية" (Envisioning Real Utopias)

​في النصف الثاني من مسيرته، تحول تركيز رايت من "نقد الرأسمالية" إلى "بناء البدائل". لقد سئم من اليسار الذي يجيد النقد ولا يجيد تقديم حلول. هنا وُلد مشروعه الضخم: "اليوتوبيا الواقعية".

​ما هي "اليوتوبيا الواقعية"؟

​الكلمة تبدو متناقضة، وهذا مقصود.

  • يوتوبيا (Utopia): تشير إلى "الهدف" أو "الرؤية" - أي التفكير النقدي الجذري حول البدائل المرغوبة التي تتجاوز حدود ما نعتقد أنه ممكن حالياً.
  • واقعية (Real): تشير إلى "الوسيلة" - أي أن هذه البدائل يجب أن تكون قابلة للتحقيق وممكنة ومستدامة في العالم الحقيقي، وليست مجرد أحلام طوباوية.

​عرفها رايت بأنها: "التفكير النظري النقدي حول البدائل الاجتماعية التي تكون في نفس الوقت مرغوبة وممكنة وقابلة للتحقيق".

​ القوى الثلاث لتمكين المجتمع

​يرى رايت أن أي مجتمع هو مزيج من ثلاث قوى:

  1. القوة الاقتصادية (الرأسمالية): تُنظَّم حول السوق والربح الخاص.
  2. قوة الدولة: تُنظَّم حول القوانين والسيطرة البيروقراطية (الاشتراكية التقليدية).
  3. القوة الاجتماعية (التمكين الاجتماعي): تُنظَّم حول الديمقراطية التشاركية، والتعاون، والعمل الجماعي الطوعي.

​مشروع "اليوتوبيا الواقعية" هو ببساطة مشروع لتعظيم "القوة الاجتماعية" على حساب القوتين الأخريين.

​ المسارات الثلاثة للتحول الاجتماعي

​كيف نصل إلى هناك؟ رفض رايت فكرة "الثورة الشاملة" الواحدة، واقترح ثلاثة مسارات متوازية يمكن أن تعمل معاً:

  1. التحولات الانقطاعية (Ruptural Transformations):
    • ما هي؟ هذا هو الفهم الكلاسيكي للثورة. محاولة كسر النظام الرأسمالي واستبداله فجأة بنظام جديد (مثل الثورة الروسية).
    • رأي رايت: هذا المسار محفوف بالمخاطر، وغالباً ما يؤدي إلى الاستبداد (كما حدث في الاتحاد السوفيتي)، لكن لا يمكن استبعاده تماماً.
  2. التحولات الخلالية (Interstitial Transformations) - "الثورة الخلالية":
    • ما هي؟ هذا هو المسار المفضل لدى رايت. بدلاً من مهاجمة النظام من الأمام، نقوم بـ "بناء البدائل" في "المساحات الخلالية" (الفراغات والشقوق) داخل النظام الرأسمالي نفسه.
    • أمثلة: التعاونيات العمالية (مثل موندراغون في إسبانيا)، الاقتصادات التضامنية، البرمجيات مفتوحة المصدر (مثل ويكيبيديا)، الزراعة المدعومة من المجتمع.
    • الهدف: بناء "اقتصاد اجتماعي" ينمو ببطء "ويحتل" مساحات متزايدة من الاقتصاد الرأسمالي، مثل الشعاب المرجانية التي تنمو داخل البحر.
  3. التحولات التكافلية (Symbiotic Transformations) - "التآزر مع الرأسمالية":
    • ما هي؟ هي استراتيجية استخدام الدولة لإجراء إصلاحات تحل مشاكل للرأسمالية، ولكنها في نفس الوقت "تمكّن" القوة الاجتماعية.
    • أمثلة: أهم مثال هو الدخل الأساسي غير المشروط (Universal Basic Income). الرأسماليون قد يدعمونه لحل مشكلة نقص الطلب، لكنه في نفس الوقت "يمكّن" العمال ويمنحهم قوة تفاوضية هائلة (يمكنهم رفض وظائف سيئة دون الخوف من الجوع). أمثلة أخرى تشمل الديمقراطية العميقة في أماكن العمل أو "الموازنات التشاركية" في المدن.

​بالنسبة لرايت، مستقبل ما بعد الرأسمالية لن يأتي من مسار واحد، بل من مزيج ذكي من هذه الاستراتيجيات الثلاث.

​ أهم مؤلفات إريك أولين رايت: إرث فكري

​ترك رايت العديد من الكتب والمقالات التي تشكل علامات بارزة في النظرية الاجتماعية. إليك أبرزها:

​ 1. كتاب "الطبقات" (Classes, 1985)

  • الأهمية: هذا هو الكتاب الذي وضع فيه نظريته الشاملة الأولى للطبقات الاجتماعية. فيه قدم نموذجه التجريبي لتحليل الطبقات في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، مستنداً إلى الماركسية التحليلية ومبتعداً عن التحليل الكلاسيكي.

​ 2. كتاب "استجواب اللامساواة" (Interrogating Inequality, 1994)

  • الأهمية: في هذا الكتاب، يستخدم رايت منهجه النقدي والتجريبي لمناقشة الأسباب العميقة والعواقب والبدائل الممكنة للامساواة الاجتماعية. إنه يطبق نظريته الطبقية على قضايا ملموسة.

​3. كتاب "تصور اليوتوبيا الواقعية" (Envisioning Real Utopias, 2010)

  • الأهمية: هذا هو "المانيفستو" الخاص به. إنه العمل الضخم الذي يلخص فيه رؤيته لبدائل الرأسمالية. يقارن بين الرأسمالية، والاشتراكية التقليدية، ورؤيته لليوتوبيا الواقعية القائمة على التمكين الاجتماعي. هذا الكتاب متاح مجاناً على موقعه الرسمي (بقرار منه) لتعميم الفائدة.

​ 4. كتاب "فهم الطبقة" (Understanding Class, 2015)

  • الأهمية: يُعتبر هذا الكتاب خلاصة فكره وتطويراً لنظريته حول الطبقات. يركز فيه بشكل أعمق على العلاقة بين الاستغلال (Exploitation) والقدرة على التحكم في العملية الاقتصادية، ويقدم نسخة مصقولة ونهائية لنموذجه الطبقي.

​ خاتمة: إرث عالم الاجتماع المتفائل

​لم يكن إريك أولين رايت مجرد ناقد. كان مفكراً بنّاءً. لقد أخذ على عاتقه أصعب مهمتين:

  1. مهمة التشخيص: تحديث التحليل الطبقي الماركسي ليصبح أداة دقيقة وقابلة للاستخدام تجريبياً لفهم تعقيدات الرأسمالية الحديثة، ونجح في ذلك عبر مفهوم "المواقع الطبقية المتناقضة".
  2. مهمة العلاج: تقديم بدائل عملية وجذرية في نفس الوقت، ونجح في ذلك عبر مشروع "اليوتوبيا الواقعية".

​في عصر يميل فيه الفكر النقدي إلى التشاؤم أو العدمية، يقدم لنا إريك أولين رايت إرثاً من "التفاؤل الواقعي". لقد أثبت أن علم الاجتماع النقدي لا يجب أن يتوقف عند "ما هو كائن"، بل يجب أن يتجرأ على طرح سؤال "ماذا لو؟" و"كيف؟".

(عناوين قد تهمك أيضاً)

تعليقات