📁 آخر الأخبار

مراجعة "كتاب مداخل إلى التحليل الطبقي": دليلك لفهم الصراع واللامساواة المعاصرة

مراجعة "كتاب مداخل إلى التحليل الطبقي": دليلك لفهم الصراع واللامساواة المعاصرة (تحليل إريك أولن رايت وآخرون)

يقدم "كتاب مداخل إلى التحليل الطبقي" تحليلاً شاملاً لأهم ستة منظورات نظرية حول الطبقة. استكشف رؤى إريك أولن رايت، فيبر، بورديو، ودوركايم في هذا الدليل العميق لفهم اللامساواة.

​مقدمة: لماذا لا يزال "التحليل الطبقي" محورياً اليوم؟

​في عصر يتسم بالاستقطاب الاقتصادي المتزايد، والنقاشات المحتدمة حول اللامساواة، وصعود حركات اجتماعية جديدة، يبدو أن مفهوم "الطبقة" (Class) قد عاد بقوة إلى صدارة المشهد الأكاديمي والسياسي. لكن، ماذا نعني بالضبط بـ "الطبقة"؟ هل هي مجرد تصنيف اقتصادي بسيط يعتمد على الدخل والثروة؟ أم هي هوية ثقافية؟ أم هي علاقة استغلال متجذرة في بنية الإنتاج؟

​هنا تكمن عبقرية وأهمية "كتاب مداخل إلى التحليل الطبقي" (Approaches to Class Analysis)، الذي حرره أحد أبرز علماء الاجتماع في مجاله، الراحل إريك أولن رايت (Eric Olin Wright). هذا الكتاب ليس مجرد استعراض روتيني للنظريات، بل هو "حلبة فكرية" حقيقية تجمع ستة من أبرز المنظورات المتنافسة في علم الاجتماع، حيث يقدم كل منظور حجته المركزية حول كيفية تعريف الطبقة وقياسها وفهم تأثيرها.

​إن هذا الكتاب لا يقدم إجابة سهلة واحدة، بل يزود القارئ بالأدوات النقدية اللازمة لتفكيك أحد أكثر المفاهيم تعقيداً وإثارة للجدل في العلوم الاجتماعية. في هذه المقالة المفصلة، سنغوص في أعماق كل مدخل من هذه المداخل الستة، محللين قوتها وضعفها، وكيف يساهم كل منها في فهمنا للعالم المعاصر.

كتاب مداخل إلى التحليل الطبقي إيريك أولن رايت
غلاف كتاب مداخل إلى التحليل الطبقي إيريك أولن رايت.

من هو إريك أولن رايت؟ (Eric Olin Wright)

​قبل الغوص في مداخل الكتاب، من الضروري التوقف عند محرره والمساهم الرئيسي فيه، إريك أولن رايت (1947-2019). يُعتبر رايت أحد أعمدة علم الاجتماع الماركسي التحليلي (Analytical Marxism) وشخصية محورية في تجديد الفكر الماركسي في أمريكا الشمالية. لم يكتفِ رايت بترديد الأطروحات الماركسية الكلاسيكية، بل سعى جاهداً لتطويرها وتكييفها لتلائم تعقيدات الرأسمالية المتأخرة.

​اشتهر رايت بأعماله حول "المواقع الطبقية المتناقضة" (Contradictory Class Locations)، في محاولة منه لحل معضلة تصنيف "الطبقة الوسطى" الجديدة (مثل المدراء والمهنيين) ضمن الإطار الماركسي التقليدي (برجوازية وبروليتاريا). كتابه "مداخل إلى التحليل الطبقي" هو تتويج لمسيرته الفكرية، حيث يجمع خصومه الفكريين في حوار نقدي بنّاء، مما يعكس نزاهته الأكاديمية العالية.

​ استعراض المداخل الستة للتحليل الطبقي: خريطة الفكر السوسيولوجي

​يقدم الكتاب ستة فصول، كل فصل يمثل منظوراً نظرياً مستقلاً. دعونا نستعرضها بالتفصيل:

 1. المدخل الماركسي الجديد (إريك أولن رايت): الطبقة كآلية للاستغلال

​يبدأ رايت بنفسه، مقدماً الفصل الأول الذي يستكشف معالم المقاربة الفكرية للتحليل الطبقي في التراث الماركسي المحدث. بالنسبة لرايت، لا يمكن تعريف الطبقة ببساطة عبر الدخل أو المكانة؛ فالطبقة، في جوهرها، هي علاقة اجتماعية مبنية على الاستغلال.

  • الفكرة المحورية: تدور الأطروحة المركزية لرايت حول تعريف مفهوم الطبقة في ضوء "عمليات الاستغلال" (Exploitation). لا يعني الاستغلال هنا مجرد "المعاملة غير العادلة"، بل له معنى تقني دقيق: هو عملية يتم من خلالها الاستيلاء على "فائض القيمة" (Surplus Value) الذي ينتجه العمال من قبل أولئك الذين يملكون وسائل الإنتاج (الأصول الرأسمالية).
  • ما وراء الإنتاج: يربط رايت هذا المفهوم (الاستغلال القائم على الأصول) بالأنساق الأخرى للعلاقات الاقتصادية، مثل العلاقات القائمة على "الأصول التنظيمية" (السلطة داخل الشركة) و"أصول المهارات" (الخبرة النادرة). هذا ما يسمح له بتحديد "المواقع المتناقضة" للطبقة الوسطى التي تستغل (بمعنى تسيطر) من هم أدنى منها في السلم الهرمي، ولكنها في نفس الوقت مُستغَلة (بمعنى مُسيطر عليها) من قبل رأس المال.

​2. المدخل الفيبري (ريتشارد برين): الطبقة كـ "فرص حياة"

​ينقلنا الفصل الثاني، بقلم ريتشارد برين (Richard Breen)، إلى التراث الفيبري (نسبة إلى ماكس فيبر)، وتحديداً كما طوره عالم الاجتماع البريطاني البارز جون جولدثورب (John Goldthorpe).

  • الفكرة المحورية: إذا كان ماركس (ورايت) يركز على "علاقات الإنتاج والاستغلال"، فإن فيبر (وبرين/جولدثورب) يركز على "علاقات السوق". الاهتمام الرئيسي هنا هو تطور مفهوم للطبقة مبني على ما هو متاح للأفراد من "فرص الحياة" (Life Chances) الاقتصادية.
  • عقود العمل: يدور هذا المفهوم حول طبيعة "علاقات التوظف" (Employment Relations) المتاحة داخل أسواق العمل. ببساطة، يتم التمييز بين العمال الذين يبيعون "قوة عملهم" مقابل أجر يومي أو أسبوعي (عقد عمل قصير الأجل)، وبين المهنيين والمدراء الذين لديهم "عقد خدمة" (Service Contract) يوفر لهم أماناً وظيفياً أعلى، وآفاقاً للترقي، ورواتب مجزية (عقد طويل الأجل). هذا التمييز في "الموقع السوقي" هو ما يشكل الطبقات بالنسبة لبرين.

3. المدخل الدوركايمي (ديفيد جروسكي): الطبقة كـ "مواقع مهنية"

​يقدم ديفيد جروسكي (David Grusky) في الفصل الثالث منظوراً مختلفاً تماماً، يرى أنه كامن في ثنايا كتابات إميل دوركايم. هذا المدخل هو الأكثر "تفتيتاً" (Disaggregated) للطبقات.

  • الفكرة المحورية: يرى جروسكي أن المقولات الطبقية الواسعة (مثل "الطبقة العاملة" أو "الطبقة الوسطى") أصبحت عديمة الفائدة لأنها تجمع أشخاصاً لديهم تجارب حياتية مختلفة جداً. بدلاً من ذلك، يجب أن نركز على "تقسيم العمل المهني" (Occupational Division of Labor).
  • تجانس المواقع: المبدأ المعياري هنا هو "المهنة" (Occupation). فالطرق التي بها تقوم مواقع محددة داخل نطاق تقسيم العمل (مثل: "أطباء"، "مهندسو برمجيات"، "سائقو شاحنات") بخلق أوضاع متجانسة تؤثر على حياة الأفراد. بالنسبة لجروسكي، "الطبيب" و"المحامي" (اللذان يوضعان عادة في "الطبقة العليا الوسطى") لديهما مصالح وخبرات مختلفة جذرياً، ويجب تحليلهما كـ "طبقات مصغرة" (Micro-classes) منفصلة.

​4. مدخل بورديو (إليوت واينينجر): الطبقة كرأسمال متعدد الأبعاد

​يكشف إليوت واينينجر (Elliot Weininger) في الفصل الرابع عن المبادئ المحورية لتحليل الطبقات كما حددها العملاق الفكري الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu).

  • الفكرة المحورية: بالنسبة لبورديو، الطبقة ليست مجرد مال أو وظيفة. إنها مزيج معقد من "رؤوس الأموال" المتنوعة. يُنظر إلى رأس المال كمجال متعدد الأبعاد للثروات أو "الموارد" التي تمنح أصحابها القوة والنفوذ.
  • أنواع رأس المال:
    1. رأس المال الاقتصادي: المال، الممتلكات، الأصول.
    2. رأس المال الثقافي: المعرفة، الشهادات التعليمية، الذوق الفني، طريقة الكلام (الهابيتوس).
    3. رأس المال الاجتماعي: شبكة العلاقات والمعارف (الواسطة).
  • الهابيتوس (Habitus): الطبقة عند بورديو لا تشكل فقط "فرص الحياة" (فيبر)، بل تشكل أيضاً "الميول والنزعات" (Dispositions) أو ما يسميه "الهابيتوس". أي أن طبقتك تحدد كيف تفكر، وماذا تحب، وكيف ترى العالم، مما يعيد إنتاج البنية الطبقية عبر الأجيال.

5. المدخل الاقتصادي (آيج سورنسن): الطبقة كـ "ريع اقتصادي"

​يطرح الراحل آيج سورنسن (Aage Sorensen) في الفصل الخامس مقاربة فكرية تعتمد بغالبيتها على منطق علم الاقتصاد الكلاسيكي الجديد (Neoclassical Economics)، وهو منظور نادر في علم الاجتماع.

  • الفكرة المحورية: بالنسبة لسورنسن، في سوق تنافسية مثالية (حيث المعلومات كاملة والمنافسة حرة)، لن يكون هناك وجود للطبقات؛ سيحصل كل شخص على ما يستحقه بناءً على مهاراته.
  • الريع والاحتكار: الطبقات لا توجد إلا حيث يوجد "قصور ونقص في الأسواق" (Market Imperfections). هذه العيوب تخلق ما يسمى "الريع الاقتصادي" (Economic Rents). الريع هو الدخل الذي يحصل عليه الفرد ليس بسبب إنتاجيته، بل بسبب سيطرته على مورد نادر أو محتكر (مثل: نقابة عمالية قوية تحتكر مهارة معينة، أو رخصة مهنية تمنع المنافسين). الطبقات هي ببساطة جماعات نجحت في "إغلاق" السوق لصالحها والظفر بهذا الريع.

​6. منظور "ما بعد الطبقة" (جان باكولسكي): إعلان نهاية الطبقة

​أخيراً، يقدم جان باكولسكي (Jan Pakulski) في الفصل السادس الأطروحة الأكثر جذرية وتحدياً: "نهاية الطبقة" (The Death of Class).

  • الفكرة المحورية: يحاج باكولسكي بأن مفهوم الطبقة، خاصة كما صاغه ماركس وفيبر، لم يعد مفهوماً مجدياً من الناحية الإمبيريقية (التجريبية) لوصف المجتمعات المعاصرة.
  • اللامساواة بدون طبقات: هو لا ينكر وجود اللامساواة، بل يرى أنها قضية خلافية ومهمة. لكنه يجادل بأن هذه اللامساواة لم تعد تتنظم بأسلوب يراعي "الخطوط الطبقية" الواضحة. بدلاً من ذلك، أصبحت اللامساواة "متشظية" (Fragmented) وتعتمد على عوامل أخرى مثل: الاستهلاك، نمط الحياة، الهوية (الجنس، العرق، الدين)، والمواطنة. لقد تحولنا من مجتمع طبقي إلى مجتمع "ما بعد الطبقة" (Post-class Society).

​ تحليل مقارن: صراع العمالقة الفكريين

​يكمن جمال "كتاب مداخل إلى التحليل الطبقي" في أنه يضع هذه المنظورات المتضاربة وجهاً لوجه. الخاتمة (التي كتبها مساهمون مختلفون) تناقش مدى ثبات واستمرار هذه الأطروحات.

 الاستغلال (ماركس) مقابل فرص الحياة (فيبر)

​الصدع الأكبر في علم الاجتماع هو بين الماركسيين والفيبريين.

  • رايت (ماركس): يرى أن الصراع (Conflict) والاستغلال (Exploitation) هما محرك التاريخ. الطبقة هي علاقة "قسرية" مفروضة في بنية الإنتاج.
  • برين (فيبر): يرى أن السوق (Market) و"الإغلاق" (Closure) هما الأساس. الطبقة هي علاقة "تعاقدية" (ولو كانت غير متكافئة) في سوق العمل.

​بينما يرى رايت أن الرأسمالية نظام غير عادل بطبيعته (بسبب الاستغلال)، يرى برين أن المشكلة تكمن في "عدم تكافؤ الفرص" داخل السوق، والتي يمكن (نظرياً) إصلاحها.

​ البنية (ماركس/فيبر) مقابل الثقافة (بورديو)

​كيف نفهم العلاقة بين الاقتصاد والثقافة؟

  • رايت وبرين (وجروسكي وسورنسن): يركزون بشكل أساسي على "البنى الاقتصادية" الموضوعية (ملكية، وظائف، أسواق).
  • واينينجر (بورديو): يقدم الجسر الذهبي. هو لا ينكر أهمية رأس المال الاقتصادي، لكنه يضيف إليه "رأس المال الثقافي" كساحة معركة موازية. فالهيمنة ليست اقتصادية فقط، بل هي أيضاً ثقافية ورمزية.

​إن فهم الطبقة الاجتماعية حجر الزاوية في بناء المجتمع وفهمه لا يكتمل دون النظر إلى هذه الأبعاد الثقافية والرمزية. فالطبقات لا تختلف فقط في مقدار ما تملك، بل في "كيف" تستهلك، و"كيف" تتحدث، و"كيف" تربي أبناءها، وهو ما يعيد إنتاج مواقعها.

 هل ماتت الطبقة؟ (الرد على باكولسكي)

​أطروحة "ما بعد الطبقة" لباكولسكي هي التحدي الأكبر. فهل أصبحت الطبقة مجرد "شبح" من الماضي الصناعي؟

​يجيب إريك أولن رايت (في أعماله الأخرى) وبقية المساهمين (ضمناً) بـ "لا" قاطعة.

صحيح أن "الوعي الطبقي" (Class Consciousness) قد يكون تراجع، وصحيح أن الهويات الأخرى (الجنسية، العرقية) أصبحت أكثر بروزاً، لكن "الآثار الطبقية" (Class Effects) لا تزال هائلة.

  • الصحة والحياة: لا يزال المنتمون للطبقات الدنيا يموتون في سن أصغر، ويعانون من أمراض مزمنة أكثر.
  • التعليم: لا يزال أبناء الطبقات العليا يحظون بفرص تعليمية أفضل بشكل ساحق.
  • الثروة: الفجوة في الثروة (وليس الدخل فقط) تتسع بشكل هائل، مما يثبت أن "ملكية الأصول" (رؤية رايت) لا تزال حاسمة.

​إن ما نراه اليوم ليس "نهاية الطبقة"، بل "إعادة تشكيل" للطبقة. فاللامساواة الناتجة عن الموقع الطبقي أصبحت تخلق أشكالاً معقدة من التمييز الاجتماعي جذوره، مظاهره، وآثاره المتعددة، والتي تتجاوز المفهوم الاقتصادي البسيط لتشمل التمييز الثقافي والرمزي (كما يوضح بورديو).

​(H2) خاتمة: لماذا هذا الكتاب ضروري لمكتبتك؟

​في النهاية، "كتاب مداخل إلى التحليل الطبقي" ليس كتاباً يقدم إجابة واحدة شافية. قوته تكمن في طرحه للأسئلة الصحيحة. إنه "صندوق أدوات" (Toolbox) فكري.

  • ​إذا كنت تريد فهم "الاستغلال" وبنية الرأسمالية، فمدخل رايت هو دليلك.
  • ​إذا كنت تريد فهم "سوق العمل" وكيف تحدد الوظائف "فرص الحياة"، فمدخل برين هو الأنسب.
  • ​إذا كنت تريد تفكيك الطبقات إلى "مهن" دقيقة، فمدخل جروسكي يقدم لك المنهجية.
  • ​إذا كنت تريد فهم كيف يترابط "المال" و"الثقافة" و"العلاقات" لإعادة إنتاج الهيمنة، فمدخل بورديو (واينينجر) لا غنى عنه.
  • ​إذا كنت تريد فهماً اقتصادياً بحتاً لكيفية خلق "الاحتكارات" للطبقات، فمدخل سورنسن هو خيارك.
  • ​وإذا كنت تشك في وجود الطبقة من الأساس، فمدخل باكولسكي سيجبرك على الدفاع عن موقفك.

​يظل التحليل الطبقي، كما يوضح هذا الكتاب العبقري، الأداة الأقوى لدينا لفهم جذور اللامساواة العميقة التي تشكل عالمنا. قراءة هذا الكتاب ليست مجرد تمرين أكاديمي، بل هي خطوة ضرورية لكل من يسعى لفهم – وربما تغيير – الواقع الاجتماعي المعاصر.

​ تحميل الكتاب

​للمهتمين بالتعمق أكثر في هذه النقاشات، يمكنكم تحميل الكتاب من الروابط التالية:

  • تحميل كتاب مداخل إلى التحليل الطبقي إيريك أولن رايت.pdf
تعليقات