قراءة تحليلية في كتاب "سيكولوجية التنمر بين النظرية والعلاج": تشريح الظاهرة من الجذور إلى استراتيجيات المواجهة
التصنيف: علم النفس التربوي | مراجعات كتب
الكتاب: سيكولوجية التنمر بين النظرية والعلاج - د. مسعد أبو الديار
مقدمة: التنمر.. الوباء الصامت في مدارسنا
في أروقة المدارس، خلف الضحكات البريئة، يختبئ أحياناً واقع مؤلم يُعرف بـ التنمر المدرسي. لقد حظيت هذه الظاهرة باهتمام بحثي واسع في العالم الغربي، نظراً لكونها أكثر أشكال العنف انتشاراً في البيئة المدرسية، ولما تتركه من ندوب عميقة على نفسية الطالب، تحصيله الدراسي، والمناخ العام للمدرسة بأكملها.
إلا أن المكتبة العربية ظلت تعاني من شح في المؤلفات المتخصصة التي تتناول هذه الظاهرة بعمق. من هنا، تأتي أهمية كتاب "سيكولوجية التنمر بين النظرية والعلاج" لمؤلفه الدكتور مسعد أبو الديار، كإضافة نوعية تسد هذه الثغرة، مقدمةً زاداً علمياً يجمع بين التأصيل النظري والتطبيق العملي لاستراتيجيات العلاج.
في هذا المقال الأكاديمي المطول، سنغوص في فصول هذا الكتاب المرجعي، لنفكك ظاهرة التنمر، بدءاً من جذورها التاريخية، مروراً بتعريفاتها العلمية، وصولاً إلى النظريات المفسرة لها وسبل علاجها.
![]() |
| سيكولوجية التنمر بين النظرية والعلاج . |
المحور الأول: التنمر.. نظرة بانورامية (الفصل الأول)
يستهل الدكتور أبو الديار كتابه بوضع الظاهرة في سياقها العام، مؤكداً أن التنمر ليس وليد اللحظة، بل هو سلوك إنساني قديم قدم التاريخ، مارسه الأفراد والجماعات كلما تهيأت الظروف، واختلفت أشكاله باختلاف العصور، من العنف الجسدي والقتل من أجل السلطة قديماً، إلى تنمر السادة على العبيد في عصور الرق، وصولاً إلى أشكاله المعقدة في عصرنا الحالي.
تعريف التنمر: هجمة شرسة ومنظمة
يُعرف المؤلف التنمر تعريفاً دقيقاً بأنه: "هجمة شرسة ومنظمة يشنها المتنمر على الضحية من خلال الاعتداء اللفظي أو البدني أو النفسي". هذا التعريف يبرز الطبيعة "المنظمة" و"المتعمدة" لهذا السلوك، مما يميزه عن مجرد المزاح الثقيل أو الخلافات العابرة بين الأقران.
أهمية البحث: لماذا نقلق؟
تكمن خطورة التنمر في كونه عدواناً مترقباً يحدث غالباً دون سبب واضح، ويستهدف الفئة الأكثر حساسية في المجتمع: الأطفال والشباب، بناة المستقبل. لذا، أصبح فهم سيكولوجية التنمر ضرورة ملحة لبناء مجتمع حضاري سليم، خاصة مع تحول الظاهرة إلى مشكلة عالمية عابرة للحدود، وصلت في بعض الدول (مثل اليابان وأمريكا) إلى حد دفع الضحايا للانتحار.
المحور الثاني: تشريح الظاهرة.. المفهوم والخصائص (الفصل الثاني)
في هذا الفصل، ينتقل الكتاب إلى التحديد الدقيق للمفاهيم، مميزاً بين "التنمر" و"العنف".
- العنف (Violence): ينطوي على أعلى درجات استخدام القوة (كاستخدام السلاح).
- التنمر (Bullying): قد يكون أخف وطأة جسدياً، لكنه يحتوي على عنف لفظي ونفسي كثيف يلحق ضرراً بالغاً بالضحية.
الركائز الأربعة للسلوك التنمري (وفقاً لسميث):
لكي نطلق على سلوك ما صفة "التنمر"، يجب توافر عناصر أساسية حددها الباحثون:
- عدم توازن القوة (Imbalance of Power): المتنمر يمتلك قوة (جسدية، اجتماعية، أو نفسية) تفوق الضحية.
- نية الإيذاء (Intent to Harm): السلوك متعمد وليس عرضياً.
- التكرار (Repetition): سلوك مستمر وليس حدثاً وليد اللحظة.
- التهديد والخوف: خوف الضحية المستمر ومحاولتها تجنب المتنمر.
دور الإعلام في صناعة المتنمر
يشير الكتاب إلى نقطة بالغة الأهمية وهي دور مشاهدة أفلام العنف في تغذية السلوك العدواني لدى الأطفال، حيث يتم اكتساب هذه السلوكيات من البيئة المحيطة ومحاكاتها، مما يساهم في انتشار الظاهرة.
بروفايل المتنمر والضحية: من هم؟
يقدم الكتاب تحليلاً سيكولوجياً لخصائص طرفي معادلة التنمر:
أ. خصائص المتنمر:
- دافع قوي للهيمنة والسيطرة.
- غالباً غير متفوقين دراسياً.
- يتصفون بالاندفاع، تقلب المزاج، وسرعة الشعور بالإحباط.
ب. خصائص الضحية:
- الميل للانعزال والقلق الاجتماعي.
- قد يكونون أضعف جسدياً أو يعانون من الخجل.
- ضعف تقدير الذات وعدم الثقة بالنفس.
- ضعف مهارات التواصل الاجتماعي والانفعالي، مما يجعلهم "فريسة سهلة".
المحور الثالث: أشكال التنمر المتعددة (الفصل الثالث)
لا يقتصر التنمر على الضرب في فناء المدرسة، بل يتخذ أشكالاً معقدة ومتطورة. يصنف الكتاب هذه الأشكال إلى:
- التنمر البدني (Physical Bullying): الضرب، الركل، ودفع الضحية.
- التنمر اللفظي (Verbal Bullying): السخرية، إطلاق الألقاب، والتهديد.
- التنمر الاجتماعي (Social Bullying): نشر الشائعات، العزل الاجتماعي، وتشويه السمعة.
- التنمر الجنسي (Sexual Bullying): التحرش اللفظي أو الجسدي ذو الطابع الجنسي.
- التنمر الانفعالي (Emotional Bullying): التلاعب بمشاعر الضحية وإشعارها بالدونية.
- التنمر العنصري (Racial Bullying): الاستهزاء بناءً على العرق أو اللون أو الدين.
- التنمر الإلكتروني (Cyberbullying): وهو الشكل الأحدث والأخطر، ويتم عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ويتميز بقدرته على ملاحقة الضحية في أي وقت ومكان.
المحور الرابع: لماذا يتنمرون؟ النظريات المفسرة (الفصل الرابع)
يغوص الكتاب في العمق النظري للظاهرة، مقدماً تفسيرات من مدارس علم النفس المختلفة:
1. النظرية التحليلية (خبرات الطفولة)
ترى أن التنمر هو نتاج لخبرات الطفولة المبكرة والمواقف المكبوتة في اللاوعي، والتي تخرج لاحقاً في شكل سلوك عدواني.
2. النظرية التطورية
تفسر التنمر كرغبة غريزية في فرض السيطرة والهيمنة، تبدأ في الطفولة المبكرة وتتطور مع المراحل العمرية.
3. نظرية الفروق الفردية
ترى أن الشعور بالاختلاف والتميز عن الآخرين قد يولد رغبة في التنمر عليهم.
4. العوامل الأسرية والبيئية
يؤكد الكتاب على الدور الحاسم للأسرة. قصور التربية، استخدام العقاب البدني، غياب الرقابة، والسلوك العدواني داخل المنزل، كلها عوامل بيئية "تُصنّع" الطفل المتنمر. وتشترك أسر المتنمرين والضحايا غالباً في سمات سلبية مثل: نقص الفعالية الاجتماعية، الاكتئاب، وتدني تقدير الذات.
5. التفسير البيولوجي
يرجع بعض السلوكيات التنموية إلى عوامل فسيولوجية وغرائز عدوانية مكبوتة داخل تكوين الشخص ذاته.
المحور الخامس: الآثار المدمرة للتنمر (الفصل الخامس)
لا يترك التنمر أحداً دون ندوب، سواء الضحية أو حتى المتنمر نفسه.
أ. الآثار على الضحية:
- مشكلات عاطفية وسلوكية طويلة الأمد.
- فقدان الثقة بالنفس وتدني تقدير الذات.
- تراجع التحصيل الدراسي.
- في الحالات الشديدة، قد يؤدي إلى الاكتئاب والأفكار الانتحارية.
ب. الآثار على المتنمر:
- مواجهة صعوبات في التكيف مع البيئة المدرسية والاجتماعية.
- الميل لعدم طاعة السلطة (المعلمين، الوالدين).
- احتمالية أكبر للانخراط في سلوكيات منحرفة مستقبلاً مثل تعاطي المخدرات أو الجريمة.
ويشير الكتاب أيضاً إلى الفروق بين الجنسين في أساليب التنمر، حيث يميل الذكور غالباً للتنمر البدني المباشر، بينما تميل الإناث للتنمر الاجتماعي واللفظي غير المباشر (مثل نشر الشائعات والعزل).
خاتمة: نحو بيئة مدرسية آمنة
كتاب "سيكولوجية التنمر بين النظرية والعلاج" ليس مجرد تشخيص للمشكلة، بل هو خارطة طريق للفهم العميق. إنه يؤكد أن مواجهة هذا "الوباء الصامت" تتطلب تضافر جهود الأسرة، المدرسة، والمجتمع بأسره، بدءاً من التوعية، مروراً ببرامج التدخل المبكر، ووصولاً إلى بناء بيئة مدرسية قائمة على الاحترام والتقبل.
إنه مرجع لا غنى عنه لكل باحث، معلم، وأب يسعى لفهم وحماية أبنائه في عالم يزداد تعقيداً.
