توماس بوتومور: رائد علم الاجتماع الماركسي وتحليل الطبقات الاجتماعية | سيرته وأعماله
في بانثيون عمالقة علم الاجتماع sociologie في القرن العشرين، يبرز اسم توماس بوتومور (Thomas Bottomore) كقوة فكرية هادئة ولكنها عميقة التأثير. لم يكن مجرد عالم اجتماع، بل كان جسرًا فكريًا ربط بين التقاليد الكلاسيكية لعلم الاجتماع، وعمق التحليل الماركسي، ودقة البحث التجريبي. من خلال أعماله الرائدة حول الطبقات الاجتماعية، والنخب (الصفوة)، وعلم الاجتماع السياسي، قدم بوتومور إرثًا لا يزال يلهم الباحثين والطلاب حول العالم.
لماذا يظل فكر توماس بوتومور حيويًا حتى اليوم؟ وكيف أعاد تشكيل فهمنا للمجتمع الحديث؟ في هذه المقالة الشاملة، سنغوص في حياة وأعمال هذا المفكر البريطاني الفذ، ونستكشف إسهاماته الكبرى، ونحلل أبرز مؤلفاته التي أثرت المكتبة السوسيولوجية العربية والعالمية.
![]() |
عالم الاجتماع البريطاني توماس بوتومور. |
المولد والنشأة: من هو توماس بوتومور؟
لكي نفهم عمق مشروعه الفكري، يجب أن نعود إلى البدايات. توماس بيرتون بوتومور، عالم اجتماع بريطاني، وُلد في عام 1920 وتوفي في عام 1992، في فترة شهدت تحولات اجتماعية وسياسية جذرية، من الكساد الكبير إلى الحرب العالمية الثانية وصعود دولة الرفاهية. هذه الخلفية المضطربة شكلت اهتماماته البحثية بشكل كبير.
تخصص بوتومور في الفكر الماركسي وعلم الاجتماع السياسي، لكنه لم يكن ماركسيًا عقائديًا، بل كان ناقدًا ومحللًا دقيقًا. ركز جُل أبحاثه على دراسة الظواهر المحورية في أي مجتمع: الطبقات الاجتماعية، النخب الحاكمة، والصراع الطبقي. كان هدفه هو فهم آليات القوة والتفاوت التي تشكل بنية المجتمعات الحديثة. من أبرز مؤلفاته التي أصبحت كلاسيكيات في مجالها: "الصفوة والمجتمع" و "الطبقات في المجتمع الحديث".
![]() |
المولد والنشأة. |
الإسهامات الفكرية الكبرى: أعمدة مشروع بوتومور
لم تكن إسهامات بوتومور مجرد إضافة للمعرفة، بل كانت إعادة بناء وتأطير لمفاهيم أساسية. يمكن تلخيص مشروعه الفكري في أربعة محاور رئيسية:
1. تحليل الطبقات الاجتماعية في العصر الحديث
في كتابه الشهير "الطبقات في المجتمع الحديث"، قدم بوتومور تحليلًا رصينًا ومُحدّثًا لمفهوم الطبقة. بينما انطلق من الأساس الماركسي الذي يربط الطبقة بملكية وسائل الإنتاج، إلا أنه تجاوزه ليقدم رؤية أكثر تعقيدًا تتناسب مع المجتمعات الصناعية المتقدمة.
![]() |
غلاف كتاب: الطبقات في المجتمع الحديث. |
جادل بوتومور بأن البنية الطبقية في القرن العشرين لم تعد تقتصر على الانقسام البسيط بين البرجوازية والبروليتاريا. لقد لاحظ بروز "طبقة وسطى" جديدة وواسعة من المهنيين والمدراء والتقنيين، وصعوبة تصنيفها ضمن الإطار الماركسي التقليدي. كما سلط الضوء على عوامل أخرى تؤثر في التمايز الطبقي إلى جانب الملكية، مثل التعليم، والمهنة، والسلطة داخل المؤسسات.
أحد أهم إسهاماته هنا هو تحليله لدور دولة الرفاهية في التخفيف من حدة الصراع الطبقي، وكيف أثرت سياسات التعليم العام والضمان الاجتماعي على فرص الحراك الاجتماعي، وإن لم تقضِ على التفاوتات بشكل كامل.
2. نظرية الصفوة (النخبة) والمجتمع
يُعتبر كتاب "الصفوة والمجتمع" تحفة بوتومور وأحد أهم الأعمال في علم الاجتماع السياسي. في هذا الكتاب، دخل بوتومور في حوار نقدي مع نظريات النخبة الكلاسيكية (مثل نظريات فيلفريدو باريتو وغايتانو موسكا) التي كانت ترى أن وجود نخبة حاكمة هو قانون حديدي في كل المجتمعات، ومع النظرية الماركسية التي تتنبأ بمجتمع لا طبقي (وبالتالي لا نخبة فيه).
![]() |
غلاف كتاب: الصفوة والمجتمع. |
رفض بوتومور كلا الطرحين في شكلهما المطلق وقدم توليفة عبقرية. لقد أقر بوجود نخب (صفوات) سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية في المجتمعات الحديثة، لكنه رفض فكرة أنها حتمية بيولوجيًا أو نفسيًا. وبدلًا من ذلك، ربط وجود النخب بالبنية الطبقية. رأى أن النخب في المجتمعات الرأسمالية غالبًا ما يتم تجنيدها من الطبقة العليا أو الطبقة الوسطى العليا، وأنها تعمل، بوعي أو بغير وعي، على خدمة مصالح الطبقة المهيمنة.
بهذا التحليل، لم ينفِ بوتومور وجود النخب، بل "أعادها إلى مكانها" داخل بنية اجتماعية أوسع محكومة بالعلاقات الطبقية.
3. العلاقة النقدية مع الماركسية
ربما تكون هذه هي المساهمة الأكثر تميزًا لبوتومور. لقد كان أحد أهم علماء الاجتماع الذين تعاملوا مع الفكر الماركسي بجدية أكاديمية، لا كأيديولوجية سياسية مغلقة. في كتب مثل "نقد علم الاجتماع الماركسي" و"مدرسة فرانكفورت"، سعى بوتومور إلى تخليص الماركسية من طابعها الحتمي والاقتصادي الصارم.
![]() |
غلاف كتاب: نقد علم الاجتماع الماركسي. |
انتقد بوتومور الماركسية الأرثوذكسية التي فسرت كل شيء بناءً على الاقتصاد (الحتمية الاقتصادية)، وأعاد الاعتبار إلى الجوانب الإنسانية والسوسيولوجية في كتابات ماركس الشاب. كان مهتمًا بماركس "عالم الاجتماع" أكثر من ماركس "الثوري".
كما كان من أوائل من قدموا مدرسة فرانكفورت والنظرية النقدية إلى العالم الناطق بالإنجليزية، مدركًا أهميتها في تحليل الثقافة والأيديولوجيا في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. باختصار، عمل بوتومور على تطوير "سوسيولوجيا ماركسية" نقدية ومفتوحة، بدلاً من التمسك بـ "الماركسية العقائدية".
![]() |
غلاف كتاب: مدرسة فرانكفورت. |
4. تأسيس علم الاجتماع السياسي
من خلال أعماله المذكورة، لعب بوتومور دورًا محوريًا في ترسيخ أسس علم الاجتماع السياسي كحقل أكاديمي مستقل. في كتابه "علم الاجتماع السياسي"، قدم إطارًا واضحًا لدراسة العلاقة المتشابكة بين المجتمع والدولة، وبين البنى الاجتماعية (كالطبقات) والعمليات السياسية (كالانتخابات وصنع القرار).
![]() |
غلاف كتاب: علم الاجتماع السياسي. |
أصر على أن فهم السياسة لا يمكن أن يتم بمعزل عن فهم القوى الاجتماعية التي تشكلها. فالديمقراطية، والسلطة، والدولة، والأحزاب السياسية، كلها ظواهر لا يمكن تحليلها إلا من خلال ربطها بالتفاوتات الطبقية والصراعات الاجتماعية الكامنة في المجتمع.
أبرز مؤلفات توماس بوتومور: مكتبة لا غنى عنها
"تمهيد في علم الاجتماع" (Sociology: A Guide to Problems and Literature): يعتبر مدخلًا كلاسيكيًا وشاملًا لعلم الاجتماع، يتميز بعمقه ووضوحه، وقد تُرجم إلى لغات عديدة وأصبح مرجعًا للطلاب حول العالم.
![]() |
غلاف كتاب: تمهيد في علم الاجتماع. |
علم الاجتماع والنقد الاجتماعي" (Sociology as Social Criticism): في هذا العمل، يدافع بوتومور عن دور علم الاجتماع كأداة نقدية للمجتمع، وليس مجرد أداة وصفية محايدة. يرى أن على عالم الاجتماع أن يكشف عن هياكل القوة والتفاوت ويسهم في النقاش العام حول مستقبل المجتمع.
![]() |
غلاف كتاب: علم الاجتماع والنقد الاجتماعي. |
إرث بوتومور وتأثيره الدائم
لماذا يجب أن نقرأ توماس بوتومور اليوم؟ الإجابة تكمن في أن القضايا التي عالجها لا تزال في صميم واقعنا المعاصر.
فهم التفاوتات: في عصر يتزايد فيه التفاوت في الثروة والدخل، يوفر تحليل بوتومور للطبقات والنخب أدوات قوية لفهم جذور هذه المشكلة.
نقد السلطة: علّمنا بوتومور أن ننظر دائمًا إلى من يمتلك السلطة، وكيف يستخدمها، ومن أي خلفية اجتماعية أتى. هذا المنهج النقدي ضروري لأي مواطن يسعى لفهم السياسة.
حوار فكري بنّاء: قدم نموذجًا لكيفية التعامل مع النظريات الكبرى (كالماركسية) بطريقة نقدية وبنّاءة، والاستفادة منها دون الوقوع في أسر الدوغمائية.
أهمية علم الاجتماع: أظهر أن علم الاجتماع ليس ترفًا أكاديميًا، بل هو ضرورة لفهم العالم من حولنا والمساهمة في جعله مكانًا أكثر عدلاً.
خاتمة: المفكر الذي لا يزال يتحدث إلينا
لم يكن توماس بوتومور مجرد شارح لأفكار ماركس أو فيبر أو باريتو، بل كان مفكرًا أصيلًا نسج من هذه الخيوط الفكرية نسيجًا جديدًا يناسب عصره. لقد أعاد لعلم الاجتماع مهمته النقدية، وربط التحليل النظري بالواقع التجريبي، وقدم لنا مفاهيم لا تزال حية وقادرة على تفسير تعقيدات عالمنا. قراءة بوتومور اليوم هي أكثر من مجرد رحلة في تاريخ الفكر، إنها حوار مستمر مع عقل فذ لا يزال يطرح الأسئلة الصحيحة حول القوة والطبقية ومستقبل المجتمع.
أسئلة شائعة (FAQ)
- ما هي أهم أفكار توماس بوتومور؟
أهم أفكاره تدور حول التحليل النقدي للطبقات الاجتماعية في المجتمع الحديث، ونظريته التي تربط بين النخب (الصفوة) والبنية الطبقية، وعلاقته النقدية بالماركسية التي سعت لتطويرها كسوسيولوجيا علمية بدلاً من أيديولوجيا مغلقة. - هل كان توماس بوتومور ماركسياً؟
يمكن وصفه بأنه "عالم اجتماع ماركسي" وليس "ماركسيًا عقائديًا". لقد استخدم أدوات التحليل الماركسي ببراعة، لكنه انتقد جوانبها الحتمية والاقتصادية، وسعى لدمجها مع تقاليد علم الاجتماع الأخرى. - ما الفرق بين نظرية النخبة عند بوتومور وباريتو؟
باريتو رأى أن وجود نخبة حاكمة هو "قانون حديدي" وحقيقة طبيعية في كل المجتمعات، نتيجة للتفوق النفسي أو البيولوجي لأفرادها. أما بوتومور، فربط وجود النخبة بالبنية الاجتماعية والاقتصادية، ورأى أنها في الغالب انعكاس للطبقة المهيمنة، وليست حقيقة طبيعية حتمية.