تقديم
الفلسفة نقد، نقد لما يسلم به الرجل العادي وكل العلماء والفلاسفة في حياتهم اليومية، ونقد لما يقوله العلماء، وليس المقصود هنا نقد الفلاسفة لكشفه بل تصحيح أحيانًا، والفلسفة نقد أخيرًا لما يقوله الفلاسفة أنفسهم. في كل هذه الحالات نفهم النقد بمعنى الامتحان والاختبار والتمحيص، الدعم أحيانًا والهجوم تارة أخرى.
والكتاب الذي يقدمه المترجم هنا إلى قراء العربية يعرض تمرينًا عن هذا الاتجاه النقدي في الفلسفة، بالمعنى الذي حددناه. عنوان الكتاب هو "الإبستمولوجيا" (1977) أو نظرية المعرفة، وهو أحد فروع الفلسفة العامة.
ويختلف الفلاسفة أنفسهم أحيانًا في مدلولها وموضوعها؛ فبعض الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين أو الكتاب المفرنسيين المعاصرين، أن موضوع الإبستمولوجيا هو "نقد المعرفة العلمية"، أي تحليل وتمحيص المناهج العلمية والتصورات والمصادرات العلمية التي يستخدمونها بلا تمحيص أحيانًا، وكيف تتطور هذه المناهج وتلك المصادرات والدوافع إلى هذا التطور.
لكننا نجد من جهة أخرى أن الفلاسفة الإنجليز- المعاصرين - أو الكتاب الإنجليز- يدرجون هذه الموضوعات في فرع "فلسفة العلوم"، وليس في باب الإبستمولوجيا. ويكتبون للإبستمولوجيا موضوعات مختلفة منها مناقشة موقف الشك المطلق في المعرفة أو إمكان المعرفة الموضوعية أو استحالتها، ومصادر المعرفة وحدودها.
وطبيعة المعرفة التجريبية وإمكان وجود معرفة قبلية غير تجريبية، وموضوع اليقين والاحتمال في المعرفة، وطبيعة معرفة الماضي وما إلى ذلك.
في هذه المقالة، نسلط الضوء على أهمية الإبستمولوجيا، تعريفها اللغوي والفلسفي، وتطور استخدام المصطلح عبر الزمن. كما نتناول الاختلافات بين الفلاسفة الفرنسيين والإنجليز حول موضوعاتها وحدودها، مما يعكس عمق النقاشات الفلسفية حول طبيعة المعرفة ومصادرها.
نظرية المعرفة العلمية ( الإبستمولوجيا ) روبير بلانشيه |
مقدمة بقلم المترجم ما هي الإبستمولوجيا؟
إن مصطلح Epistémologie في اللغة الفرنسية مركب من الكلمة اليونانية episteme التي تعني "العلم" أو "المعرفة العلمية"، والمقطع (logie) الذي يعني في أصله اليوناني (Logos) "نظرية" أو "دراسة نقدية". وبناء على هذا فإن لفظ "الإبستمولوجيا" يعني بحكم أصله الاشتقاقي "نظرية العلم"، أو نظرية "المعرفة العلمية". وقد فضلنا أن يكون هذا التعبير الأخير العنوان الأساسي للكتاب في ترجمته العربية.
ويؤكد مؤلف هذا الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه بأن لفظ إبستمولوجيا لم يكن معروفًا ولا مستخدمًا حتى مطلع هذا القرن. إذ أنه قد ورد لأول مرة في ملحق معجم لاروس الموضوع الذي ظهر عام 1906، وقد دخلت منه تمامًا إلى المعاجم والقواميس التي ظهرت قبل هذا التاريخ. إلا أن البيانات عن هذا اللفظ قد عرفت واستخدمت قبل هذا التاريخ بنصف قرن على الأقل، ويبدو أن أول من استخدم لفظ "إبستمولوجيا" هو ج. ف. فيرييه في كتابه Institutes of Metaphysics الذي صدر عام 1854 ليميز به بين فرعين أساسيين من فروع الفلسفة هما الإبستمولوجيا والأونطولوجيا.
اقرأ أيضا
وإذا أردنا الآن أن نحدد للقارئ ما يعنيه لفظ "الإبستمولوجيا"، وإن نرسم له حدود مبناها، فقد يكون من المناسب أن ننطلق من تعريف أندريه لالاند، ذلك التعريف الذي كتبه في معجمه الفلسفي الشهير، يقول لالاند: "تعني هذه الكلمة...
فلسفة العلم ولكن يعني أكثر دقة: فهي ليست الدراسة الخاصة لشى المناهج العلمية لأن موضوع هذه الدراسة هو علم مناهج البحث وهو جزء من المنطق. كما أنها ليست أيضًا تأليفًا أو استنباطًا حدسيًا للقوانين العلمية (على طريقة الفلسفة الوضعية). إنها أساسًا ذلك البحث الذي يعالج معالجة نقدية مبادئ العلوم المختلفة وفروعها ونتائجها بهدف التوصل إلى إرساء أساسها المنطقي، كما أنها تمتد لتعيد قيمة هذه العلوم ودرجة موضوعيتها.