بطاقة فيلسوف: جان بول سارتر (دليل شامل لأب الوجودية الحديثة)
📜 مقدمة: الفيلسوف الذي حكم علينا بـ "الحرية"
يُعتبر جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre) (1905-1980) ليس مجرد فيلسوف فرنسي، بل هو أيقونة ثقافية عالمية. إنه الاسم الأكثر التصاقاً بـ "الفلسفة الوجودية" (Existentialism)، وهو المفكر الذي نجح في نقل الفلسفة من الأروقة الأكاديمية المغلقة إلى المقاهي، المسارح، والساحات السياسية.
في عالم ما بعد حربين عالميتين، حيث انهارت اليقينيات القديمة (الدينية والسياسية)، قدم سارتر إجابة صادمة ومحررة في آن واحد: أنت حر، وحر تماماً، وأنت وحدك المسؤول عن تحديد معنى لحياتك.
في أعماله التأسيسية مثل "الوجود والعدم" (Being and Nothingness) (1943) و محاضرته الشهيرة "الوجودية مذهب إنساني" (Existentialism is a Humanism) (1946)، صاغ سارتر فلسفة تتمحور حول الفرد، حريته المطلقة، وقلقه الوجودي.
![]() |
| بطاقة فيلسوف: جان بول سارتر |
في هذا الدليل الشامل، سنستكشف "بطاقة" هذا الفيلسوف العملاق، ونغوص في حياته، ونحلل الخطوط العامة لفلسفته التي لا تزال تهز ضمير الفكر الإنساني حتى اليوم.
biographical-brief نبذة عن حياة جان بول سارتر (1905 - 1980)
- الميلاد والنشأة: ولد جان بول سارتر في باريس، فرنسا، في 21 يونيو 1905. نشأ في بيئة برجوازية مثقفة وتلقى تعليماً ممتازاً.
- التعليم والشريكة: كان طالباً لامعاً، وتخرج من "دار المعلمين العليا" المرموقة. خلال دراسته، التقى بـ سيمون دي بوفوار (Simone de Beauvoir)، التي أصبحت شريكته الفكرية والعاطفية مدى الحياة، وأحد أهم فلاسفة الوجودية والنسوية.
- الحرب العالمية الثانية: كانت الحرب نقطة تحول في حياته. خدم في الجيش الفرنسي، وتم أسره من قبل القوات الألمانية عام 1940. تجربة الأسر والحرب هي التي بلورت أفكاره العملية عن "الحرية"، "الاختيار"، و"المقاومة".
- ما بعد الحرب (ذروة التأثير): أصبح سارتر بعد الحرب أشهر مثقف في العالم. تحولت مقهى "كافيه دو فلور" (Café de Flore) في باريس إلى مركز للحركة الوجودية.
- النشاط السياسي: لم يكن فيلسوفاً منعزلاً، بل كان ناشطاً سياسياً ومثقفاً "ملتزماً" (Engaged). انتقد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وعارض حرب فيتنام، واعتنق الماركسية (بنسخته الخاصة) لفترة طويلة.
- جائزة نوبل: في عام 1964، مُنح جائزة نوبل في الأدب، لكنه رفضها في خطوة شهيرة، قائلاً إن "الكاتب يجب أن يرفض أن يتحول إلى مؤسسة".
- الوفاة والإرث: توفي في 15 أبريل 1980 في باريس. حضر جنازته أكثر من 50,000 شخص، في وداع شعبي هائل لأحد أعظم عقول القرن.
🏛️ الفصل الأول: فلسفة سارتر - الثورة الوجودية
تدين الفلسفة الوجودية على مختلف أنواعها وأشكالها لعبقرية جان بول سارتر. المفهوم الأساسي في الوجودية هو "الوجود" (Existence) - أي حقيقة أننا "موجودون" هنا والآن.
لكن سارتر يطرح فوراً فكرة الاختلاف الجذري بين وجود الإنسان ووجود سائر الأشياء من حوله.
- وجود الأشياء (Being-in-itself): الأشياء (مثل صخرة أو طاولة) هي "موجودات لا تزيد عن ذلك". وجودها "هو" ماهيتها. الطاولة "هي" طاولة، ولا يمكنها أن تختار أن تكون شيئاً آخر.
- وجود الإنسان (Being-for-itself): أما الإنسان، فإنه الكائن الوحيد الذي "يعي" وجوده. إنه يتناول وجوده بعقله ويده، فيصوغ نفسه وكيانه ويستخرج جوهره وماهيته.
وهنا نصل إلى النواة الصلبة لفلسفة سارتر.
🔑 الفصل الثاني: القضية الأولى - "الوجود يسبق الماهية" (الحرية المطلقة)
هذه هي اللافتة الرئيسية للوجودية السارترية.
ماذا تعني "الماهية تسبق الوجود" (الفلسفة التقليدية)؟
يشرح سارتر أن الفلسفة التقليدية (منذ اليونان وحتى الفكر الديني) كانت ترى أن "الماهية تسبق الوجود".
مثال (قاطع الورق): عندما يريد الحرفي صنع "قاطع ورق"، فإنه يمتلك "فكرة" (Concept) مسبقة عنه في ذهنه. هذه الفكرة (تصميمه، وظيفته) هي "ماهيته". ثم يقوم الحرفي بصنعه (إيجاده). إذن، "ماهية" قاطع الورق سبقت "وجوده".التطبيق الديني: يرى الفكر الديني أن "الإله" هو الحرفي الأعظم. لقد خلق الإنسان ولديه "فكرة" مسبقة عن "طبيعة الإنسان" أو "ماهيته".
ماذا تعني "الوجود يسبق الماهية" (فلسفة سارتر)؟
يرى سارتر (كوجودي ملحد) أنه لا يوجد "إله" ليضع لنا "ماهية" مسبقة.
لذلك، بالنسبة للإنسان وحده، "الوجود يسبق الماهية" (Existence precedes Essence).
الإنسان يُلقى به (الوجود): الإنسان "يوجد" أولاً. إنه يُلقى به في هذا العالم (يولد). في هذه اللحظة، هو لا شيء. هو مجرد "وجود" خام، مجرد "مشروع".الإنسان يصنع نفسه (الماهية): بعد ذلك، ومن خلال "أفعاله" و "اختياراته" الواعية، يبدأ في "صنع" ماهيته.
الماهية هي نتاج الحياة: الإنسان يحيا لسنين طوال، يكون فيها ثابتاً ومتغيراً. في البداية هو "موجود لا أكثر". ولكن بعد عدة سنين، نجد أنه "تجوهر" فظهرت ماهيته. لقد أصبح "فيلسوفاً، جاهلاً، طبيباً، شجاعاً، أو جباناً".
الخلاصة: أنت لست "جباناً" بطبيعتك، بل أنت "تصبح" جباناً لأنك اخترت أن تفعل أفعالاً جبانة. أنت لست "بطلاً" بطبيعتك، بل أنت "تصبح" بطلاً لأنك اخترت أن تفعل أفعالاً بطولية.
الإنسان هو الذي يختار ماهيته بإرادته الحرة، دون أي إجبار من غيره.
⛓️ الفصل الثالث: القضية الثانية - "محكوم عليه بأن يكون حراً" (المسؤولية الكاملة)
إن النتيجة المباشرة والزلزالية لفكرة "الوجود يسبق الماهية" هي الحرية المطلقة.
بما أنه لا توجد "طبيعة بشرية" مسبقة، ولا "قدر" محتوم، ولا "إله" يوجهنا، فإن الإنسان حر تماماً.
الإنسان هو الحرية: الإنسان لم يكن شيئاً في بدء وجوده. فهو الذي سيصمم نفسه، لأنه حر، بل هو الحرية ذاتها.لا مهرب منها: "نحن وجدنا مع هذه الحرية، ولا مهرب لنا منها".
حكم بالإعدام على الحرية: يذهب سارتر إلى أبعد من ذلك بعبارته الشهيرة: "حكم على الإنسان بأن يكون حراً" (Man is condemned to be free).لماذا "محكوم عليه"؟ لأنه لم يختر أن "يوجد". لقد "قُذف" به إلى العالم.
لماذا "حر"؟ لأنه بمجرد أن "وُجد"، أصبح مسؤولاً عن كل ما يفعله.
المسؤولية (القضية الثانية)
مادام الإنسان حراً يختار أفعاله بنفسه، فهو إذن يتحمل مسؤولية تلك الحرية وهذا الاختيار.
الحرية والفوضى: يدرك سارتر أنه بدون تحمل المسؤولية، ستجعل الحرية التامة للفرد تؤدي إلى فوضى عامة ودمار شامل للمجتمع.المسؤولية الكاملة: لذلك، الحرية الكاملة تستتبع المسؤولية الكاملة.
"سوء النية" (Bad Faith): يسمى سارتر الهروب من هذه المسؤولية "سوء النية". وهو أن تلوم الظروف ("الظروف أجبرتني") أو الطبيعة ("هكذا ولدت") أو المجتمع ("الجميع يفعل ذلك") على اختياراتك. سارتر يرفض هذا تماماً. أنت دائماً تختار.
🌪️ الفصل الرابع: القضية الثالثة - "القلق الوجودي" (الشعور بالحرية)
إذا كانت الحرية مطلقة، والمسؤولية كاملة، فما هو "الشعور" المصاحب لهذه الحالة؟إنه القلق (Anguish).
مسؤولية الاختيار تولد القلق: إن حرية اختيار الفرد لما يفعله ترتبط بتحمل مسؤولية ما يختاره، وهذا يؤدي به إلى القلق والخوف من نتائج هذا الاختيار.
مثال القائد: يقدم سارتر مثال القائد العسكري الذي يتخذ بكامل حريته قرار الحرب، وهو يعلم أن أرواح جنوده تعتمد على قراره. هذا القائد "يتحمل نتائج قراره. فالقلق مصاحب للمسؤولية".
القلق ليس مرضاً: يوضح سارتر أن هذا "القلق" يختلف عن "القلق المرضي" الذي يؤدي إلى الاستكانة واللافعل.
القلق البسيط: إنه "القلق البسيط الذي يعرفه كل من تحمل مسؤولية". إنه الشعور بالدوار الذي تشعر به عندما تدرك أنك "أنت وحدك" من يقرر، وأنه لا توجد علامات إرشادية في السماء تخبرك ما هو الصواب.
👁️ الفصل الخامس: "الآخرون" (الجحيم هو الآخرون)
قد تبدو فلسفة سارتر فردية جداً، لكنه يقدم مفهوماً قوياً عن "الآخر" (The Other).كيف أعرف نفسي؟
يرى سارتر أننا لا نكتشف أنفسنا في عزلة، بل في مواجهة الآخرين."أنا لو شئت أن أعرف شيئا عن نفسي .. فلن أستطيع ذلك إلا عن طريق الآخر... لأن الآخر ليس فقط شرطاً لوجودي ... بل هو كذلك شرط المعرفة التي لكونها عن ذاتي."
"النظرة" (The Gaze)
يحلل سارتر "نظرة الآخر".عندما أكون وحيداً، أنا "ذات" (Subject) حرة.
عندما يدخل "آخر" وينظر إليّ، فإنه يحولني بنظرته إلى "موضوع" (Object) في عالمه هو.
مثال (ثقب المفتاح): إذا كنت أنظر من ثقب مفتاح (فعل فضولي)، فأنا "ذات" تمارس حريتها. لكن إذا سمعت خطى خلفي، وشعرت "بنظرة" أحدهم تضبطني متلبساً، فإني "أتجمد" وأشعر بـ "الخزي". لقد تحولت إلى "موضوع" (هذا الشخص الفضولي) في عالم الآخر.
هذه النظرة هي التي تجعلني "أعي" نفسي، غالباً بشكل سلبي (كالخزي).
"إننا لا نكتشف أنفسنا في عزلة ما، بل في الطريق في المدينة وسط الجماهير، شيئا بين الأشياء أناسا بين البشر"
"أحتاج إلى وساطة غيري كي أكون ما أكون."
🏁 خاتمة: إرث سارتر (لماذا لا يزال مهماً؟)
ترك سيغموند فرويد... (عفواً، يبدو أن هناك خلطاً في الخاتمة الأصلية، سأقوم بتصحيحها بناءً على سارتر).ترك جان بول سارتر إرثًا عظيمًا لا يقتصر فقط على الفلسفة، بل يمتد إلى الأدب (رواية "الغثيان")، والمسرح (مسرحية "الذباب" و "لا مخرج")، والنقد الأدبي، والعلوم الاجتماعية والسياسية.
رغم الجدل الذي أثارته وجوديته الملحدة وأفكاره الراديكالية عن الحرية، إلا أنه لا يمكن إنكار أن سارتر قد غيّر جذريًا الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا وإلى مسؤوليتنا تجاه العالم.
لقد أجبرنا على مواجهة أصعب حقيقة: أننا "أحرار"، وأننا لا نملك أي أعذار. إن فهمنا للذات البشرية اليوم، كـ "مشروع" يصنع نفسه بنفسه ويتحمل قلق اختياراته، هو نتيجة مباشرة للأفكار الجريئة التي طرحها سارتر، مما يجعله واحداً من أعظم العقول وأكثرها تأثيراً في تاريخ الإنسانية.
