الحداثة الجديدة رؤية عبد الوهاب المسيري لمستقبل إنساني
تعتبر الحداثة من أكثر المفاهيم التي أثارت جدلاً واسعاً في الفكر العربي والإسلامي. فبينما يراها البعض طريقاً للتقدم والتحرر، ينظر إليها آخرون كتهديد للهوية والقيم. وفي خضم هذا الجدل، يطرح المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري رؤية جديدة للحداثة، رؤية تسعى إلى التوفيق بين مكتسبات العلم والتكنولوجيا وبين القيم والغايات الإنسانية.
الحداثة الجديدة رؤية عبد الوهاب المسيري لمستقبل إنساني |
تتلخص رؤية المسيري في مقولته الشهيرة: "إن المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط، حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث". تدعو هذه المقولة إلى إعادة النظر في مفهوم الحداثة وتجاوز إشكالياتها، لبناء مستقبل إنساني أكثر توازناً واستدامة.
إشكاليات الحداثة الغربية:
يرى المسيري أن الحداثة الغربية، رغم إنجازاتها المادية والعلمية، تعاني من إشكاليات عميقة أثرت سلباً على الإنسان والمجتمع.
من أبرز هذه الإشكاليات:
المادية المفرطة: تركيز الحداثة الغربية على الجانب المادي أدى إلى تهميش القيم الروحية والأخلاقية، مما أفرز مشكلات مثل الاغتراب والتفكك الأسري وانتشار الجريمة.
العقلانية المطلقة: اعتمدت الحداثة الغربية على العقلانية بشكل مفرط، مما أدى إلى إقصاء دور العاطفة والوجدان في حياة الإنسان.
الفردانية المفرطة: أدى التركيز على الفرد وحقوقه إلى إضعاف الروابط الاجتماعية والتضامن المجتمعي.
الاستغلال والهيمنة: استخدمت أدوات الحداثة، كالعلم والتكنولوجيا، في كثير من الأحيان لخدمة مصالح الدول الاستعمارية وهيمنتها على الشعوب الأخرى.
قطيعة مع التراث: تجاهلت الحداثة الغربية التراث الإنساني بمختلف أشكاله، مما أدى إلى فقدان الكثير من القيم والمعارف المهمة.
ملامح الحداثة الجديدة:
في ضوء هذه الإشكاليات، يطرح المسيري ملامح للحداثة الجديدة التي يتطلع إليها، ومن أهمها:
التوازن بين المادة والروح: تؤكد الحداثة الجديدة على أهمية تحقيق التوازن بين التقدم المادي والرقي الروحي. فالإنسان ليس مجرد كائن مادي، بل هو كائن روحي له احتياجات عاطفية ومعنوية.
العقل والقلب: تدعو الحداثة الجديدة إلى استخدام العقل بشكل متوازن، مع إعطاء دور للعاطفة والوجدان في حياة الإنسان.
الفرد والمجتمع: تحقيق التوازن بين حقوق الفرد وواجباته تجاه المجتمع. فالفرد ليس منعزلاً عن مجتمعه، بل هو جزء منه ويتأثر به ويؤثر فيه.
العلم والأخلاق: يجب أن يوجه العلم والأخلاق وأن يكون في خدمة الإنسان والمجتمع، لا أن يتحول إلى أداة للهيمنة والتدمير.
الاستفادة من التراث: يجب الاستفادة من التراث الإنساني بمختلف أشكاله، مع ضرورة تنقيته من الشوائب وتطويره بما يتناسب مع العصر.
تحديات وآفاق:
لا شك أن بناء حداثة جديدة يتطلب مواجهة العديد من التحديات، ومن أبرزها:
تغيير العقليات: يتطلب بناء حداثة جديدة تغيير العقليات السائدة التي تركز على الماديات وتتجاهل القيم الروحية.
إصلاح النظام التعليمي: يلعب النظام التعليمي دوراً هاماً في بناء الإنسان وتشكيل وعيه. لذلك، يجب إصلاح النظام التعليمي ليواكب متطلبات العصر ويساهم في بناء حداثة متوازنة.
التعاون الدولي: تتطلب مواجهة التحديات العالمية، مثل تغير المناخ والفقر، تعاوناً دولياً بناءً على مبادئ العدالة والمساواة.
الخاتمة
رغم التحديات، فإن رؤية المسيري للحداثة الجديدة تحمل الكثير من الآمال لمستقبل إنساني أفضل. فمن خلال تحقيق التوازن بين المادة والروح، والعقل والقلب، والفرد والمجتمع، يمكن بناء مجتمعات أكثر عدلاً واستدامة، مجتمعات تحترم كرامة الإنسان وتسعى إلى تحقيق سعادته.