📁 آخر الأخبار

نظرية المحادثة (جوردون باسك): الدليل الشامل لفهم التعلم كحوار

نظرية المحادثة (جوردون باسك): الدليل الشامل لفهم التعلم كحوار

ما هي نظرية المحادثة لجوردون باسك؟ اكتشف كيف يفسر علم التحكم الآلي التعلم عبر "هياكل الاستلزام"، وما هو الفرق الجوهري بين المتعلم "الشمولي" والمتعلم "المسلسل". دليل عميق في نظريات التعلم.

​مقدمة: هل يمكن للآلات أن تتعلم مثل البشر؟

​في السعي البشري لفهم "التعلم"، برزت نظريات لا حصر لها. لكن قلة منها حاولت بناء جسر بين كيفية تعلم الإنسان وكيفية تعلم الآلة. في خضم الثورة المعرفية وعلم التحكم الآلي (Cybernetics) في منتصف القرن العشرين، برز اسم غيّر مفاهيمنا عن اكتساب المعرفة: جوردون باسك (Gordon Paskin).

​تُعتبر نظرية المحادثة (Conversation Theory) التي قدمها باسك واحدة من أعمق وأشمل نظريات التعلم. هي نظرية تحاول تفسير التعلم ليس فقط في الكائنات الحية، ولكن أيضاً في الأنظمة الاصطناعية والآلات.

​وفقاً لهذه النظرية، فإن جوهر التعلم هو "المحادثة". لكن ليس بالمعنى السطحي للكلمة، بل كعملية تفاعلية ديناميكية من التفاوض وبناء المعنى. يرى باسك أن التعلم يحدث بشكل فعال فقط عندما يتمكن المتعلم من "جعل معرفته واضحة" (Make Knowledge Explicit)، أي عندما يستطيع شرح ما تعلمه.


نظريات التعلم نظرية المحادثة (جوردون باسك)
نظريات التعلم نظرية المحادثة (جوردون باسك)

​في هذا المقال الشامل، سنغوص في أعماق نظرية المحادثة، بدءاً من مؤسسها وسياقها في علم التحكم الآلي، مروراً بمكوناتها الأساسية مثل "هياكل الاستلزام" ومستويات اللغة، وصولاً إلى أهم مساهماتها العملية: التمييز بين أنماط التعلم "الشمولية" و"المسلسلة".

​ من هو جوردون باسك؟ العقل وراء النظرية

​لفهم نظرية المحادثة، يجب أولاً فهم عقل مبتكرها. كان جوردون باسك (1928-1996) عالم نفس، وعالم تحكم آلي، ومخترعاً، ومنظّراً بريطانياً. لم يكن باسك عالم نفس تربوي تقليدي، بل كان رائداً في مجال "علم التحكم الآلي من الدرجة الثانية" (Second-order cybernetics)، وهو العلم الذي يدرس الأنظمة التي تراقب نفسها ذاتياً.

​كان باسك مهووساً بفكرة "التعلم" كنظام. لقد رأى أن أي نظامين يتفاعلان ويتكيفان مع بعضهما البعض (مثل المعلم والطالب، أو الطالب والكمبيوتر، أو حتى فكرتين في دماغ شخص واحد) يخلقان "محادثة".

​طور باسك نظريته كجزء من إطار عمل علم التحكم الآلي، الذي يركز على "التغذية الراجعة" (Feedback) كآلية أساسية للتنظيم والتعلم. بالنسبة لباسك، التعلم ليس عملية خطية سلبية (تلقي المعلومات)، بل هو "حلقة تغذية راجعة" نشطة ومستمرة.

​أساسيات نظرية المحادثة: التعلم كحوار

​في جوهرها، تصف نظرية المحادثة التعلم بأنه عملية يتفاعل فيها نظامان معرفيان (مثل معلم ومتعلم) للوصول إلى فهم مشترك حول موضوع معين.

الشرط الأساسي للتعلم عند باسك هو: "التفاهم" (Understanding).

​ولكن كيف نقيس "التفاهم"؟ يجيب باسك بأن التفاهم يحدث فقط عندما يتمكن المتعلم من "إعادة بناء" (Reconstruct) أو "شرح" (Explain) المفهوم بكلماته الخاصة، أو تطبيقه في سياق جديد.

​هذه العملية، التي تسمى غالباً "تقنية الشرح العكسي" (Teachback)، هي الآلية المركزية في نظرية المحادثة. لكي تتعلم شيئاً ما، يجب أن تكون قادراً على "تعليمه" (سواء لمعلمك، أو لزميلك، أو لنفسك، أو لآلة). هذه المحاولة للشرح هي التي تكشف الفجوات في الفهم وتجبر المتعلم على تنظيم أفكاره.

​ المكونات الأساسية للمحادثة التعليمية:

  1. المتعلمون (Participants): يمكن أن يكونوا بشراً (طالب ومعلم) أو آلات (نظام ذكاء اصطناعي وطالب) أو حتى مفاهيم (المتعلم يتناقش مع "نفسه" لفهم علاقة بين فكرتين).
  2. الموضوع (Topic): هو مجال المعرفة الذي يتم "التفاوض" حوله.
  3. اللغة (Language): هي الوسيلة التي تتم بها المحادثة.
  4. التغذية الراجعة (Feedback): هي الآلية التي يتم من خلالها تصحيح الفهم وتعديله.

​مستويات المحادثة: من العام إلى الخاص

​يرى باسك أن أي محادثة تعليمية فعالة لا يمكن أن تحدث على مستوى واحد فقط. فلكي يحدث "تفاهم" حقيقي، يجب أن تتنقل المحادثة بين مستويات مختلفة من التجريد. وقد حدد باسك ثلاثة مستويات رئيسية للغة المستخدمة في التعلم:

​ 1. اللغة الطبيعية (Natural Language - L0)

  • ما هي؟ هذا هو المستوى العام والأكثر مرونة. إنها اللغة التي نستخدمها يومياً (مثل العربية أو الإنجليزية).
  • وظيفتها: تُستخدم لمناقشة عامة حول الموضوع، وطرح الأسئلة الاستكشافية، ووضع الأهداف، والتعبير عن المشاعر حول التعلم. إنها لغة "لماذا نتعلم هذا؟" و "ما هو شعورك تجاه هذا المفهوم؟".
  • مثال: "أريد أن أفهم كيف يعمل الاقتصاد" أو "أجد صعوبة في فهم فكرة الاحتمالات".

​2. لغات الموضوع (Object Languages - L1)

  • ما هي؟ هي اللغات المتخصصة والدقيقة المستخدمة لوصف الموضوع نفسه.
  • وظيفتها: تُستخدم لمناقشة الموضوع بشكل تخصصي ودقيق، وبناء النماذج، ووصف الإجراءات. إنها لغة "كيف" (How-to).
  • مثال: في الرياضيات، لغة الموضوع هي المعادلات والرموز الجبرية. في الموسيقى، هي النوتة الموسيقية. في البرمجة، هي كود المصدر (مثل Python أو Java).

​ 3. اللغات الفوقية (Meta-languages - L-Meta)

  • ما هي؟ هي "لغة عن اللغة".
  • وظيفتها: تُستخدم للحديث عن عملية التعلم نفسها، أو عن قواعد لغة الموضوع (L1). إنها لغة "كيف نتعلم" و "لماذا هذه القاعدة صحيحة؟".
  • مثال: مناقشة "لماذا نستخدم التكامل لحساب المساحة تحت المنحنى؟" (وليس فقط "كيف نحسبه"). أو مناقشة استراتيجيات التعلم: "وجدت أن رسم الخرائط الذهنية يساعدني على ربط المفاهيم".

​بالنسبة لباسك، التعلم الحقيقي (Deep Learning) يحدث عندما يستطيع المتعلم التنقل بسلاسة بين هذه المستويات الثلاثة، خاصة بين L1 (التطبيق) و L-Meta (الفهم العميق للقواعد والاستراتيجيات).

​هياكل الاستلزام (Entailment Structures): "خريطة" المعرفة

​واحدة من أقوى أفكار باسك هي كيفية تنظيم المعرفة. من أجل تسهيل التعلم، يرى باسك أنه يجب أولاً "هيكلة" الموضوع (Topic) الذي سيتم تعلمه. هذه الهيكلة ليست مجرد قائمة من النقاط، بل هي شبكة من العلاقات المترابطة تسمى "هيكل الاستلزام" (Entailment Structure).

​[صورة لمخطط بسيط يوضح هيكل استلزام]

​هيكل الاستلزام هو "خريطة ذهنية" رسمية للموضوع، توضح كيف "تستلزم" (Entail) بعض المفاهيم مفاهيم أخرى. إنها توضح ما يجب تعلمه وبأي ترتيب منطقي. هذه الهياكل هي أساس "المحادثة"؛ فالمتعلم والمعلم يتفاوضان حول هذه الخريطة.

​يرى باسك أن هياكل الاستلزام يمكن أن توجد في مستويات مختلفة اعتماداً على مدى العلاقات المعروضة:

​1. هياكل مفاهيمية (Conceptual Structures)

  • ما هي؟ هي الهياكل التي تبين العلاقات الهرمية (Hierarchical) بين المفاهيم.
  • وظيفتها: توضح العلاقات بين المفاهيم العليا والمفاهيم التابعة لها. إنها تجيب عن سؤال "ما هذا؟" (What-is-it?).
  • مثال في علم الأحياء: لكي تفهم "الثدييات"، يجب أن تفهم أولاً "الحيوانات"، ولكي تفهم "القطط"، يجب أن تفهم أولاً "الثدييات". العلاقة هنا هي "تصنيف" (Is-a-kind-of).

​2. هياكل قياسية (Standard or Procedural Structures)

  • ما هي؟ هي الهياكل التي تبين العلاقات الإجرائية أو الخوارزمية.
  • وظيفتها: توضح العلاقات بين المتغيرات والقياسات والخطوات اللازمة لتنفيذ مهمة. إنها تجيب عن سؤال "كيف يعمل هذا؟" (How-to-do-it?).
  • مثال في الرياضيات: لتعلم "القسمة المطولة"، يجب أن تتقن أولاً "الطرح" و "الضرب". لا يمكنك الانتقال للخطوة التالية دون إتقان التي قبلها.

​ 3. هياكل تجريبية (Empirical Structures)

  • ما هي؟ هي الهياكل التي تبين علاقات السبب والنتيجة.
  • وظيفتها: توضح العلاقات بين الفرضيات، والتجارب، والنتائج، والاستنتاجات.
  • مثال في التشخيص الطبي: (كما ذكر باسك) لفهم "مرض الغدة الدرقية"، يجب فهم العلاقة بين "مستوى تناول اليود" (متغير) و "نشاط الغدة" (نتيجة).

​إن عملية "جعل المعرفة واضحة" (Teachback) هي، في جوهرها، محاولة المتعلم لرسم أو شرح جزء من "هيكل الاستلزام" هذا.

​ أهم مساهمات باسك: الشموليون (Holists) والمسلسلون (Serialists)

​ربما يكون الإرث الأكثر ديمومة لنظرية المحادثة في علم النفس التربوي هو تحديدها لأسلوبين أساسيين في التعلم. خلال تجاربه، لاحظ باسك أن الطلاب، عند مواجهتهم بـ "هيكل استلزام" جديد، يميلون إلى التعامل معه بإحدى طريقتين متميزتين:

​[صورة توضيحية تباين بين المسار الخطي (مسلسل) والمسار المتشعب (شمولي)]

​ 1. المتعلمون المسلسلون (Serialists)

  • من هم؟ المسلسلون هم متعلمون "من أسفل إلى أعلى" (Bottom-up). إنهم يفضلون اتباع مسار خطي ومنظم.
  • كيف يتعلمون؟
    • ​يركزون على خطوة واحدة في كل مرة.
    • ​يبنون فهمهم بالطريقة "القياسية" (Procedural)، حيث يتقنون كل مفهوم فرعي قبل الانتقال إلى المفهوم التالي.
    • ​يفضلون التركيز على التفاصيل والعلاقات المنطقية البسيطة والمباشرة.
    • ​عندما يُعرض عليهم هيكل الاستلزام (الخريطة الكاملة)، قد يشعرون بالارتباك ويفضلون التركيز على "المسار" (Path) الأكثر وضوحاً عبر الخريطة.
  • نقاط الضعف: قد ينجحون في اتباع الخطوات لكنهم يفشلون في رؤية "الصورة الكبيرة". قد لا يفهمون كيف ترتبط جميع الأجزاء معاً أو لماذا يفعلون ما يفعلونه (ضعف في المستوى الفوقي L-Meta).

​ 2. المتعلمون الشموليون (Holists)

  • من هم؟ الشموليون هم متعلمون "من أعلى إلى أسفل" (Top-down). إنهم بحاجة لرؤية "الصورة الكبيرة" أولاً.
  • كيف يتعلمون؟
    • ​يحتاجون إلى فهم الإطار العام أو "هيكل الاستلزام" كاملاً قبل الغوص في التفاصيل.
    • ​يقفزون بين المفاهيم، ويحاولون بناء شبكة واسعة من العلاقات والفرضيات.
    • ​يستخدمون القياس (Analogy) والاستدلال (Inference) لربط الموضوع الجديد بمعارفهم السابقة.
    • ​يتعلمون بشكل أفضل عندما يتم منحهم الحرية لاستكشاف الخريطة بأنفسهم بدلاً من إجبارهم على اتباع مسار واحد.
  • نقاط الضعف: قد يكون لديهم فهم عام ممتاز للموضوع، لكنهم يرتكبون أخطاء في التفاصيل الإجرائية. قد يقفزون إلى استنتاجات غير مدعومة بأدلة كافية لأنهم "شعروا" أنها صحيحة.

​اللامطابقة (Mismatch) والمتعلم المتنوع (Versatile Learner)

​اكتشف باسك أن المشكلة الكبرى في التعليم التقليدي هي "اللامطابقة" (Mismatch).

  • معلم مسلسل + طالب شمولي: يشعر الطالب بالملل والتقييد. يقول المعلم: "انسَ الصورة الكبيرة الآن، فقط ركز على هذه الخطوة". يرد الطالب: "لا أستطيع التركيز على الخطوة إن لم أعرف إلى أين هي ذاهبة!".
  • معلم شمولي + طالب مسلسل: يشعر الطالب بالضياع والإرهاق. يقول المعلم: "كل شيء مرتبط ببعضه البعض!" يرد الطالب: "أرجوك، فقط أخبرني ما هي الخطوة الأولى!".

الهدف النهائي عند باسك ليس تفضيل أسلوب على آخر، بل الوصول إلى "المتعلم المتنوع" (Versatile Learner). هذا هو المتعلم الذي يتقن "التنقل" بين الأسلوبين. يمكنه التركيز على التفاصيل (مسلسل) عند الحاجة، ويمكنه التراجع لرؤية الصورة الكبيرة (شمولي) لربط المفاهيم.

​ تطبيقات نظرية المحادثة: من السبعينيات إلى اليوم

​على الرغم من أن نظرية باسك تبدو مجردة، إلا أن لها تطبيقات عملية عميقة، وكان باسك نفسه رائداً في تطبيقها.

​ 1. أنظمة التدريس التكيفية (Adaptive Tutoring Systems)

​كان باسك سباقاً لعصره. في السبعينيات، طور أنظمة كمبيوتر (مثل CASTE - Course Assembly System and Tutorial Environment) يمكنها:

  1. تشخيص أسلوب تعلم الطالب (مسلسل أم شمولي).
  2. تقديم "هيكل الاستلزام" (المادة الدراسية) بطريقة تناسب أسلوبه.
  3. إجبار الطالب على ممارسة "الشرح العكسي" (Teachback) لضمان الفهم.
  4. تشجيع المتعلم "المسلسل" على استكشاف علاقات أوسع، وتشجيع "الشمولي" على التركيز على الإجراءات الدقيقة، لدفع كلاهما نحو "التنوع".

​2. التطبيقات الكلاسيكية (الإحصاء والطب)

  • تعلم الإحصاء (الاحتمالات): كما ذكر باسك (1975)، بدلاً من مجرد إعطاء الطالب معادلات، يتم تقدين "هيكل استلزام" يوضح كيف ينبني مفهوم "التوزيع" على مفهوم "الاحتمالية"، الذي ينبني بدوره على "النظرية المجموعاتية".
  • التشخيص الطبي (أمراض الغدة الدرقية): هذا هو المثال التجريبي. يتم تشجيع الطالب (الطبيب المتدرب) على "اللعب" بالنموذج. يتم تغيير قيم المعلمات للمتغير (مثل مستوى تناول اليود) ودراسة التأثيرات على "نشاط الغدة". هذه "محادثة" مع نظام محاكاة، يتعلم فيها الطالب علاقات السبب والنتيجة.

​ 3. التصميم التعليمي الحديث (Instructional Design)

​اليوم، أفكار باسك هي في صميم التصميم التعليمي الفعال:

  • التعلم القائم على الاستقصاء (Inquiry-based Learning): هو تطبيق مباشر لأسلوب "الشموليين"، حيث يُعطى الطلاب مشكلة كبيرة ويستكشفون بأنفسهم.
  • التعلم المبرمج (Programmed Instruction): هو تطبيق لأسلوب "المسلسلين"، حيث يتم تقسيم المادة إلى خطوات صغيرة.
  • التعلم التكيفي (Adaptive E-Learning): أنظمة التعلم الحديثة التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتعديل مسار التعلم بناءً على أداء الطالب هي التنفيذ الحديث لأنظمة CASTE التي حلم بها باسك.

​مبادئ نظرية المحادثة (ملخصة)

​بناءً على كل ما سبق، يمكن تلخيص المبادئ الأساسية لنظرية المحادثة لجوردون باسك كالتالي:

  1. التعلم يتطلب فهماً (Learning Requires Understanding):
    • ​لتعلم موضوع ما، يجب على الطلاب أن يتعلموا "العلاقات" بين المفاهيم (هيكل الاستلزام)، وليس فقط حفظ الحقائق المعزولة.
  2. الفهم يتطلب الشرح (Understanding Requires Explanation):
    • ​إن الشرح الصريح أو التلاعب بالموضوع ("الشرح العكسي" أو Teachback) هو الآلية الأساسية التي تسهل الفهم وتجعله دائماً.
  3. الناس يختلفون في كيفية بناء الفهم (People Differ in Building Understanding):
    • ​يختلف الأفراد في أسلوبهم المفضل في تعلم العلاقات (المسلسلون الذين يبنون خطياً، مقابل الشموليين الذين يبنون شبكياً).
  4. التعليم الفعال يجب أن يكون تكيفياً (Effective Teaching Must Be Adaptive):
    • ​يجب أن تكون "المحادثة" التعليمية قادرة على التكيف مع أسلوب المتعلم، وفي نفس الوقت "تحديه" لتبني الأسلوب الآخر، بهدف الوصول إلى "التنوع" (Versatility).

​ نقد وتقييم نظرية المحادثة

​رغم عمقها وتأثيرها، واجهت نظرية باسك انتقادات، وهي ليست حلاً سحرياً لجميع مشاكل التعلم.

  • التعقيد الشديد (Overwhelming Complexity):
    • ​يُعد بناء "هيكل استلزام" كامل ومفصل لأي موضوع معقد (مثل الفيزياء أو التاريخ) مهمة صعبة للغاية وتستغرق وقتاً طويلاً. هذا التعقيد جعل تطبيقها النقي نادراً.
  • التبسيط الثنائي (Binary Simplification):
    • ​انتقد البعض تقسيم المتعلمين إلى "مسلسل" أو "شمولي" باعتباره تبسيطاً مفرطاً. في الواقع، يقع معظم الناس في مكان ما على طيف بين الاثنين، وقد يتغير أسلوبهم بناءً على الموضوع نفسه (قد يكونون شموليين في الأدب ومسلسلين في الرياضيات).
  • التكلفة التقنية (Technological Cost):
    • ​في السبعينيات والثمانينيات، كانت الأنظمة الحاسوبية اللازمة لتطبيق نظرية باسك (مثل CASTE) باهظة الثمن ومقيدة. اليوم فقط، مع الذكاء الاصطناعي الحديث، أصبحنا نملك القوة الحاسوبية لتحقيق رؤيته.

​خاتمة: إرث جوردون باسك في عصر الذكاء الاصطناعي

​كان جوردون باسك سابقاً لعصره بعقود. لقد قدم نظرية للتعلم لم تكن مجرد وصف نفسي، بل كانت "مخططاً هندسياً" لبناء أنظمة تعلم ذكية.

​تكمن عبقرية نظرية المحادثة في أنها تعاملت مع التعلم بجدية، كعملية "بناء" نشطة وليست "تلقي" سلبي. لقد أدركت أن الفهم الحقيقي لا يكمن في ما تعرفه، بل في قدرتك على "شرح" ما تعرفه، وفي قدرتك على "ربط" ما تعرفه بما لا تعرفه بعد.

​اليوم، ونحن على أعتاب ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي، تبدو أفكار باسك حول "المحادثة" بين الإنسان والآلة من أجل التعلم، وحول "هياكل الاستلزام" (التي تشبه إلى حد كبير "قواعد المعرفة" الحديثة)، أكثر أهمية من أي وقت مضى. لقد قدم لنا باسك خريطة طريق ليس فقط لفهم التعلم البشري، ولكن لتصميم مستقبل التعلم نفسه.

مراجع:

  • ​باسك ج. (1975). المحادثة والإدراك والتعلم. نيويورك: إلسفير. (Pask, G. (1975). Conversation, cognition and learning. New York: Elsevier.)
  • ​Pask, G. (1976). Conversation Theory: Applications in Education and Epistemology. Amsterdam: Elsevier.

إقرأ أيضا:

تعليقات