كيف يمكن التمييز بين العلم والفلسفة؟
كيف يمكن التمييز بين العلم والفلسفة؟ |
المقدمة:
لم تكن الفلسفة تشير الي مفهوم خاص بل انها كانت تشير الي حب الاستطلاع وكانت تعني جهد يقوم به العقل من اجل زيادة صاحبه بالمعارف الجديدة وبذلك تكون الفلسفة مرادفة للعلم ولعل ذلك واضح في فلسفة ارسطو الذي يطابق فيها بين الفلسفة والعلم فقد كتب عن الطبيعيات وكتب عن جميع انحاء المعرفة البشرية كما كتب عن التاريخ الطبيعي خمسة كتب في الحيوان وكتب في النباتات والرياضيات والفلك ومن كتبه الفلسفية ما بعد الطبيعة والسياسة والاخلاق وكذلك المنطق الذي اعتبره مقدمة او مدخلا للفلسفة والعلم كما انه انشأ متحفا بجوار مدرسته ولعل ما جعل جورج سارتون اعظم مؤرخي العلم: يقول ان تاريخ ارسطو ليس استعراضا لتاريخ الفلسفة فحسب بل لتاريخ العلم ايضا علي الاقل حتي القرن18 .وكانت كلمة الفلسفة تشير الي المعرفة العلمية وكانت مرادفة للعلم بمعناه العام ويثبت تاريخ الفكر الانساني ان العلاقة بين الفلسفة والعلم القديم اذ ان المحاولات العلمية كانت في الغالب ممزوجة بالفلسفة وكذلك المحاولات والافكار الفلسفية كانت متفاعلة تفاعلا كبيرا مع العلم كما انه لا بد لبناء نظرية علمية والتثبت من صحتها من افكار ومفاهيم ومنطلقات فلسفية واهتمت الفلسفة بدراسة الطبيعة وكانت ميدان العلم وموضوعه الاول ونشأ العلم من ثنايا فلسفة الطبيعة ثم ساعد علي ازدهارها بعد نشأته.
ويتناول هذا الموضوع عدة عناصر وهما:
1-علاقة الفلسفة بالعلم
2-اوجه الاختلاف بين الفلسفة والعلم
3-انفصال الفلسفة والعلم
4-العلم يزيح الفلسفة
اولا- علاقة الفلسفة بالعلم:
علي الرغم من الاختلاف الكبير من الفلسفة والعلم فهناك صلات وثيقة ترتبط بينها فالفلسفة بغير علم عاجزة انها في حاجة للمعارف المكتسبة بالملاحظة ولو توقف هذا المدد فأنها تتجمد لكن العلم ايضا بغير فلسفة توجهه ستكون رؤيته غير وان الفلسفة تمده بالأسس والمناهج والعلاقات والقدرة علي الربط والتعليل والشمول وبدونها سيظل اشتاتا متفرقة واوصالا مقطعة لا رابط بينها.
وعليه يمكن القول ان العلم يغذي الفلسفة بنتائج اختباراته والفلسفة تمده بالنظرة الكلية الشاملة ولا شك ان تعاون العلم والفلسفة قد ادي الي تقدم العلم ونضج المذاهب الفلسفية واطراد النمو في الفكر والحضارة (1)ومن ثم لا ينبغي لم يشتغل بالعلو التجريبية الابتعاد عن مسائل الفلسفة.
فهذا اينشتاين وهو واحد من اعظم الرجال المبدعين في فيزياء القرن العشرين نجده يثني علي الفلسفة وقد لاحظ مؤرخي العلم ان التغييرات الاساسية التي تحدث فيه كانت دائما مقترنة بالتعمق في الاسس الفلسفية فالانتقال من النظام البطليموسي الي النظام الكوبرنيكي والتحول من الهندسة الاقليدية الي الهندسة الغير الاقليدية او من الميكانيكا النيوتينية الي الميكانيكا النسبية والي الفضاء المنحني والرباعي الابعاد كل ذلك استند فيه العلماء الي التأمل الفكري قبل ان يصاغ في معادلات رياضية ويتضح من كل هذه الاعتبارات ان علي كل من ينشد فهما مقبولا لعلوم القرن العشرين ان يكون ملما بقدر كبير من الفكر الفلسفي(2) ولو استعرضنا كتاب استيفن هوكينج وهو وريث كرسي نيوتن سنجده يذكر الكثير من الفلاسفة اليونان في كتبه مذكرا بأسهاماتهم في محاولة فهم الكون(3).
1-محمد عبد الرحمن, ص52-53,2001م
2-فليب فرانك, ص 8-7, 1983م
3-ستيفن هوكينج, ص15, 2006م
ثانيا: اوجه الاختلاف بين العلم والفلسفة:
من اوجه الاختلاف بين العلم والفلسفة اختلافهما من حيث الموضوع والمنهج والغاية فأذا كان موضوع الفلسفة هو الميتافيزيقيا والتي تعني ما بعد الطبيعة اي المواضيع المجردة والخاضعة للتأمل مثل: الحرية والديموقراطية والروحانية والقضاء والقدر.
والعلم هو الفيزيقا اي المواضيع المحسوسة مثل: المادة والذرة والجماد .
واختلافهما في الموضوع يحيل بنا الي التأكيد علي منهج كل منهما فالفلسفة تعتمد علي المنهج التأملي العقلي اذ الفيلسوف يعتمد علي الاستنتاج الذي هو عملية عقلية ينتقل فيها الفكر من العام الي الخاص بينما العلم فيعتمد علي المنهج التجريبي الذي يتشكل من:
الملاحظة: هي عبارة عن مشاهدة لظاهرة ومتابعة لكل مراحلها وتتميز الملاحظة العلمية بما يلي:
-تتجاوز مجرد المشاهدة فهي انتباه وتركيز وادراك عقلي.
-مجهزة بأجهزة علمية تعتبر امتدادا لحواس البحث.
-تعتمد علي التقدير الكمي وقد تكون كمية.
-موضوعية تنقل الواقع كما هو بعيدة عن الاختبارات الشخصية والذاتية.
والفرضية: هي تلك الفترة التي يقدمها العالم انطلاقا من ملاحظاته وهي تفسير مؤقت لظاهره فهي ظن وتخمين او مشروع قانون يحدد لنا الكيفية التي سوف يتم بها الاجراء التجريبي ولكي تكون الفرضية علمية يجب احترام ما يلي:
-ان تكون قابلة لتحقق تجريبي.
-الا تحتوي علي تناقض داخلي وان لا تتعارض مع ما اقره العلم بصورة مطلقة.
-فالرياضي لوفيري اكتشف كوكب اورانوس ففسر ذلك بوجود وافتراض كوكب غير معروف فحدد موقعه وكتلته وابعاده واخيرا القانون العلمي الذي هو المرحلة النهائية لما وصل اليه العالم من خلال الخطوات الاولي للتجريب وهو يمتاز بكونه قانون عام وشامل يصدق علي جميع العناصر الجزئية الاخري.
4-محمد مهران, ص172, 1998م
رابعا- انفصال العلوم عن الفلسفة:
ومع انفصال العلوم عن الفلسفة الا انه لا يمكننا فهم فلسفة العصر الحديث والتي جاءت عقب عصر النهضة الا في ضوء النظريات العلمية التي علل بها جاليليو ولن نستطيع ان نفهم فلسفة هيوم او فلسفة كانط الا في ضوء اراء نيوتن في العلم كما ان الفلسفة المعاصرة جاءت متأثرة في رفضها للأحكام المطلقة بنظرية النسبية لأينشتين. واما في القرن اعشرين فقد تعددت الاتجاهات الفلسفية واختلفت وجهات نظر المفكرين الي العلاقة بين العلم والفلسفة علي الرغم من قيام بعض الحملات العنيفة علي التفكير الفلسفي فضلا عن ازدهار العلوم وانفصال بعض الدراسات العلمية عن الفلسفة وقد شهد القرن العشرون انفصال كل من علم النفس وعلم الاجتماع عن الفلسفة وان كان التفسير الفلسفي قد ظل يستوحي الكثير من الدراسات النفسية والاجتماعية كما ان الفلاسفة انفسهم قد ظلوا يغدون كلا من علم النفس وعلم الاجتماع بالكثير من الملاحظات القيمة والدراسات العميقة. ولئن كان عصرنا الحاضر قد حفل بالكثير من الملاحظات التيارات العنيفة المعادية للفلسفة وفي مقدمتها جميعا حركة" الوضعية المنطقية" التي حمل لواءها وليم جيمس وجون ديوي والنزعة الحيوية التي عبر عنها دلتاي وبرجسون والنزعة الفنومنولوجية التي اقترنت باسم "هوسلر وماكس شلر" والنزعات الوجودية العديدة التي عبر عنها في المانيا هيدجروكارل يسبرز وفي فرنسا كل من جبريل مارسل وجان بول سارتر وميرلوبونتي وبعد ان كان الوضعويون في القرن الماضي يظنون ان اختلاف الفلاسفة فيما بينهم سوف يؤدي الي القضاء نهائيا علي الفلسفة بديل وفرة الانتاج الفلسفي المعاصر وتعدد التيارات الفكرية .(5)
كان العالم اسحاق نيوتن من اوائل العلماء الذين كان لهم دور كبير في تراجع الفلسفة وابراز العلم فهو اول من اعتمد علي منهجية علمية مفصولة كليا عن الفلسفة في دراسة الظواهر والتوصل الي النظريات والقوانين واثباتها فبعد اكتشافه قوانين الجاذبية الارضية التي تعد من ابرز انجازاته وضح كيفية التوصل اليها من خلال اشتقاق المعدلات الرياضية دون اي تدخل للفلسفة ثم انتشرت منهجية نيوتن بين الفلاسفة في عصر التنوير وهنا تم فصل العلم عن التنوير وهنا تم فصل العلم عن الفلسفة بشكل كامل واصبحت الفلسفة في طي النسيان مع عدم انكار ان الفلسفة هي السبب الاول والرئيسي الذي ادي الي ظهور العلم. (6)
5-ا.د.محمد محي الدين احمد, د.نجوي مصطفي, ص 85-86, 2020م 6-سام دريسر, 2019
خامسا- العلم يزيح الفلسفة:
العلم في العصر الحديث بعد ان كان متحالفا مع الفلسفة بغرض التخلص من سيطرة الدين والتمكن من نشر المعرفة العلمية بكل حرية وفق ما يظهره العلماء والباحثين ودون شرط المصادقة الدينية واخضاع احكام العلم وقوانينه الي شريعة الدين.
اذن فالعلم كان ذو مسعي متعدد ليس حرية البحث وتلك هي الاواء الضرورية للقيام بالبحوث والدراسات من دون عوائق والاهم من هذا هو التعبير عن نتائج الابحاث ايضا بكل حرية ودون ضغوط من اية جهة كانت اجتماعية او سياسية وخاصة الدينية التي حاولت لقرون فرض سلطان قوتها ومشروعيتها علي العقول ورأي العلم ان قول الحقيقة لا بد ان يمر حتما غبر سلطة العقل وحده فلا سلطة للعقل علي العقل الا العقل نفسه وهنا بدا التحالف جليا بين العلم والفلسفة في عصر الانوار وبعده. في عصر النهضة والانوار بدأ التحالف جليا بينهما لما بدا ان الانسان في صراع مع الطبيعة ويجب ان يخضعها لسلطانة ولسيطرته وليتمكن من ذلك ينبغي ان يستخدم عقله ويقرا الطبيعة بمفاتيح العلم وبالخصوص الرياضيات. ولقهر الطبيعة يجب فهمها وحتي يحصل ذلك لا بد من قراءتها بلغة كمية مثلما اتضح ذلك منذ بيكون علي الاقل.
غير ان العلم الذي بدا يكتسب ثقة الاذهان وينتشر عبر مؤسسات البحث والاكاديميات والجامعات والاكثر من ذلك انه تشكل كسلطة في تنظيم الحياة في كل مجالاتها عرف افراطا اخر حينما اغتر بهذه الثقة وهذه السلطة الجديدة وبدأ في ايجاد خطاب مضاد للفلسفة لاسيما مع الوضعيين الكلاسيكيين ومعهم فيما بعد الوضعيين الجدد وكل التيارات المعادية للميتافيزيقيا وهي جوهر الفلسفة تعيق العلم وتثبط تقدمه وبالتالي فينبغي ترويض او تهجين الفلسفة وجعلها تابعة, ثانوية خاضعة للعلم وخطاباته. ليس لها من وظيفة الا في ذلك الاطار الضيق الذي يترك لها العلم او ما ارتضاه لأنفسهم بعض الفلاسفة الذين دعوا الي فلسفات علمية متأثرين بالعلم كنموذج ومثال يجب علي باقي اشكال المعرفة البشرية ان تنسج علي منواله. بل لقد اصبح العلم دينا جديدا ونموذجيا جديدا ايضا للمعرفة.
حرص العلم الحديث كما تبلور ابتداء من القرن الثامن علي ان يأخذ طابع اجرائيا وحتي يكون كذلك توجب علي ان يخضع للقياس ولن يكون هناك للقياس ما لم يكن هناك تكميم وفي هذا توكيد علي جانب التحديد في كل المفاهيم التي سيستند اليها العلم وهذا بالضبط مع حصل مع فكرة التعريف الاجرائي التي يعتبرها ايلمو اكتشافا مهما. (7)
7-د.نابي بوعلي, ص156-157 , 2012
الخاتمة
ان مصطلح فلسفة العلم يثير فينا تساؤلا عن العلاقة بين الفلسفة والعلم فهل تعتبر علاقة تفاعل متبادل ام صراع؟ فلو حاولنا الاجابة عن هذه الاسئلة نجد في تاريخ الفلسفة تفاعلا مستمرا بين الحقائق العلمية والتفكير الفلسفي, بل ان الحقائق العلمية كثيرا ما كانت مادة للتأمل الفلسفي لمعرفة حقائق الاشياء ولوضع نظريات فلسفية في الكون والانسان, فتأملات المدرسة الطبيعية الاولي ومحاولتها لتفسير الطبيعة استند في الاساس علي حقائق علمية واتجهت الفلسفة عند المحدثين عامة الي البحث في المعرفة ومعرفة وجود توطئة لفهم طبيعتها وتحديد ادواتها والاطمئنان الي مدي مكان قيامها وجعل البعض المعرفة الشاملة لمبحث الوجود فتناولوا الوجود من خلال المعرفة فاتصلت المشكلة الوجودية بالمشكلة الايستمولوجية ومع انفصال العلوم عن الفلسفة الا انه لا يمكننا فهم فلسفة العصر الحديث والتي جاءت عقب عصر النهضة الا في ضوء النظريات العلمية التي علل بها جاليليو ولن نستطيع ان نفهم فلسفة هيوم او فلسفة كانط الا في ضوء آراء نيوتن في العلم كما ان الفلسفة المعاصرة جاءت متأثرة في رفضها للأحكام المطلقة بنظرية النسبية لأينشتين ولكي تتضح العلاقة المتبادلة بين الفلسفة والعلم لابد وان نشير اولا الي انماط التفكير بصفة عامة وخصائص كل نمط من هذه الانماط بدءا من تفكير رجل الشارع وخصائصه للتنقل الي الفروق بين خصائص التفكير العلمي والتفكير الفلسفي ويحتاج الانسان في تواصله مع العالم الخارجي الي أليات تمكنه من ترجمة عالمه الداخلي المتمثل في الفكر حيث ان الفكر هو الحياه الخاصة التي من خلالها يتطلع الانسان الي تأمل واقعه المعاش ويحلله حيث يتميز التفكير الانساني بشكل عام بتعدد مبادئه وتنوع مناهجه منها التفكير العلمي الذي هو كم متميز من الدراسة النظرية للواقع محاولا معرفة الشروط والقوانين المتحكمة فيه وقد كان لهذا التفكير الدور البارز في انتقال الانسان من طور التوحش والبداوة الي دور التقدم والحضارة الي ان التفكير الفلسفي هو الآخر مثل خصوصية الانسان وميز وجوده الفاعل في الكون باعتباره كائنا مفكرا ومتأملا في الوجود مما ادي بالبعض الي النظر الي العلم علي انه نتيجة من نتائج التفكير الفلسفي غير ان مفهومي العلم والفلسفة يدفعاننا الي بحث العلاقة بينهما ونستنتج ان بين الفلسفة والعلم علاقة تكامل وظيفي من حيث ان كل منهما يستجيب لدواعي فكرية وذهنية تميز الوجود الانساني الفاعل من حيث هو كائن مفكر.
المرجع
1-محمد عبد الرحمن مرحبا: مع الفلسفة اليونانية, منشورات عويدات, 1988م
2-فليب فرانك: فلسفة العلم, الصلة بين العالم والفلسفة, المؤسسات العربية للدراسة والنشر, 1983م
3-ستيفن هوكينج: تاريخ موجز للزمن, ترجمة مصطفي ابراهيم فهمي, الهيئة المصرية الامة للكتاب, 2006م
4-محمد مهران: تطور الفكر الخلقي في الفلسفة الغربية, دار القباء, 1988م
5-ا.د.محمد محي الدين احمد, د.نجوي مصطفي: دراسات فلسفية, اداب المنيا, 2020م
6-سام دريسير: فلسفة طبيعية, 2019م
7-نابي بوعلي: حوار الفلسفة والعلم, منشورات الاختلاف, 2012 م