📁 آخر الأخبار

ما هو الفرق بين المشكلة والإشكالية في البحث العلمي؟ دليل الباحث المفصل

 ما هو الفرق بين المشكلة والإشكالية في البحث العلمي؟ دليل الباحث المفصل

تحليل شامل ودقيق يوضح الفرق بين المشكلة والإشكالية في البحث العلمي. اكتشف كيف تُبنى الإشكالية من المشكلة، وتعلّم صياغة كل منهما، وتأثير هذا التمييز على منهجية بحثك.

مقدمة: حجر الزاوية في البحث الرصين

​في عالم البحث العلمي، تُعتبر دقة المصطلحات هي البوصلة التي توجه الباحث. ومن بين هذه المصطلحات التي تثير الكثير من الخلط، خاصة لدى الباحثين المبتدئين، يبرز المصطلحان الجوهريان: "المشكلة" (Problem) و**"الإشكالية" (Problematic)**.

​قد يبدو هذا التمييز ترفاً أكاديمياً، لكنه في الواقع يمثل الفرق الحاسم بين البحث السطحي والبحث العميق، وبين التقرير البسيط والمساهمة العلمية الأصيلة. الفشل في التمييز بينهما هو أحد الأسباب الرئيسية لضعف العديد من الرسائل العلمية.

​على الرغم من أن المصطلحين قد يبدوان متشابهين للوهلة الأولى، إلا أنهما يحملان دلالات مختلفة جوهرياً ويُستخدمان في سياقات متباينة. إذا كانت المشكلة هي "الظاهرة" المحددة التي نراها ونريد حلها، فإن الإشكالية هي "الإطار النظري" و"النقاش الفكري" الذي يحيط بهذه الظاهرة ويمنحها معنى.


المقارنة بين المشكلة والإشكالية: فهم الفروق وتأثيراتها
المقارنة بين المشكلة والإشكالية: فهم الفروق وتأثيراتها.

​في هذا المقال المفصل، سنتعمق في فهم الفرق بين المشكلة والإشكالية، وكيف تنبثق الثانية من الأولى، وكيفية صياغة كل منهما، مع التركيز على التأثير العميق لهذا التمييز على بناء خطة البحث واختيار المنهجية المناسبة.

الجزء الأول: تعريف المشكلة البحثية (The Research Problem)

​لفهم الإشكالية، يجب أن نبدأ من نقطة انطلاقها: المشكلة.

1.1 ما هي المشكلة؟ 

​المشكلة في البحث العلمي، في أبسط صورها، هي فجوة (Gap). إنها حالة من عدم الرضا، أو التوتر المعرفي، أو النقص، أو الغموض الناتج عن وجود فجوة بين "الواقع الحالي" (ما هو كائن) و"الوضع المأمول" (ما يجب أن يكون).

  • ​قد تكون هذه الفجوة معرفية: نقص في المعلومات حول ظاهرة معينة (مثل: لا نعرف تأثير دواء جديد).
  • ​قد تكون عملية: وجود وضع سلبي يحتاج إلى حل (مثل: ارتفاع معدلات البطالة).
  • ​قد تكون تناقضاً: وجود نتائج متضاربة في الدراسات السابقة حول نفس الموضوع.

​المشكلة هي "السؤال" المحدد الذي يطرحه الباحث ويسعى للإجابة عليه. إنها "العَرَض" الواضح الذي يستدعي التشخيص.

1.2 خصائص المشكلة البحثية الجيدة 

​لا تصلح كل مشكلة لتكون بحثاً علمياً. لكي تكون المشكلة جديرة بالبحث، يجب أن تتسم بالآتي:

  • الواقعية والأصالة (Realistic & Original): يجب أن تكون المشكلة مستمدة من الواقع (سواء كان واقعاً تجريبياً أو نظرياً) وألا تكون مجرد تكرار كامل لبحوث سابقة.
  • الوضوح والتحديد (Clear & Specific): يجب أن تكون المشكلة محددة وواضحة، بحيث يمكن صياغتها في شكل سؤال بحثي دقيق لا يحتمل التأويل.
  • الأهمية (Significant): يجب أن تكون المشكلة ذات أهمية علمية (تضيف للمعرفة) أو عملية (تحل قضية مجتمعية).
  • القابلية للبحث (Researchable): يجب أن تكون المشكلة قابلة للدراسة. أي يمكن جمع بيانات حولها وتحليلها للوصول إلى نتائج. لا يمكن "بحث" سؤال ميتافيزيقي بحت لا يمكن اختبار متغيراته.

1.3 أمثلة على "مشكلات" بحثية

​لاحظ كيف أن هذه الأمثلة كلها "محددة" و"قابلة للقياس" و"جزئية":

  • ​ما هو تأثير استخدام منصات التواصل الاجتماعي (المتغير المستقل) على مستوى التحصيل الدراسي (المتغير التابع) لدى طلاب المرحلة الثانوية؟
  • ​ما هي أسباب ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب الحاصلين على شهادات جامعية في دولة معينة؟
  • ​كيف يمكن تحسين جودة الخدمات الصحية في المدارس الريفية للحد من انتشار أمراض سوء التغذية؟
  • ​ما هي العوامل المؤثرة في انخفاض معدلات الإنتاجية في قطاع الصناعات الصغيرة والمتوسطة؟
  • ​ما هي درجة فعالية برنامج تدريبي معين في تطوير مهارات الموظفين؟

الجزء الثاني: تعريف الإشكالية (The Problematic) 

​هنا يكمن العمق الأكاديمي. الإشكالية ليست مجرد "مشكلة كبيرة"، بل هي من طبيعة مختلفة تماماً.

2.1 ما هي الإشكالية؟ 

​الإشكالية (من المصطلح الفرنسي Problématique) هي "فن طرح المشكلات". إنها ليست السؤال، بل هي السياق النظري والفكري الذي يجعل هذا السؤال مهماً وذا معنى.

​الإشكالية هي البناء المنطقي والعقلي الذي يشيده الباحث حول "المشكلة". إنها الإطار العام الذي يضم مجموعة من التساؤلات والقضايا المتشابكة التي تدور حول موضوع معين وتتطلب تحليلًا عميقًا.

ببساطة:

  • المشكلة تسأل: "ماذا؟" (ما هي الظاهرة؟).
  • الإشكالية تسأل: "لماذا هذا السؤال مهم؟" و "من أي زاوية نظرية سأدرسه؟".

2.2 الإشكالية كإطار نظري ونقاش فكري 

​هذا هو جوهر الفرق. "المشكلة" الواحدة (مثل "البطالة") يمكن أن تُدرس من خلال "إشكاليات" مختلفة تماماً:

  • المشكلة: "ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب".
  • إشكالية اقتصادية (نيو-ليبرالية): قد تطرح السؤال في إطار "فشل مخرجات التعليم في مواكبة متطلبات سوق العمل"، وبالتالي تبحث في إصلاح المناهج.
  • إشكالية اجتماعية (ماركسية): قد تطرح السؤال في إطار "عجز النظام الرأسمالي بنيوياً عن خلق وظائف كافية"، وبالتالي تبحث في طبيعة النظام الاقتصادي.
  • إشكالية سوسيولوجية (بورديو): قد تطرح السؤال في إطار "إعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي"، حيث لا يحصل على الوظائف إلا من يمتلك "رأس المال الاجتماعي" (الواسطة) و"الثقافي"، بغض النظر عن الشهادة.

​لاحظ أن "المشكلة" واحدة، لكن "الإشكالية" (الإطار النظري والجدل الفكري) مختلفة تماماً، وهذا سيغير مسار البحث بالكامل. الإشكالية هي التي تحول البحث من "وصف ظاهرة" إلى "المشاركة في حوار علمي قائم".

2.3 خصائص الإشكالية البحثية

  • التشابك والتركيب: تتكون الإشكالية من عدة عناصر وقضايا نظرية وعملية مترابطة.
  • العمق النظري: لا تُبنى الإشكالية من فراغ، بل تستند بقوة إلى مراجعة نقدية للدراسات السابقة (Literature Review) وتحدد موقع الباحث من النظريات القائمة.
  • الشمولية: هي أوسع نطاقاً من المشكلة، فهي تمثل "الحقل الفكري" الذي تنبت فيه "المشكلة".
  • الجدلية (Dialectical): الإشكالية غالباً ما تطرح توتراً أو نقاشاً بين منظورات مختلفة (كما في مثال البطالة أعلاه).

2.4 أمثلة على صياغة "إشكاليات" 

​لاحظ كيف أن هذه الأمثلة "تؤطر" المشكلة داخل نقاش نظري:

  • ​(بدلاً من "ما أثر التحول الرقمي؟") ... "في ظل النقاش الدائر حول تأثيرات الحداثة السائلة، كيف يعيد التحول الرقمي تشكيل مفهوم الهوية الثقافية والترابط الاجتماعي، وما هي حدود النظرية البنائية في تفسير هذه الظاهرة المستجدة؟"
  • ​(بدلاً من "ما أسباب عدم استقرار الأسرة؟") ... "أمام تزايد العوامل الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة، إلى أي مدى يمكن تفسير التحولات الراهنة في بنية الأسرة العربية كأزمة بنيوية أم كشكل من أشكال التكيف الوظيفي مع متطلبات المجتمع الحديث؟"
  • ​(بدلاً من "كيف تؤثر التغيرات المناخية على الأمراض؟") ... "ما هي طبيعة العلاقة الجدلية بين أنماط التوسع الحضري غير المخطط والتغيرات المناخية، وكيف يساهم هذا التفاعل في خلق بؤر جديدة لانتشار الأمراض المعدية، متجاوزاً التفسيرات الوبائية التقليدية؟"

الجزء الثالث: العلاقة الجدلية: كيف تنبثق الإشكالية من المشكلة؟ 

​من الخطأ الاعتقاد بأنهما منفصلان. الإشكالية هي عملية "أشكلة" (Problematization) للمشكلة.

  1. تبدأ بالمشكلة (الخام): يبدأ الباحث بملاحظة "مشكلة" في الواقع (مثال: "تراجع القراءة عند الشباب").
  2. القراءة الاستكشافية: يقرأ الباحث ليكتشف أن هذه "المشكلة" ليست بسيطة.
  3. بناء الإشكالية (الصقل): يكتشف الباحث أن هناك "نقاشاً" حولها:
    • ​هل السبب هو "التكنولوجيا" (إشكالية الحتمية التكنولوجية)؟
    • ​أم هو "فشل نظام التعليم" (إشكالية بيداغوجية)؟
    • ​أم هو "تغير في طبيعة المعرفة نفسها" حيث أصبحت "سمعية وبصرية" بدلاً من "مكتوبة" (إشكالية إبستمولوجية)؟
  4. النتيجة: الباحث الآن "بنى إشكاليته". هو لا يبحث "تراجع القراءة" بشكل عام، بل يبحثها من خلال "إشكالية" محددة (مثلاً: "إلى أي مدى يمثل تراجع القراءة المكتوبة أزمة معرفية أم مجرد تحول في وسائط المعرفة تماشياً مع العصر الرقمي؟").

​من هنا، الإشكالية هي التي "تولد" الأسئلة الفرعية الدقيقة للبحث.

الجزء الرابع: أهمية التمييز بين المشكلة والإشكالية 

​لماذا كل هذا الجهد للتمييز بينهما؟ لأن الفهم الدقيق يؤثر على كل خطوة لاحقة في البحث:

5.1 تحديد اتجاه البحث 

​التمييز يمنع الباحث من التشتت. المشكلة تمنعك من الخروج عن "الموضوع"، والإشكالية تمنعك من الخروج عن "الإطار النظري" الذي اخترته.

5.2 اختيار المنهجية المناسبة

​هذه هي النقطة الأهم. الإشكالية هي التي تفرض المنهجية:

  • ​"مشكلة" مثل "ما أثر الدواء س على المرض ص؟" تفرض منهجاً كمياً تجريبياً.
  • ​"إشكالية" مثل "كيف يختبر المريض تجربة المرض اجتماعياً ونفسياً؟" تفرض منهجاً نوعياً (دراسة حالة أو ظاهراتية).
  • ​إن فهم الفرق بين البحث الكمي والبحث النوعي هو النتيجة المباشرة لفهمك لإشكاليتك.

5.3 تعميق جودة البحث وقيمته

​البحث الذي يكتفي بـ "مشكلة" هو بحث "وصفي" يضيف معلومة. البحث الذي ينطلق من "إشكالية" هو بحث "تحليلي ونقدي" يضيف "فهماً" ويساهم في "المعرفة" نفسها. الإشكالية هي التي تضمن "الأصالة" الحقيقية للبحث.

5.4 بناء الحجة والدراسات السابقة 

​فصل "الدراسات السابقة" ليس مجرد "تجميع" لما قاله الآخرون. إنه "بناء للإشكالية". أنت تستعرض الدراسات لتُظهر "النقاش" و"الفجوة" التي ستدخل منها، وهذا هو تعريف الإشكالية.

الجزء الخامس: كيفية صياغة المشكلة والإشكالية (دليل عملي)

6.1 خطوات صياغة المشكلة 

  1. الشعور بالمشكلة: ابدأ من ملاحظة في الواقع، أو خبرة عملية، أو قراءة، أو حتى توصية من بحث سابق.
  2. التحديد الدقيق: حوّل هذا "الشعور العام" إلى "موضوع محدد". (مثال: من "مشاكل التعليم" إلى "التسرب المدرسي").
  3. التأطير (الصياغة): صغ الموضوع في سؤال واضح ومحدد.
  4. الأسئلة الفرعية: قسّم السؤال الرئيسي إلى أسئلة فرعية تغطي متغيراته.
  5. الأهمية: اسأل نفسك: "So What؟" (ماذا لو أجبنا عن هذا السؤال؟ ما الفائدة؟).
  6. ​لصياغة مثالية، راجع هذا الدليل حول كيفية صياغة الأسئلة البحثية بشكل احترافي.

مثال على صياغة المشكلة:

"ما هي العوامل المؤثرة في انخفاض معدلات التحصيل الدراسي لدى طلاب المرحلة الثانوية في المناطق الريفية في (دولة معينة)؟" (واضح، محدد، قابل للقياس).

6.2 خطوات بناء الإشكالية

​الإشكالية لا تُصاغ في سؤال، بل "تُبنى" في مقدمة البحث:

  1. المسح النظري (Lit Review): هذه هي الخطوة الأهم. اقرأ بعمق حول "مشكلتك". ما هي النظريات التي فسرتها؟ ما هي المدارس الفكرية التي تناقشت حولها؟
  2. تحديد الفجوة والنقاش: أين يقف العلم الآن؟ ما هو النقاش الدائر؟ (مثال: مدرسة تقول السبب اقتصادي، ومدرسة تقول السبب ثقافي).
  3. تحديد موقعك (الإطار النظري): أين ستقف أنت؟ هل ستختبر إحدى النظريات؟ أم ستدمج بينهما؟ أم ستقدم منظوراً جديداً؟
  4. الصياغة التمهيدية: ابدأ بمقدمة عامة (الظاهرة)، ثم انتقل إلى ما قاله الباحثون (النقاش)، ثم حدد الفجوة (لماذا بحثك مهم)، وصولاً إلى طرح "التساؤل الرئيسي" الذي يلخص إشكاليتك.

مثال على صياغة (جزء من) الإشكالية:

"...ورغم أن النظريات الاقتصادية (مثل نظرية رأس المال البشري) فسرت تراجع التحصيل الدراسي كنتاج لضعف العائد المادي المتوقع من التعليم في المناطق الريفية، إلا أنها أغفلت دور العوامل الثقافية والرمزية (كما طرحها بورديو) في إعادة إنتاج التفاوت. لذا، يسعى هذا البحث إلى تجاوز هذا الانقسام بطرح تساؤل إشكالي: إلى أي مدى يتفاعل العامل الاقتصادي (العائد المادي) مع العامل الثقافي (رأس المال الرمزي للأسرة) في تحديد مسارات التحصيل الدراسي لطلاب الريف؟..."

نصائح للباحثين

  1. ابدأ واسعاً ثم ضيّق: ابدأ بـ "موضوع عام"، ثم اقرأ لتبني "إشكالية"، ومن هذه الإشكالية استخرج "مشكلتك" (سؤال البحث الدقيق).
  2. الإشكالية هي بوصلتك: لا تختر منهجاً أو أدوات (استبيان، مقابلة) قبل أن تكون إشكاليتك واضحة تماماً. هي التي تقرر المنهج وليس العكس.
  3. تجنب الخلط: "المشكلة" ليست "ملخص الإشكالية". "المشكلة" هي السؤال المحدد، و"الإشكالية" هي المقدمة النظرية الطويلة التي تبرر هذا السؤال.
  4. النقاش المعرفي: تذكر أن الإشكالية هي اختيارك لـ "كيف" ستنظر للمعرفة. هل ستعتمد على العقل والمنطق أم التجربة والمنفعة؟ وهذا يعيدك إلى أسئلة فلسفية أعمق مثل هل أصل معارفنا العقل أم النفع؟.

الخاتمة: من "المشكلة" إلى "المساهمة" 

​في الختام، يُعتبر الفرق بين المشكلة والإشكالية في البحث العلمي أمراً جوهرياً يتجاوز حدود التعريفات. إنه في صميم فلسفة العلم نفسها.

​"المشكلة" هي ما يجعلك "باحثاً تقنياً" (Technician) يحل لغزاً محدداً. أما "الإشكالية" فهي ما يجعلك "باحثاً أصيلاً" (Scholar) يساهم في الحوار الفكري الأوسع.

​من خلال التمييز الدقيق بينهما، يتمكن الباحث من تحديد مسار البحث بشكل واضح، واختيار المنهجية الأنسب، والأهم من ذلك، ضمان أن يكون بحثه متماسكاً وذا قيمة علمية حقيقية. إن الانتقال الواعي من "مشكلة" جزئية إلى "إشكالية" كلية هو الخطوة الأساسية نحو إنتاج بحوث رصينة تساهم بفاعلية في تقدم المعرفة الإنسانية.

تعليقات