📁 آخر الأخبار

هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية؟ رحلة من الدماغ إلى الروح

هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية؟ رحلة من الدماغ إلى الروح

تحليل فلسفي وعلمي عميق لإشكالية طبيعة الذاكرة. هل هي مجرد نشاط مادي في الدماغ (ريبوت، علم الأعصاب) أم ظاهرة نفسية خالصة (برغسون)؟ استكشاف للنظرية المادية، النفسية، والاجتماعية.

 مقدمة: لغز الذاكرة الأكبر

​الذاكرة (Memory) هي كل ما نحن عليه. هي تلك القدرة الغامضة على الإمساك بالزمن، وتخزين تجاربنا، واسترجاع المعلومات، وبناء هويتنا. بدونها، نذوب في حاضر أبدي بلا ماضٍ وبلا هوية. الذاكرة هي التي تمنحنا شخصيتنا وثقافتنا.

​لكن، ما هي طبيعة الذاكرة الحقيقية؟

​منذ قرون، انقسم الفلاسفة والعلماء حول هذا السؤال الجوهري الذي يمس صميم "مشكلة العقل والجسد" (Mind-Body Problem). هل الذاكرة مجرد وظيفة بيولوجية للدماغ، ظاهرة مادية بحتة يمكن تحديدها في خلايا القشرة الدماغية؟ أم هي مظهر من مظاهر العقل أو الروح، ظاهرة نفسية تتجاوز حدود المادة؟

​هذا الجدل ليس ترفاً فكرياً، بل هو في صلب فهمنا للوجود الإنساني. في هذه المقالة التحليلية، سنغوص في أعماق هذا الجدال، مستعرضين حجج النظرية المادية المدعومة بعلم الأعصاب، ضد حجج النظرية النفسية التي يدافع عنها فلاسفة الروح، وصولاً إلى الرأي التوفيقي الذي يرى في الذاكرة بناءً اجتماعياً.


هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية؟
هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية؟

 "الذاكرة في الدماغ": النظرية المادية وسلطة علم الأعصاب

​تقول النظرية المادية (Materialist Theory) بوضوح: الذاكرة هي ظاهرة بيولوجية 100%. الذكريات ما هي إلا "آثار مادية" (Engrams) مخزنة في شبكات الخلايا العصبية. الذاكرة، بهذا المعنى، هي وظيفة للدماغ، تماماً كما الهضم وظيفة للمعدة.

​تستند هذه النظرية إلى أدلة تجريبية وتطبيقية قوية، فحجتها المركزية هي: "إذا تلفت المادة (الدماغ)، تلفت الوظيفة (الذاكرة)".

 1. الجذور الفلسفية: ديكارت والآلة البشرية

​رغم أن رينيه ديكارت (1596-1650) كان فيلسوفاً "ثنائياً" (Dualist) يؤمن بفصل العقل عن الجسد، إلا أن طريقته الآلية (Mechanistic) في دراسة الجسد فتحت الباب على مصراعيه للمادية.

​اعتبر ديكارت أن الجسد (بما فيه الدماغ) هو "آلة" معقدة تتبع قوانين الفيزياء والحركة. ورغم أنه وضع "الغدة الصنوبرية" كنقطة اتصال غامضة مع العقل، إلا أن تركيزه على الدماغ كمركز للانطباعات الحسية (التي تترك "آثاراً" كالصور) ألهم الأجيال اللاحقة للبحث عن الذاكرة داخل هذه الآلة المادية، متجاهلين "شبح العقل" الذي وضعه ديكارت.

 2. تيودول ريبو ومنهج "علم الأمراض"

​كان تيودول ريبو (Théodule Ribot) (1839-1916)، وهو الأب المؤسس لعلم النفس العلمي في فرنسا، من أوائل من طبقوا المنهج المادي بصرامة على الذاكرة.

​لم يهتم ريبو بالتأملات الفلسفية، بل درس "أمراض الذاكرة" (Amnesia). لاحظ ريبو من خلال دراسته للمرضى الذين يعانون من تلف دماغي أن فقدان الذاكرة يتبع نمطاً محدداً، وهو ما صاغه في "قانون ريبو" (Ribot's Law):

"الذكريات الحديثة هي الأكثر هشاشة والأسرع فقداناً، بينما الذكريات القديمة والراسخة هي الأكثر مقاومة".

​بالنسبة لريبو، هذا دليل قاطع على أن الذاكرة "تُبنى" مادياً في الدماغ بمرور الوقت. الذكريات الجديدة هي مجرد آثار سطحية، بينما القديمة هي "ندوب" عميقة في النسيج العصبي. لقد ربط ريبو الذاكرة بشكل لا ينفصل عن "مادة" الدماغ، معتبراً أن الذاكرة الحركية (التي تخزن في العقد القاعدية) تختلف عن الذاكرة الحسية.

 3. الثورة العصبية: حالة المريض H.M. والهيبوكامبوس

​إن الدليل الأكثر دراماتيكية وحسماً في تاريخ النظرية المادية جاء من حالة المريض الشهير "إتش إم" (H.M. - هنري مولايسون).

​في عام 1953، خضع "إتش إم" لجراحة تجريبية لعلاج الصرع، تم فيها استئصال جزء كبير من "الحُصين" (Hippocampus) في دماغه. النتيجة: توقف الصرع، لكن "إتش إم" فقد قدرته تماماً على تشكيل أي ذكريات جديدة طويلة الأمد.

​لقد عاش "إتش إم" لبقية حياته في "حاضر دائم" مدته 30 ثانية. كان ينسى أنه تناول الغداء فور انتهائه، وكان يُقدَّم له الأطباء أنفسهم كل يوم وكأنه يراهم للمرة الأولى.

​دراسات العالمة بريندا ميلنر (Brenda Milner) على حالة "إتش إم" أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك:

  1. الذاكرة لها مركز مادي: الحُصين ضروري لنقل الذكريات من الذاكرة قصيرة المدى إلى الذاكرة طويلة المدى.
  2. الذاكرة ليست شيئاً واحداً: "إتش إم" فقد ذاكرته (الواعية) للأحداث، لكنه كان لا يزال قادراً على تعلم "مهارات" حركية جديدة (مثل الرسم في المرآة)، حتى لو لم "يتذكر" أنه تعلمها. هذا كشف الفرق المادي بين "الذاكرة الصريحة" (Declarative) و"الذاكرة الضمنية" (Procedural).

​هذه الحالة، أكثر من أي شيء آخر، رسخت فكرة أن "الذاكرة هي الدماغ".

 "الذاكرة في الشعور": النظرية النفسية وسمو الروح

​في المقابل، ترفض النظرية النفسية (Psychological/Spiritual Theory) هذا الاختزال المادي. يرى أنصار هذا الاتجاه أن الذاكرة الحقيقية ليست مجرد "أثر" مادي، بل هي "فعل" نفسي حي، وهي "الشعور" و"الوعي" بالماضي.

​هم لا ينكرون دور الدماغ، لكنهم يعتبرونه "أداة" فقط، وليس "مصدر" الذاكرة. الدماغ، بالنسبة لهم، هو "خزانة" تحفظ الذكريات، لكن "الوعي" هو من يختار فتحها واستخدامها.

 1. هنري برغسون: ذروة النقد المادي

​يُعتبر الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (Henri Bergson) (1859-1941) هو الخصم الأعظم للنظرية المادية (وخاصةً لأفكار ريبو). في كتابه "المادة والذاكرة"، شن برغسون هجوماً فلسفياً عميقاً على فكرة أن الدماغ "يخزن" الذكريات.

​قدم برغسون تمييزاً ثورياً بين نوعين من الذاكرة:

  1. الذاكرة-العادة (Memory-Habit):
    • ​هذه هي الذاكرة التي تحدث عنها ريبو. إنها ذاكرة "الجسد".
    • ​هي مادية، مخزنة في الدماغ كآلية حركية (مثل قيادة الدراجة، أو ترديد قصيدة حفظتها).
    • ​هي "تكرار" للماضي، وفعل آلي يحدث في الحاضر. بالنسبة لبرغسون، هذه "ليست" ذاكرة حقيقية، بل هي مجرد "عادة" جسدية.
  2. الذاكرة الخالصة (Pure Memory):
    • ​هذه هي الذاكرة النفسية "الحقيقية". إنها "الروح" أو "الشعور" (الديمومة - Duration).
    • ​هي ليست مخزنة في الدماغ، بل هي "الماضي كله" الذي نحمله معنا في وعينا. إنها "تُحفظ" في "اللاشعور" الروحي، لا في خلايا الدماغ.
    • ​هي ليست تكراراً، بل هي "استحضار" لصورة فريدة من الماضي (مثل تذكر رائحة معينة من طفولتك، أو الشعور الذي انتابك في حدث معين).

إذن، ما هو دور الدماغ عند برغسون؟

الدماغ ليس خزانة للذكريات، بل هو "مرشح" (Filter) أو "لوحة مفاتيح". وظيفته ليست "تخزين" الماضي، بل "حجب" الماضي كله عنا، والسماح فقط للذكرى "المفيدة" للحظة الحالية بالمرور إلى الوعي.

​عندما يتلف الدماغ (كما في حالة H.M.)، المشكلة ليست أن الذكريات "مُحيت"، بل أن "الآلية" التي "تستدعي" الذكريات من الروح إلى الحاضر قد تعطلت. الذاكرة، بالنسبة لبرغسون، هي تعبير عن "الحياة" و"الحرية" والإبداع، وهي أشمل وأوسع من مجرد مادة.

 2. الذاكرة والإبداع: منظور جميل صليبا

​يمتد هذا التصور النفسي إلى الأدب والفن. المفكر اللبناني جميل صليبا (1902-1976)، في أعماله الفلسفية والأدبية، درس الذاكرة ليس كآلة تسجيل، بل "كمصدر للخيال والتجديد".

​من هذا المنظور، الذاكرة ليست مجرد "استرجاع" (Recall)، بل هي "إعادة بناء" (Reconstruction) إبداعية. عندما "نتذكر"، نحن لا نستعيد الماضي كما كان، بل "نؤلفه" من جديد من خلال مشاعرنا الحالية وقيمنا.

​الذكريات تتأثر بالانفعالات والسياق. الذكرى المؤلمة قد تصبح باهتة مع الزمن، والذكرى السعيدة قد تتعاظم. هذا "التحريف" ليس "خطأ" في النظام المادي، بل هو دليل على أن الذاكرة "حية" ونفسية، تتفاعل وتتشكل بالمعنى الذي نضفيه عليها.

 "الذاكرة تبنى اجتماعياً": الرأي التوفيقي

​في مواجهة هذه الثنائية الحادة (مادة أم نفس)، ظهر اتجاه ثالث يرى أن السؤال نفسه خاطئ. الذاكرة ليست مجرد "دماغ" (مادة) وليست مجرد "وعي فردي" (نفس)، بل هي بالأساس "بناء اجتماعي" (Social Construct).

​هذا الرأي التوفيقي لا ينكر المادة أو النفس، بل يضعهما في سياق أكبر.

 1. موريس هالبفاكس: الأطر الاجتماعية للذاكرة

​كان الرائد في هذا المجال هو عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبفاكس (Maurice Halbwachs) (1877-1945)، تلميذ برغسون ودوركايم.

​انتقد هالبفاكس أستاذه برغسون لتركيزه على الذاكرة الفردية الخالصة. بالنسبة لهالبفاكس، "لا توجد ذاكرة فردية بحتة".

نحن لا نتذكر كأفراد معزولين، بل نتذكر بصفتنا أعضاء في جماعة (عائلة، طبقة، أمة، طائفة دينية).

  • الأطر الاجتماعية (Social Frameworks): لكي نتذكر أي شيء، نحن بحاجة إلى "أطر" اجتماعية. هذه الأطر هي "اللغة" التي نستخدمها، و"التقويم" (الأعياد، المناسبات)، و"الرموز" (الآثار، الأعلام)، و"القصص" التي ترويها جماعتنا.
  • الذاكرة الجماعية (Collective Memory): هي التي تمنح ذاكرتنا الشخصية معناها. أنت "تتذكر" طفولتك ليس فقط كصور دماغية، بل من خلال "قصص" عائلتك عنك، ومن خلال الصور الفوتوغرافية، ومن خلال اللغة التي علمتك إياها أسرتك لوصف تجاربك.

  •  2. كيف يوفق هذا الرأي بين المادة والنفس؟

​يرى هذا الاتجاه أن:

  1. الدماغ (المادة) ضروري كـ "آلة تخزين" (Hardware) لحمل الآثار.
  2. الوعي (النفس) ضروري لـ "تجربة" الذكرى والشعور بها.
  3. المجتمع (الاجتماع) هو الذي يوفر "نظام التشغيل" (Software) الذي ينظم هذه الآثار ويمنحها "معنى".

​الفرد يحتاج إلى محيط اجتماعي يحفظ له ذكرياته ويساعده على بنائها. إذا فقدت الذاكرة (تلف مادي)، يساعدك المجتمع على "تذكر" من أنت. وإذا كنت معزولاً تماماً (فقدان اجتماعي)، فإن ذاكرتك المادية والنفسية ستضمر وتفقد معناها.

 خاتمة: الذاكرة كظاهرة متعددة الأبعاد

​إذن، هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية؟

الجواب الأكثر نضجاً هو أنها كلاهما، وأكثر من ذلك.

  1. ​الذاكرة مادية في "آليتها" (Mechanism): لا يمكن أن توجد ذكرى بدون شبكة عصبية في الدماغ تدعمها. علم الأعصاب أثبت هذا بشكل قاطع.
  2. ​الذاكرة نفسية في "تجربتها" (Experience): الذاكرة ليست مجرد بيانات، بل هي "شعور" ذاتي، هي "وعي" بالماضي، وهي مصدر "هويتنا" الشخصية كما أوضح برغسون.
  3. ​الذاكرة اجتماعية في "شكلها" (Form): نحن نتذكر بالكلمات والمفاهيم التي يزودنا بها مجتمعنا. ذاكرتنا هي نتاج تفاعل دائم بين ماضينا الشخصي والسرد الجماعي الذي نعيش فيه.

​الذاكرة ليست شيئاً ثابتاً في خزانة الدماغ، بل هي عملية "حيوية" و"ديناميكية" من إعادة البناء المستمر. هي نسيج معقد يتشابك فيه الدماغ (المادة)، والوعي (النفس)، والثقافة (المجتمع).

تعليقات