طرائق البحث في العلوم الاجتماعية: مراجعة شاملة لكتاب شاقا فرانكفورت وديفيد ناشميار
مقدمة: إشكالية العلم والمعرفة في العصر الحديث
في عالم يضج بالمعلومات وتتداخل فيه الحقائق بالآراء الشخصية، يبرز كتاب "طرائق البحث في العلوم الاجتماعية" للمؤلفين شاقا فرانكفورت-ناشميار وديفيد ناشميار، والذي ترجمته للعربية الدكتورة ليلى الطويل، كمنارة علمية تضيء الدرب للباحثين والطلاب والأكاديميين.
كثيراً ما يُساء استخدام مفهوم "العلم" في مجتمعاتنا المعاصرة، سواء من قبل الصحفيين، السياسيين، المعلمين، أو حتى العلماء أنفسهم. هذا المفهوم الذي يتم توظيفه لخدمة أجندات متباينة؛ فالبعض يرى في العلم وسيلة للحصول على امتيازات اجتماعية وطبقية، والبعض الآخر يظنه المعرفة المطلقة والحقيقة النهائية، بينما يراه الفريق الأكثر دقة بحثاً موضوعياً لظاهرة تجريبية قابلة للقياس والملاحظة.
يأتي هذا الكتاب ليحسم هذا الجدل، مقدماً مدخلاً رصيناً لا يعتبر العلم مجرد "جسد من المعرفة" الجامدة، بل هو "منهجية" وطريقة تفكير منظمة تسعى لفهم السلوك الإنساني والظواهر الاجتماعية المعقدة.
![]() |
| غلاف كتاب طرائق البحث في العلوم الاجتماعية_شاقا فرانكفورت-ناشميار دافيد ناشميار. |
الفصل الأول: المنهج العلمي مقابل طرائق المعرفة التقليدية
يناقش الكتاب في فصوله الأولى قضية جوهرية تتمثل في مصادر المعرفة البشرية. تاريخياً، اعتمد الإنسان على أساليب متعددة للوصول إلى الحقيقة، وتعارض هذه الأساليب المنهجية العلمية الحديثة التي يتبناها الكتاب.
1. نقد الأسلوب السلطوي (Authoritarian Mode)
يشير المؤلفان (ناشميار وفرانكفورت) إلى أن البشرية لفترات طويلة استندت إلى "السلطة" كمصدر للمعرفة. في المجتمعات القبلية، كان الشيوخ هم مصدر الحكمة، وفي المجتمعات الدينية كان الزعماء الروحيون هم المرجع، وفي النظم الملكية كان الملوك هم من يحددون الصواب والخطأ. هذه المعرفة كانت تُقبل لأنها صادرة عن أشخاص ذوي مكانة اجتماعية أو سياسية، وليس لأنها خضعت للتجربة والبرهان.
2. نقد الأسلوب الصوفي والميتافيزيقي
يعرض الكتاب أيضاً للأساليب الروحية والفلسفية التي تعتمد على الحدس أو التأمل الداخلي بعيداً عن الواقع التجريبي. ورغم أهمية هذه الأساليب في سياقاتها، إلا أنها تعجز عن تقديم تفسيرات دقيقة لظواهر مثل التضخم، البطالة، أو البيروقراطية في الدولة الحديثة.
3. البديل العلمي
يؤكد الكتاب أن المعرفة التي تُعتبر "علمية" اليوم قد تصبح غير علمية غداً إذا ظهرت أدلة جديدة تدحضها. لذا، فإن تعريف العلم لا يرتبط بالمحتوى بقدر ما يرتبط بـ المنهجية. العلم هو المعرفة التي يتم التوصل إليها عبر منهجية علمية صارمة (الملاحظة، الفرضية، التجربة، والتحليل). وأي معرفة ترفضها المنهجية العلمية، إنما ترفضها لاعتبارات تتعلق بطريقة الوصول إليها وليس تحيزاً ضد محتواها.
الفصل الثاني: بنية البحث في العلوم الاجتماعية
يُعد كتاب "طرائق البحث في العلوم الاجتماعية" مرجعاً أساسياً لأنه يفكك البنية المعقدة للبحث العلمي إلى خطوات إجرائية قابلة للتطبيق.
الأسس المنطقية للبحث
يركز الكتاب على أن البحث الاجتماعي ليس مجرد تجميع للبيانات، بل هو عملية منطقية تبدأ بـ:
- صياغة المشكلة البحثية: كيف نحول "الهَم العام" أو المشكلة الاجتماعية (كالفقر أو الجريمة) إلى سؤال بحثي قابل للدراسة.
- بناء الفرضيات: الانتقال من النظرية المجردة إلى توقعات محددة يمكن اختبارها في الواقع.
التصميم البحثي (Research Design)
يتميز كتاب ناشميار بشرحه المفصل لأنواع التصاميم البحثية، وكيفية اختيار التصميم الأنسب للظاهرة المدروسة:
- التجارب المعملية والميدانية: كيف يمكن عزل المتغيرات في العلوم الاجتماعية كما يحدث في العلوم الطبيعية؟
- المسح الاجتماعي (Survey Research): أدوات الاستبيان والمقابلة وكيفية صياغتها لتجنب التحيز.
- دراسة الحالة: التعمق في فهم ظاهرة واحدة بشكل شمولي.
الفصل الثالث: أدوات القياس وجمع البيانات
أحد أهم الأجزاء في هذا الكتاب، والذي يجعله يتصدر نتائج البحث للأكاديميين، هو معالجته لقضية "القياس" (Measurement) في العلوم الاجتماعية.
تحدي القياس في العلوم الإنسانية
على عكس الفيزياء والكيمياء، تتعامل العلوم الاجتماعية مع مفاهيم مجردة مثل (الرضا الوظيفي، الديمقراطية، الاغتراب). يشرح الكتاب كيف يمكن تحويل هذه المفاهيم إلى متغيرات إجرائية قابلة للقياس الرقمي أو الوصفي الدقيق.
الموثوقية والصدق (Reliability and Validity)
يخصص المؤلفان مساحة واسعة لمناقشة:
- الصدق: هل تقيس الأداة فعلاً ما صممت لقياسه؟
- الموثوقية: هل تعطي الأداة نفس النتائج إذا تكرر تطبيقها في نفس الظروف؟ هذه المفاهيم هي حجر الزاوية لأي بحث يطمح لأن يكون "علمياً" ومقبولاً في المجتمع الأكاديمي.
الفصل الرابع: من النظرية إلى التطبيق (أهمية الكتاب)
لماذا يجب عليك قراءة وتحميل كتاب "طرائق البحث في العلوم الاجتماعية"؟ تكمن الإجابة في القيمة التطبيقية التي يوفرها لفئات مختلفة:
1. للأكاديميين والطلاب
يوفر الكتاب أحدث الخبرات والنظريات في مناهج البحث. إنه دليل عملي يساعد الطالب على إنجاز رسائل الماجستير والدكتوراه وفق معايير عالمية تضمن "موثوقية المعرفة".
2. لصناع القرار والسياسيين
كما ورد في ملخص الكتاب، فإن فهم ظواهر مثل التضخم الاقتصادي، والبطالة، والبيروقراطية الإدارية لا يمكن أن يتم عبر التكهنات أو الآراء الشخصية. يساعد المدخل العلمي الذي يطرحه الكتاب في تشخيص هذه المشكلات بدقة، مما يمهد الطريق لحلول واقعية وفعالة.
3. للمهتمين بالشأن العام
للأفراد الذين يحملون هماً عاماً ويسعون لفهم مجتمعاتهم بعيداً عن الخرافات أو التفسيرات السطحية. الكتاب يعلمك كيف تقرأ الإحصائيات، وكيف تنقد الدراسات المنشورة، وكيف تميز بين الحقيقة العلمية والرأي الصحفي العابر.
خاتمة: نحو مجتمع المعرفة العلمية
في الختام، يُعتبر كتاب "طرائق البحث في العلوم الاجتماعية" لشاقا فرانكفورت وديفيد ناشميار أكثر من مجرد مقرر دراسي؛ إنه دعوة لإعادة تشكيل العقلية البحثية. إنه يؤكد أن العلم ليس حكراً على المختبرات المغلقة، بل هو أداة لفهم "الخبرة الإنسانية" بكل تعقيداتها: في السياسة، الاقتصاد، وعلم النفس.
إن تبني المنهجية التي يطرحها هذا الكتاب هو السبيل الوحيد للخروج من دائرة المعرفة السلطوية أو الانطباعية، نحو فضاء المعرفة الموثوقة التي يمكن البناء عليها لتطوير المجتمعات وحل مشكلاتها المزمنة.
نصيحة للقارئ: إذا كنت تبحث عن مرجع يجمع بين العمق الفلسفي للعلم والتطبيق العملي لخطوات البحث، فإن هذا الكتاب هو خيارك الأول.
وسوم (Tags):
#طرائق_البحث #العلوم_الاجتماعية #شاقا_فرانكفورت #ديفيد_ناشميار #بحث_علمي #منهجية_البحث #كتب_مترجمة #ليلى_الطويل #تحليل_بيانات #رسائل_علمية #المنهج_العلمي
