قراءة في "مقياس الضغوط المهنية" لفرج طه والسيد راغب: نحو قياس علمي لـ"وباء العصر"

مراجعة تحليلية لكتاب/كتيب "مقياس الضغوط المهنية (ضغوط العمل)" للدكتور فرج عبد القادر طه والدكتور السيد مصطفى راغب. اكتشف أهمية القياس العلمي لضغوط العمل وأبعاد المقياس المقترح.

مقدمة: ضغوط العمل.. من الشعور العام إلى الحاجة للقياس العلمي

«نعيش الآن في عصر من الضغوط التي تأتينا من نواح شتى... ولعل الضغوط المهنية... تعتبر من أخطر وأشد ما يواجهه الفرد من ضغوط.»

بهذه الكلمات الواقعية، يفتتح الدكتور فرج عبد القادر طه و الدكتور السيد مصطفى راغب مقدمة كتيبهما الهام حول "مقياس الضغوط المهنية (ضغوط العمل)". المقدمة لا تكتفي بتوصيف "الشعور" العام بالضغط الذي يسود حياتنا المعاصرة (الاقتصادي، النفسي، الاجتماعي)، بل تركز بشكل خاص على "خطورة" ضغوط بيئة العمل، نظراً لـ"شدة أهمية العمل في حياة الفرد" لتحديد قيمته وتحقيق ذاته وتأمين معيشته.

الكتاب لا يهدف فقط إلى "التوعية" بهذه الظاهرة، بل يذهب إلى ما هو أعمق وأكثر عملية: تقديم "مقياس" علمي لقياسها. هذه الخطوة تمثل نقلة نوعية من "الإحساس" الذاتي بالضغط إلى "القياس" الموضوعي له. فكما يؤكد المؤلفان في نهاية الكتيب، فإن "القياس العلمي لهذه الظاهرة" هو ضرورة لمساعدتنا في "الدراسة العلمية لها؛ تمهيداً لفهمها وتشخيصها؛ ومقاومتها؛ وعلاجها في النهاية".

غلاف كتاب مقياس الضغوط المهنية (ضغوط العمل).

في هذه المقالة التحليلية، لن نستعرض ظاهرة ضغوط العمل بشكل عام، بل سنركز على "قراءة" المشروع الذي يقدمه هذا الكتيب: ما هي "الحاجة" الماسة لمقياس علمي لضغوط العمل في سياقنا (العربي)؟ ما هي "الأبعاد" التي يُحتمل أن يغطيها هذا المقياس؟ وما هي "القيمة المضافة" التي يقدمها للباحثين والممارسين في مجال الصحة النفسية والمهنية؟

1. تشخيص المشكلة: لماذا ضغوط العمل "الأخطر والأشد"؟

يؤسس المؤلفان لمشروعهما عبر تأكيد خطورة ضغوط العمل بشكل خاص، لعدة أسباب مترابطة:

مركزية العمل في الحياة: كما يشير المؤلفان، العمل ليس مجرد "مصدر دخل"، بل هو مصدر لـ"تحديد القيمة" و "إثبات الذات". أي ضغط في هذا المجال يمس "صميم" هوية الفرد وتقديره لذاته.
الوقت المستغرق: يقضي الإنسان "حوالي نصف وقته الذي يكون فيه يقظاناً في عمله". التعرض المستمر للضغوط في هذه المساحة الزمنية الواسعة له آثار تراكمية مدمرة على الصحة النفسية والجسدية.
التأثير على الحياة كلها: ضغوط العمل لا تبقى حبيسة "مكان العمل"، بل "تمتد" لتؤثر على حياة الفرد الأسرية والاجتماعية، وتسلبه "المتعة في أي شيء".
الاحتراق النفسي (Burnout): يشير المؤلفان إلى نتيجة خطيرة ومزمنة لضغوط العمل الشديدة، وهي "الاحتراق النفسي". هذا ليس مجرد "تعب"، بل هو حالة من الإنهاك العاطفي والجسدي وفقدان الإحساس بالإنجاز الشخصي، وهو "اضطراب نفسي" معترف به يستدعي التدخل.

هذا التشخيص الدقيق لـ"خطورة" ضغوط العمل هو ما يبرر "الحاجة الملحة" لأداة علمية قادرة على قياسها بدقة وموضوعية، بدلاً من الاعتماد على الانطباعات العامة أو الشكاوى الفردية غير الممنهجة.

2. الحل المقترح: "المقياس" كأداة علمية للفهم والتدخل

يقدم الكتاب "مقياساً" للضغوط المهنية. هذا يعني الانتقال من "الظاهرة" المعقدة إلى "أداة قياس" قابلة للتطبيق. ما هي طبيعة هذا المقياس وما أهميته؟

أ. طبيعة المقياس (الأبعاد المحتملة):

القياس النفسي: المقاييس النفسية (مثل مقاييس الشخصية أو الذكاء أو الضغوط) هي أدوات مصممة لـ"قياس" سمات أو حالات نفسية غير قابلة للملاحظة المباشرة، وذلك عبر مجموعة من "العبارات" أو "الأسئلة" (البنود) التي يجيب عليها الفرد.
أبعاد ضغوط العمل: من المرجح أن المقياس الذي أعده د. طه ود. راغب يغطي "الأبعاد" المختلفة لضغوط العمل التي حددتها الدراسات العلمية في علم النفس المهني و علم الاجتماع الصناعي، مثل:
- عبء العمل: (كمية العمل، ضغط الوقت).
- غموض الدور وصراع الدور: (عدم وضوح المهام، تضارب التوقعات).
- العلاقات في العمل: (العلاقة مع الرؤساء، الزملاء، المرؤوسين، غياب الدعم الاجتماعي).
- نقص التحكم والاستقلالية: (عدم القدرة على اتخاذ القرارات المتعلقة بالعمل).
- بيئة العمل المادية: (الضوضاء، الازدحام، الأمان...).
- الأمان الوظيفي: (الخوف من التسريح أو عدم الاستقرار).
- التوازن بين العمل والحياة: (صعوبة التوفيق بين متطلبات العمل والأسرة).
التصميم والتقنين: يفترض أن الكتاب يشرح "كيف" تم تصميم هذا المقياس، وما هي "الخطوات العلمية" التي اتبعت لضمان "صلاحيته" (Validity - هل يقيس ما يدعي قياسه؟) و "ثباته" (Reliability - هل يعطي نتائج متسقة؟). قد يتضمن معلومات عن "العينة" التي تم تقنين المقياس عليها (هل هي عينة مصرية أو عربية؟ وهذا مهم جداً لملائمة المقياس ثقافياً).

ب. أهمية القياس العلمي:

لماذا نحتاج إلى "مقياس" بدل الاكتفاء بالحديث العام عن الضغوط؟

التشخيص الدقيق: يساعد المقياس على تحديد "مستوى" الضغط الذي يعاني منه الفرد أو المجموعة، وتحديد "مصادر" الضغط الرئيسية (أي الأبعاد الأكثر إشكالية).
البحث العلمي: يوفر أداة "موحدة" و "موضوعية" للباحثين لدراسة علاقة ضغوط العمل بمتغيرات أخرى (مثل الأداء، الصحة، الرضا الوظيفي)، ومقارنة مستويات الضغط بين مهن أو مؤسسات مختلفة.
التدخل والمقاومة: بناءً على نتائج التشخيص، يمكن تصميم برامج "تدخل" (Intervention) محددة لمواجهة مصادر الضغط (مثل إعادة تصميم الوظائف، تحسين التواصل، برامج إدارة الوقت...).
التقييم والمتابعة: يمكن استخدام المقياس "لقياس فعالية" برامج التدخل، ومعرفة هل نجحت في تخفيف الضغوط أم لا.

3. القيمة المضافة لكتاب/مقياس طه وراغب

في ظل وجود العديد من المقاييس العالمية لضغوط العمل، ما هي القيمة المضافة التي يقدمها هذا العمل تحديداً؟

التأصيل العربي/المصري: إذا تم تقنين المقياس على عينة عربية أو مصرية، فهذا يجعله أكثر "ملائمة ثقافياً" (Culturally Relevant) للاستخدام في مجتمعاتنا مقارنة بمقاييس غربية قد لا تعكس خصوصيات بيئة العمل المحلية.
الجمع بين الخبرة الأكاديمية: يجمع العمل بين خبرة الدكتور فرج عبد القادر طه (أحد رواد علم النفس في مصر والعالم العربي) والدكتور السيد مصطفى راغب، مما يضفي على المقياس ثقلاً علمياً.
توفير أداة عملية: يقدم الكتاب "أداة" جاهزة للاستخدام من قبل الباحثين والممارسين، بدلاً من مجرد عرض نظري.
التوعية بأهمية القياس: يساهم الكتاب في نشر "ثقافة القياس العلمي" للظواهر النفسية والاجتماعية في العالم العربي، وهي ثقافة لا تزال بحاجة إلى تعزيز.

خاتمة: من التشخيص الذاتي إلى التشخيص العلمي

يأتي كتيب "مقياس الضغوط المهنية" للدكتور فرج طه والدكتور السيد راغب ليقدم إسهاماً عملياً ومهماً في مجال الصحة النفسية المهنية. إنه ينتقل بنا من "الشكوى" العامة من ضغوط العمل إلى "التشخيص" العلمي الدقيق لها.

الكتاب والمقياس الذي يقدمه هو تذكير بأن التعامل مع "وباء العصر" (ضغوط العمل والاحتراق النفسي) يتطلب أدوات علمية تتجاوز الانطباعات الشخصية. فالفهم الدقيق القائم على القياس هو الخطوة الأولى والضرورية نحو إيجاد حلول فعالة، سواء على مستوى الفرد (مقاومة الضغوط) أو على مستوى المؤسسة (تحسين بيئة العمل) أو على مستوى المجتمع (وضع سياسات داعمة للصحة النفسية في العمل).

إنه عمل أساسي لكل باحث أو ممارس يسعى لفهم ومعالجة واحدة من أكبر التحديات التي تواجه الإنسان المعاصر في علاقته بعمله.