📁 آخر الأخبار

قراءة في "إعادة التفكير في الحداثة" لبامبرا: تفكيك الأسطورة الأوروبية بمنظور ما بعد استعماري

قراءة في "إعادة التفكير في الحداثة" لبامبرا: تفكيك الأسطورة الأوروبية بمنظور ما بعد استعماري

​مراجعة تحليلية لكتاب "إعادة التفكير في الحداثة: نزعة ما بعد الاستعمار والخيال السوسيولوجي" لجيرمندر ك. بامبرا. اكتشف كيف ينقد الكتاب السرديات الأوروبية المهيمنة ويدعو لعلم اجتماع تاريخي عالمي مترابط.

​مقدمة: "الحداثة".. قصة أوروبية أم تاريخ عالمي متشابك؟

​تُعد "الحداثة" (Modernity) مفهوماً مركزياً، بل ربما المفهوم الأكثر مركزية، في علم الاجتماع الكلاسيكي والمعاصر. إنها "القصة الكبرى" التي يسعى علم الاجتماع لسردها: قصة الانتقال من التقليد إلى الحداثة، قصة صعود العقلانية، الدولة القومية، الرأسمالية، والفردانية. لكن، وكما تكشف المفكرة البريطانية جيرمندر ك. بامبرا (Gurminder K. Bhambra) ببراعة نقدية في كتابها التأسيسي "إعادة التفكير في الحداثة: نزعة ما بعد الاستعمار والخيال السوسيولوجي" (Rethinking Modernity: Postcolonialism and the Sociological Imagination)، فإن هذه "القصة" غالباً ما تُروى من منظور واحد: المنظور الأوروبي.

​الكتاب، الذي نُقل بجهد مشكور إلى العربية بواسطة ابتسام سيد علام و حنان محمد حافظ وصدر عن المركز القومي للترجمة، لا يقدم مجرد "نقد" هامشي، بل هو محاولة جذرية لـ**"إعادة تشكيل علم الاجتماع التاريخي عالمياً"**. تنطلق بامبرا "من داخل الفهم السوسيولوجي للحداثة" لتكشف "الادعاءات عن 'الآخرين' غير الأوروبيين" الذين تم استبعادهم أو تهميشهم منهجياً من "السرديات والأطر التحليلية المهيمنة".

​إن مشروع بامبرا هو دعوة لتوسيع "الخيال السوسيولوجي" (مستلهمة من سي. رايت ميلز) ليتجاوز حدوده الأوروبية، وليتبنى منظور "ما بعد الاستعمار" كأداة ضرورية لفهم "التواريخ المترابطة" (Connected Histories) التي شكلت عالمنا الحديث بالفعل.


إعادة التفكير في الحداثة  نزعة ما بعد الاستعمار والخيال السوسيولوجي  تأليف : جيرمندر ك. بامبرا ابتسام سید علام
غلاف كتاب عادة التفكير في الحداثة.
 

​في هذه المقالة التحليلية، لن نكتفي بتلخيص أفكار الكتاب، بل سنغوص في "مشروعه النقدي" بعمق: ما هي "أساطير النشأة" التي تفككها بامبرا؟ كيف يعمل منهج "التواريخ المترابطة"؟ ولماذا يعتبر هذا الكتاب إضافة "ثورية" لعلم الاجتماع، وضرورية للقارئ العربي بشكل خاص؟

​1. تشخيص المشكلة: المركزية الأوروبية كـ"أسطورة تأسيسية" لعلم الاجتماع

​تبدأ بامبرا بتشخيص دقيق للمشكلة المتجذرة في قلب علم الاجتماع التقليدي: المركزية الأوروبية (Eurocentrism).

  • الحداثة كـ"معجزة أوروبية": السردية السائدة، كما تحللها بامبرا، تقدم الحداثة كحدث "داخلي" و "فريد" نشأ وتطور داخل أوروبا (بفضل عوامل مثل العقلانية اليونانية، القانون الروماني، الأخلاق البروتستانتية...). أوروبا هي "الفاعل" الوحيد، وبقية العالم مجرد "متلقٍ" سلبي للحداثة (أو "عائق" أمامها).
  • تهميش "الآخرين": هذا المنظور يؤدي حتماً إلى "إقصاء" أو "تهميش" دور وتجارب "الآخرين" غير الأوروبيين. هم إما "خارج" قصة الحداثة (مجتمعات تقليدية لم "تلحق" بالركب)، أو يتم إدراجهم فقط كـ"مستعمرات" سلبية تأثرت بالحداثة الأوروبية دون أن تساهم في تشكيلها.
  • علم الاجتماع كـ"علم أوروبي": النتيجة هي أن علم الاجتماع نفسه، الذي نشأ لدراسة هذه "الحداثة" الأوروبية، ورث هذه "المركزية الأوروبية" في مفاهيمه ونظرياته ومناهجه. أصبح يدرس العالم من خلال "نظارات" أوروبية، معتبراً التجربة الأوروبية هي "المعيار" الكوني.

​هذا التشخيص النقدي يضع كتاب بامبرا في حوار مباشر مع أعمال مفكرين مثل إدوارد سعيد ونقده للاستشراق، ولكنه يطبق هذا النقد على "صميم" التخصص السوسيولوجي نفسه.

​2. البديل المنهجي: "التواريخ المترابطة" (Connected Histories)

​لا تكتفي بامبرا بالنقد، بل تقدم بديلاً منهجياً قوياً: "التواريخ المترابطة".

  • رفض الانفصال: يرفض هذا المنهج فكرة أن تاريخ أوروبا وتاريخ بقية العالم هما تاريخان "منفصلان". بدلاً من ذلك، يؤكد على أن "الحداثة" لم تكن نتاجاً أوروبياً خالصاً، بل هي نتاج "لتفاعلات" و "ترابطات" عالمية عميقة ومستمرة منذ قرون.
  • العالم كشبكة: يجب فهم العالم كـ"شبكة" من العلاقات والتبادلات (الاقتصادية، السياسية، الثقافية) التي شكلت مصائر جميع الأطراف. أوروبا لم تتطور "بمعزل" عن العالم، بل تطورت "من خلال" علاقاتها (غالباً الاستغلالية والاستعمارية) مع العالم.
  • إعادة قراءة التاريخ: يدعو هذا المنهج إلى "إعادة قراءة" التاريخ العالمي، ليس كقصص منفصلة للقارات والحضارات، بل كتاريخ "مشترك" ومترابط، مع الانتباه إلى "علاقات القوة" غير المتكافئة التي حكمت هذه الترابطات.

​هذا المنهج يتطلب "إعادة تشكيل علم الاجتماع التاريخي عالمياً"، والانتقال من "علم اجتماع المقارنات" (الذي يفترض وجود وحدات منفصلة للمقارنة) إلى "علم اجتماع الترابطات" (الذي يركز على العلاقات والتفاعلات).

​3. تفكيك "أساطير النشأة": إعادة قراءة لحظات التأسيس

​لتوضيح قوة منهجها، تطبق بامبرا "التواريخ المترابطة" على "لحظات التأسيس" الكبرى التي يُبنى عليها "أسطورة" الحداثة الأوروبية:

​أ. عصر النهضة:

  • السردية الأوروبية: يُقدم كـ"إحياء" للثقافة اليونانية-الرومانية داخل أوروبا.
  • قراءة بامبرا (المحتملة): ستُبرز بامبرا، على الأرجح، الدور الحاسم للحضارة العربية الإسلامية في "حفظ" و "ترجمة" و "تطوير" هذا التراث اليوناني، ونقله إلى أوروبا. كما ستشير إلى "التبادلات" التجارية والثقافية عبر المتوسط التي ساهمت في ازدهار المدن الإيطالية. النهضة لم تكن "أوروبية" خالصة، بل نتاج "لتفاعل" حضاري أوسع. (تتقاطع مع نقد الجابري للقطيعة).

​ب. الثورة الفرنسية:

  • السردية الأوروبية: تُقدم كـ"ذروة" التنوير الأوروبي وولادة "حقوق الإنسان" العالمية.
  • قراءة بامبرا (المحتملة): ستُشير بامبرا إلى الثورة الهايتية (ثورة العبيد في المستعمرة الفرنسية سان دومينغ)، التي تزامنت مع الثورة الفرنسية وطبقت مبادئ "الحرية والإخاء والمساواة" بشكل أكثر جذرية (إلغاء العبودية). ستجادل بأن فهم الثورة الفرنسية لا يكتمل دون فهم علاقتها "المترابطة" (والمتناقضة أحياناً) بمستعمراتها وتجارة العبيد.

​ج. الثورة الصناعية:

  • السردية الأوروبية: تُقدم كـ"اختراع" تكنولوجي واقتصادي داخلي (بفضل الابتكار البريطاني والأخلاق البروتستانتية...).
  • قراءة بامبرا (المحتملة): ستُبرز بامبرا الدور الحاسم للاستعمار و تجارة العبيد في "توفير" المواد الخام (مثل القطن)، و "تراكم رأس المال"، و "فتح الأسواق" التي كانت ضرورية لقيام الثورة الصناعية واستمرارها. الثورة الصناعية لم تكن "بريطانية" فقط، بل كانت "ظاهرة عالمية" مبنية على "علاقات غير متكافئة". (تتقاطع مع تحليل علم الاجتماع الصناعي).

​بتفكيك هذه "الأساطير"، تُظهر بامبرا أن الحداثة، منذ لحظاتها التأسيسية، كانت "مشروعاً عالمياً" وليست "أوروبياً".

​4. ما بعد "الحداثات المتعددة": نحو سوسيولوجيا تاريخية عالمية بحق

​لا تكتفي بامبرا بنقد السردية "الواحدة" للحداثة الأوروبية، بل توجه نقدها أيضاً لمفهوم "الحداثات المتعددة" (Multiple Modernities) الذي شاع في علم الاجتماع مؤخراً (مثل أعمال شموئيل آيزنشتات).

  • نقد "الحداثات المتعددة": ترى بامبرا أن هذا المفهوم، رغم إيجابيته في الاعتراف بوجود مسارات تحديث مختلفة خارج أوروبا، إلا أنه قد يقع في فخ "إعادة إنتاج الانفصال". هو يقدم "حداثات" منفصلة (حداثة يابانية، حداثة إسلامية...) دون التركيز الكافي على "الترابطات" و "التفاعلات" التاريخية التي شكلتها جميعاً في سياق عالمي واحد (غالباً ما هيمن عليه الاستعمار).
  • الدعوة لـ"علم اجتماع تاريخي عالمي": بديلاً عن ذلك، تدعو بامبرا إلى علم اجتماع يرى "العالم" كوحدة تحليل واحدة، ويدرس "التواريخ المترابطة" التي شكلت "الحداثة العالمية" بتنوعاتها وتفاوتاتها.

​5. الخيال السوسيولوجي وما بعد الاستعمار: توسيع الرؤية

​يربط عنوان الكتاب بين "نزعة ما بعد الاستعمار" و "الخيال السوسيولوجي". هذا الربط هو جوهر المشروع:

  • ما بعد الاستعمار كـ"عدسة": يقدم منظور ما بعد الاستعمار "العدسة" النقدية اللازمة لكشف "المركزية الأوروبية" و "علاقات القوة" المترسخة في السرديات التقليدية.
  • توسيع الخيال السوسيولوجي: إن تبني هذه العدسة "يوسع" الخيال السوسيولوجي (القدرة على ربط السيرة الذاتية بالتاريخ والبنية الاجتماعية). هو يمكننا من رؤية "الترابطات" الخفية بين حياتنا الفردية وبين التاريخ العالمي للاستعمار وما بعده، ومن فهم كيف أن "البنى" الاجتماعية التي نعيش فيها لا تزال متأثرة بهذا الإرث.

​6. أهمية الكتاب للقارئ العربي

​تأتي ترجمة هذا الكتاب لتلبي حاجة ملحة في الفكر العربي:

  1. نقد المركزية الأوروبية من الداخل: يقدم الكتاب نقداً قوياً للمركزية الأوروبية، ولكنه يأتي "من داخل" التقليد السوسيولوجي الغربي نفسه، مما قد يمنحه مصداقية أكبر لدى البعض.
  2. توفير أدوات نظرية ومنهجية: يقدم مفهوم "التواريخ المترابطة" كأداة منهجية قوية للباحثين العرب لإعادة كتابة تاريخهم وفهم علاقتهم بالحداثة بشكل أكثر استقلالية ونقدية.
  3. فهم استمرارية الإرث الاستعماري: يساعد الكتاب على فهم كيف أن "التصورات الغربية" و "النماذج النظرية" لا تزال تحمل أحياناً "خفايا" تدعم "الأوضاع القائمة" و "العلاقات غير المتكافئة"، وهو ما يتردد صداه في "موقف الغرب مما يحدث في الشرق الأوسط اليوم"، كما يشير الملخص.
  4. تعزيز الصوت العربي في علم الاجتماع العالمي: يشجع الكتاب الباحثين العرب على المساهمة بفاعلية في "إعادة تشكيل علم الاجتماع التاريخي عالمياً"، وتقديم رواياتهم الخاصة المترابطة.

​خاتمة: "إعادة التفكير في الحداثة".. ضرورة معرفية وسياسية

​يُعد كتاب "إعادة التفكير في الحداثة: نزعة ما بعد الاستعمار والخيال السوسيولوجي" لجيرمندر ك. بامبرا، بترجمة ابتسام سيد علام وحنان محمد حافظ، عملاً "ثورياً" بكل معنى الكلمة في حقل علم الاجتماع. إنه ليس مجرد "نقد"، بل هو "مشروع إعادة بناء" معرفي ومنهجي.

​الكتاب هو دعوة عاجلة لعلماء الاجتماع (والمؤرخين والمفكرين بشكل عام) لتجاوز "أساطير النشأة" الأوروبية، وتبني منظور "عالمي مترابط" يعترف بالتجارب والمساهمات المتعددة التي شكلت عالمنا الحديث.

​بالنسبة للقارئ العربي، يمثل الكتاب "أداة تحرر" فكري، تمكنه من قراءة تاريخه وحاضره بعيون نقدية، والمساهمة في بناء "خيال سوسيولوجي" أكثر عدلاً وشمولية وتصالحاً مع تعقيدات التاريخ العالمي المشترك.

​📘 تحميل كتاب "إعادة التفكير في الحداثة" PDF

​اكتشف كيف تقدم جيرمندر ك. بامبرا نقداً جذرياً لمفهوم الحداثة وتدعو لعلم اجتماع تاريخي عالمي مترابط من منظور ما بعد استعماري.

تعليقات