قراءة في كتاب "مدخل إلى فلسفة العلوم" للجابري: تشريح العقلانية الغربية كـ"مقدمة نقدية" للعقل العربي
تحليل معمق لكتاب "مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي" لمحمد عابد الجابري. اكتشف كيف استخدم الجابري الإبستيمولوجيا الغربية كأداة لتشخيص أزمة العقل العربي.
مقدمة: "تحديث العقل العربي" عبر فهم "الآخر" العلمي
«ما زلنا متخلفين عن ركب الفكر العلمي، تقنية وتفكيراً».
بهذه الصراحة المقلقة، يفتتح المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري (1935-2010) مقدمة كتابه التأسيسي مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي. هذه المقدمة لا تترك مجالاً للشك في "الهدف" العميق للكتاب: إنه ليس مجرد عرض أكاديمي لتاريخ العلوم، بل هو جزء لا يتجزأ من مشروع الجابري الأكبر والأكثر إلحاحاً: "تحديث العقل العربي" و "تجديد الذهنية العربية".
يدرك الجابري أن هذا "التحديث" لا يمكن أن يتم بالانغلاق على الذات، بل يتطلب "وسيلة مزدوجة متكاملة": الدفع بمؤسساتنا التعليمية لمسايرة تطور الفكر العلمي، و"نشر المعرفة العلمية وأساليب التفكير العلمي على أوسع نطاق". هذا الكتاب هو مساهمته الأساسية في تحقيق الشق الثاني.
لكن الجابري لا يقدم "فلسفة علوم" بالمعنى التقليدي، بل يقدم "مدخلاً إلى الإبستيمولوجيا المعاصرة". الإبستيمولوجيا، كما يميزها بدقة عن نظرية المعرفة التقليدية، ليست بحثاً في "إمكانية" المعرفة بشكل عام، بل هي "الدراسة النقدية لمبادئ مختلف العلوم وفروضها ونتائجها، بقصد تحديد أصلها المنطقي (لا السيكولوجي) وبيان قيمتها وحصيلتها الموضوعية".
![]() |
غلاف كتاب "مدخل إلى فلسفة العلوم" للجابري |
في هذه المقالة التحليلية، سنغوص في بنية هذا الكتاب، مسترشدين بمقدمة الجابري وهيكله، لنفهم كيف قام بتشريح "تطور الفكر العلمي" في الغرب عبر "العقلانية المعاصرة"، وكيف مهد هذا التحليل الطريق لمشروعه النقدي الأكبر.
1. الإبستيمولوجيا كـ "علم للأزمات": تجاوز الفلسفة التقليدية
يستهل الجابري كتابه بـ "مدخل عام" دقيق يحدد فيه طبيعة "الإبستيمولوجيا" وعلاقتها بالدراسات المعرفية الأخرى. هذا التحديد ليس ترفاً أكاديمياً، بل هو ضروري لفهم "جدة" هذا الحقل وصعوباته.
- ليست نظرية معرفة تقليدية: يرفض الجابري اختزال الإبستيمولوجيا في "نظرية المعرفة" (Gnosiologie) الفلسفية التقليدية التي تبحث في "إمكان" المعرفة ومصادرها (العقل، الحس، الحدس). الإبستيمولوجيا، بالنسبة له، تركز حصراً على "المعرفة العلمية".
- ليست مجرد منهجية (ميتودولوجيا): الإبستيمولوجيا أعمق من "علم المناهج" (Methodology) الذي يصف "كيف" يعمل العلماء. هي "ميتودولوجيا من الدرجة الثانية"، أي أنها تنقد المناهج نفسها وتبحث في "صلاحيتها" و "حدودها".
- وليدة أزمات العلم: يؤكد الجابري، متفقاً مع جان بياجي، أن "التفكير الإبستيمولوجي يولد دائماً بسبب أزمات هذا العلم أو ذاك". الثورات العلمية الكبرى (مثل النسبية والكم) هي التي تجبر العلماء والفلاسفة على إعادة التفكير في "أسس" المعرفة نفسها.
هذا التحديد يضع الكتاب في إطاره الصحيح: هو ليس "فلسفة في الوجود"، بل "فلسفة في المعرفة العلمية" تحديداً، نابعة من "داخل" العلم وتطوره التاريخي النقدي.
2. الجزء الأول: من "اليقين" الكلاسيكي إلى "الانفتاح" المعاصر (درس الرياضيات)
يخصص الجابري الجزء الأول من كتابه لتتبع "تطور الفكر الرياضي" كنموذج لتطور "العقلانية" نفسها. هذا الاختيار ليس اعتباطياً؛ فالرياضيات ظلت لقرون "النموذج الأعلى للمعقولية".
أ. "القطيعة" مع الحدس الكلاسيكي
يحلل الجابري كيف كانت الرياضيات الكلاسيكية (من اليونان حتى القرن التاسع عشر) قائمة على "الحدس" (رؤية البديهيات) و "الموضوع" (الكائنات الرياضية كحقائق ثابتة).
لكن "أزمة الأسس" التي تفجرت مع اكتشاف الهندسات اللاإقليدية (لوباشيفسكي وريمان) و نقائض نظرية المجموعات (بورالي-فورتي، كانتور، راسل) أحدثت "قطيعة إبستيمولوجية" حاسمة.
ب. ولادة "العقلانية المعاصرة"
هذه الأزمة لم تكن "نهاية" الرياضيات، بل كانت "ولادة" جديدة لعقلانية مختلفة:
- المنهاج الأكسيومي (Axiomatics): لم تعد الرياضيات تبحث عن "الحقيقة" المطلقة، بل أصبحت "نظاماً فرضياً-استنتاجياً" (Système hypothetico-déductif). الأهم ليس "صدق" الأوليات (Axioms)، بل "عدم تناقضها" و "استقلالها". (يحلل الجابري أعمال بيانو وهلبرت كنماذج) .
- من "الكائنات" إلى "البنيات" (Structures): لم يعد موضوع الرياضيات هو "الأعداد" أو "الأشكال" بحد ذاتها، بل "العلاقات" و "البنيات" المجردة التي تربطها (نظرية الزمر كمثال). هذا ما سمح بتوحيد فروع الرياضيات وتحريرها من الارتباط المباشر بالتجربة.
- "الفلسفة المفتوحة" (Open Philosophy): يتبنى الجابري منظور فلاسفة مثل غاستون باشلار وجان بياجي وفردينان غونزيه [cite: 231-291] [cite_start]الذين رأوا في هذه التحولات دليلاً على أن العقلانية المعاصرة ليست "مغلقة" و "دوغمائية"، بل "منفتحة"، "نقدية"، وقائمة على مبدأ "القابلية للمراجعة" (Révisibilité).
الدرس المستخلص: العقلانية الحقيقية ليست "التمسك" باليقينيات القديمة، بل "الشجاعة" على مراجعة الأسس و "بناء" نماذج جديدة.
3. الجزء الثاني: درس الفيزياء.. من "الوصف" إلى "البناء"
ينتقل الجابري في الجزء الثاني إلى الميدان الذي تجلت فيه هذه "العقلانية المعاصرة" بأوضح صورها: الفيزياء.
أ. المنهاج التجريبي ونقد "الاستقراء" الساذج
يحلل الجابري "تطور المنهاج التجريبي" من بيكون وغاليليو إلى نيوتن، مبيناً كيف تحرر الفكر العلمي من "سلطة" النص القديم. لكنه يتوقف عند "أزمة الاستقراء" (Induction Problem) التي طرحتها الوضعية (كونت، ميل) والوضعية الجديدة (ماخ، الوضعية المنطقية).
ب. "الثورة المزدوجة": النسبية والكم
يرى الجابري أن الفيزياء المعاصرة (القرن العشرين) قامت بـ "قطيعة" ثانية، أشد عمقاً، مع "العقلانية الكلاسيكية" (النيوتنية).
- نظرية النسبية (أينشطاين): بتحطيمها لمفاهيم "المكان المطلق" و "الزمان المطلق"، أثبتت أن "المفاهيم الفيزيائية" ليست "انعكاساً" سلبياً للواقع، بل هي "بناء" عقلي-رياضي.
- الثورة الكوانتية (بلانك، هايزنبرغ، بور، دوبروي): بإدخالها لمفاهيم "الكوانتا" (الانفصال)، "علاقات الارتياب" (اللايقين)، و "التكاملية" (Complementarity)، أثبتت أن الواقع على المستوى الميكروفيزيائي "لا يخضع" للمنطق الكلاسيكي (الهوية وعدم التناقض)، وأن "أداة القياس" تؤثر في "النتيجة".
الدرس المستخلص: العلم المعاصر ليس "اكتشافاً" سلبياً لحقائق جاهزة، بل هو "بناء" (Construction) فعال للواقع عبر "نماذج" (Models) رياضية ونظرية. "الموضوعية" لم تعد تعني "التطابق" مع الواقع، بل "الاتساق" الداخلي للنظرية وقدرتها على "التنبؤ".
4. "الهدف الضمني": لماذا هذا "المدخل" ضروري للعقل العربي؟
لماذا كل هذا الجهد في "تشريح" العقلانية الغربية؟ الجابري يجيب بوضوح في مقدمته: "نحن هنا في الوطن العربي ما زلنا متخلفين عن ركب الفكر العلمي". هذا الكتاب هو محاولة لـ "ردم الهوة" عبر:
- تقديم "نموذج" للتطور: بإظهار أن التقدم العلمي الغربي لم يكن "معجزة"، بل نتيجة "لقطائع" إبستيمولوجية جريئة، يشجع الجابري العقل العربي على القيام بـ "قطائعه" الخاصة مع "المعوقات" الداخلية (التي سيفصلها في "نقد العقل العربي").
- توفير "مرجع" للطالب والمثقف: يهدف الكتاب ليكون "مرجعاً متواضعاً" يفتح "نافذة على الفكر العلمي المعاصر"، ويمكن المثقفين من "عيش عصرهم".
- تأسيس "لغة" مشتركة: يرى الجابري أن نشر "المعرفة العلمية وأساليب التفكير العلمي" هو الوسيلة لـ "إقامة جسور" بين التخصصات النظرية والتطبيقية وتحقيق "وحدة التفكير والرؤية".
إنه يستخدم "الآخر" (الغرب) ليس "للتقليد"، بل "للفهم" النقدي لشروط التقدم، ومن ثم "لتشخيص" أسباب التخلف الذاتي.
خاتمة: "إبستيمولوجيا" الجابري كـ "مشروع نهضوي"
يُعتبر كتاب "مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي" للدكتور محمد عابد الجابري عملاً "تأسيسياً" بكل معنى الكلمة. إنه "يضع الأساس" الإبستيمولوجي لمشروعه النقدي الأكبر.
لقد نجح الجابري في تحويل "فلسفة العلوم" من "تخصص" أكاديمي جاف إلى "أداة نقدية" حية لفهم أزمة الحداثة في الفكر الغربي، والأهم، لاستخدام هذا الفهم كـ "مرآة" نقدية للعقل العربي.
الكتاب هو دعوة صريحة لتبني "روح العقلانية المعاصرة": النقد، النسبية، الانفتاح، والقابلية للمراجعة. إنه يؤكد أن "تحديث العقل العربي" لن يتم بالعودة إلى "يقينيات" الماضي، ولا بـ "تقليد" يقينيات الغرب الكلاسيكية المتجاوزة، بل بـ "الانخراط" الفاعل والنقدي في "المغامرة" الإبستيمولوجية للعصر.
📘 تحميل كتاب "مدخل إلى فلسفة العلوم" PDF
اكتشف التحليل الإبستيمولوجي العميق الذي يقدمه الدكتور محمد عابد الجابري حول تطور العقل العلمي الحديث والعقلانية المعاصرة.