قراءة نقدية في "إبستيمولوجيا العلوم الإنسانية": جدلية "الأزمة" العربية و "النماذج" الغربية
مراجعة تحليلية لكتاب "إبستيمولوجيا العلوم الإنسانية في الفكر العربي والفكر الغربي المعاصر". اكتشف أزمة "القطيعة" الإبستيمولوجية في الفكر العربي المعاصر ومقارنتها بالنماذج الغربية.
مقدمة: "الاضطراب المعرفي" وأزمة المنهج
يواجه المجتمع العربي اليوم، كما يفتتح هذا الكتاب الهام إشكاليته، "وضعاً مضطرباً معرفياً". هذا الاضطراب ليس سياسياً أو اقتصادياً فحسب، بل هو في جوهره "أزمة إبستيمولوجية": أزمة في "كيفية" إنتاج المعرفة حول "ذاتنا" ومجتمعاتنا.
في ظل هيمنة "قوة العلم والتكنولوجيا" الغربية، يبدو "المجتمع العربي" وكأنه "لا يزال يبحث عن ذاته". لقد أصبحنا "موضوعاً" (Object) للدراسة من قبل الآخرين، وفقدنا القدرة على أن نكون "ذاتاً" (Subject) فاعلة تنتج معرفتها بنفسها.
من هذا المنطلق، يأتي كتاب "إبستيمولوجيا العلوم الإنسانية في الفكر العربي والفكر الغربي المعاصر" كمشروع "إنقاذ" نقدي. إنه يدعو، كما يوضح تقديمه، إلى "حتمية إعادة النظر" في مناهجنا لفهم "أسباب تقدمنا في حقبة ما" (التراث)، و "تراجعنا وجمودنا العقلي" في الحقبة المعاصرة.
في هذه المقالة التحليلية، سنغوص في "القسمين" الرئيسيين اللذين يقدمهما الكتاب، لنرصد هذه "الرؤى الإبستيمولوجية" المختلفة، ونفهم "الجدلية" العميقة بين "أزمة" النموذج العربي و "نماذج" الفكر الغربي المعاصر.
![]() |
| إبستيمولوجيا العلوم الإنسانية في الفكر العربي والفكر الغربي المعاصر. |
القسم الأول: الإبستيمولوجيا في الفكر العربي (القطيعة بين "التراث" و "المعاصرة")
هنا يكمن "اللب" الإشكالي الذي يعالجه الكتاب. المسودة الأولية للمقال (التي راجعناها) تقع في "الخطأ" الشائع الذي يحاول الكتاب نفسه "نقده": وهو الخلط بين "التراث" و "المعاصرة".
الكتاب يوضح أن هناك "رؤيتين" منفصلتين في الفكر العربي:
1. الإبستيمولوجيا في "التراث" (لحظة التأسيس المنسية)
يؤكد الكتاب (والفكر العربي عموماً) أن التراث العربي الإسلامي لم يكن "ناقلاً" سلبياً، بل كان "مؤسساً" لإبستيمولوجيا أصيلة للعلوم الإنسانية، ممثلة في أسماء لامعة:
- الفارابي وابن سينا: طورا "منطقاً" وفلسفة للمعرفة (علم النفس والمعرفة المكتسبة) حاولت التوفيق بين "الوحي" (العلم الإلهي) و "العقل" (العلم الإنساني).
- ابن رشد: دافع عن "العقل" و "البرهان" كطريق مستقل للمعرفة.
- ابن خلدون (الذروة): هذا هو "المؤسس" الحقيقي لإبستيمولوجيا علم الاجتماع. في "المقدمة"، لم يكتفِ "ابن خلدون" بسرد التاريخ، بل أسس "علم العمران البشري"، وهو علم له "موضوعه" (العمران) و "منهجه" (الملاحظة، المقارنة، نقد المصادر، البحث عن "الطبائع" أو القوانين الاجتماعية). لقد أكد على "التجريب" و "الملاحظة" لفهم "السلوك البشري" قبل قرون من أوغست كونت.
2. الإبستيمولوجيا في "الفكر العربي المعاصر" (لحظة الأزمة)
هنا تكمن "الأزمة". "الفكر العربي المعاصر" (ما بعد عصر النهضة) لم "يستأنف" (Continuفالح عبد الجبارe) من حيث انتهى ابن خلدون. لقد حدثت "قطيعة إبستيمولوجية".
- الاضطراب المعرفي: المفكرون العرب المعاصرون (مثل محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، حسن حنفي، فالح عبد الجبار) لم يعودوا يتساءلون "ما هو المنهج؟"، بل أصبحوا يتساءلون: "أي منهج نختار؟".
-
الاستيراد والنقد: أصبح الفكر العربي المعاصر "ساحة" صراع بين:
- التيار التراثي: الذي يدعو للعودة "للمصادر الأصيلة" (القرآن والسنة) كإبستيمولوجيا نهائية (وهو ما ينتقده الكتاب باعتباره غير كافٍ لمواجهة تعقيدات الحداثة).
- التيار التغريبي: الذي يدعو لتبني "المنهج العلمي" الغربي (الوضعية) بالكامل.
- التيار التوفيقي/النقدي: (وهو الأهم)، الذي يحاول "نقد" التراث و "نقد" الحداثة الغربية في آن واحد، لخلق إبستيمولوجيا "عربية معاصرة" (وهو ما يمثله الجابري في "نقد العقل العربي").
خلاصة القسم الأول (حسب قراءة الكتاب):
الإبستيمولوجيا العربية "متأزمة" لأنها تعيش "انفصاماً" بين "تراث" مجيد (ابن خلدون) لم تستطع تطويره، و "حداثة" غربية مهيمنة لم تستطع استيعابها ونقدها بشكل فعال.
القسم الثاني: الإبستيمولوجيا في الفكر الغربي المعاصر (صراع النماذج)
ينتقل الكتاب بعد ذلك لرصد "المشهد الغربي". لكنه، على عكس الفكر العربي "المضطرب"، يجد مشهداً "متصارعاً" ولكنه "مُنتج". الإبستيمولوجيا الغربية المعاصرة ليست "واحدة"، بل هي "صراع" بين ثلاثة نماذج كبرى (Paradigms).
1. النموذج الوضعي (والوضعي الجديد)
هذا هو النموذج "المهيمن" الذي يركز على "المنهج العلمي والتجريبي".
- الأب الروحي: (رينيه ديكارت، جون لوك، ديفيد هيوم).
- الأطروحة: يجب دراسة "الإنسان" و "المجتمع" بنفس "الموضوعية" و "الحياد" الذي ندرس به "الطبيعة". (الاعتماد على "الأدلة التجريبية" و "الإحصاء").
- النتيجة: (كما يحللها الكتاب) هذا النموذج "ناجح" في تقديم "نتائج موثوقة وقابلة للتكرار"، لكنه "فاشل" في التقاط "تعقيد وثراء التجربة البشرية". إنه يختزل الإنسان إلى "رقم".
2. النموذج التأويلي (Interpretive)
هذا هو "رد الفعل" على برودة الوضعية.
- الأطروحة: العلوم الإنسانية (التاريخ، الأنثروبولوجيا) "تختلف نوعياً" عن العلوم الطبيعية. الهدف ليس "التفسير" (Explanation) بل "الفهم" (Understanding) أو "التأويل" (Hermeneutics).
- النقد: (كما ذكرت المسودة) "الأساليب البديلة مثل التأويل والظواهر" ضرورية لفهم "المعنى" (Meaning) الذي يمنحه الإنسان لسلوكه.
3. النموذج النقدي (Critical)
هذا هو النموذج الذي تطور من مدرسة فرانكفورت وما بعدها.
- الأطروحة: الإبستيمولوجيا (المعرفة) ليست "محايدة" أبداً، بل هي "أداة" في "الصراع" الاجتماعي.
- النقد: "النظرية النقدية" (Critical Theory) لا تهدف فقط "لفهم" العالم، بل "لتغييره" (كما في بحوث الفعل التشاركية). هي تسأل: "من يمتلك المعرفة؟" و "لمصلحة من تُستخدم؟".
خلاصة القسم الثاني (حسب قراءة الكتاب):
الفكر الغربي المعاصر "متقدم" ليس لأنه يمتلك "إجابة واحدة"، بل لأنه يعيش في "صراع" إبستيمولوجي "خلاّق" بين (الكم/الوضعية)، (الكيف/التأويلية)، و (النقد/التغيير).
خاتمة: من "الاضطراب" إلى "الحوار" النقدي
يخلص كتاب "إبستيمولوجيا العلوم الإنسانية في الفكر العربي والفكر الغربي المعاصر" إلى نتيجة جوهرية: "لا يمكن فصل الإبستيمولوجيا عن السياق الذي تنشأ فيه".
- الفكر الغربي: "صراعه" الإبستيمولوجي (وضعي، تأويلي، نقدي) هو "انعكاس" طبيعي لتاريخه (التنوير، الرومانسية، الأزمات الرأسمالية).
- الفكر العربي: "اضطرابه" المعرفي هو "انعكاس" لأزمته التاريخية (القطيعة مع التراث، صدمة الاستعمار، هيمنة الدولة السلطوية).
ما هو الحل الذي يقترحه الكتاب؟
ليس "تقليد" الغرب، وليس "التقوقع" في التراث. الحل يكمن في "إعادة" بناء إبستيمولوجيا عربية معاصرة تقوم على:
- "الحوار والتواصل بين الثقافات": ليس "استيراد" النظريات الغربية كـ "قوالب" جاهزة، بل "الحوار" معها (نقدها، تفكيكها، وإعادة توظيفها) كما فعل سارتر في تفاعله مع الفكر العربي.
- الاعتماد على "التجارب الاجتماعية والثقافية" العربية: الانطلاق من "واقعنا" ومشاكلنا، وليس من مشاكل "باريس" أو "فرانكفورت".
- العودة لـ "روح" ابن خلدون: ليس "لتقليد" المقدمة، بل "لاستلهام" شجاعته الإبستيمولوجية في بناء "علم جديد" من "الواقع" المحلي.
إن هذا الكتاب هو دعوة "للباحث" العربي (في التربية والاجتماع) ليتوقف عن كونه "مستهلكاً" للمناهج، ويبدأ في أن يكون "منتجاً" نقدياً لها، كشرط وحيد للخروج من "الجمود العقلي" الذي طال أمده.
