مراجعة كتاب "سارتر والفكر العربي المعاصر" (تحرير د. أحمد عطية): جدلية "الاستقبال" و "التوظيف"
مراجعة تحليلية معمقة لكتاب "سارتر والفكر العربي المعاصر" (تحرير د. أحمد عبد الحليم عطية). اكتشف كيف استقبل الفكر العربي "وجودية" سارتر، وكيف تم "توظيف" أفكاره عن الحرية والالتزام.
مقدمة: سارتر.. "المرآة" المزعجة للفكر العربي
يُمثل جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre)، الفيلسوف الفرنسي الأبرز في القرن العشرين، "مفارقة" (Paradox) كبرى في تاريخ الفكر العربي المعاصر. كيف يمكن لفيلسوف يُتهم بـ "التشاؤم"، ويُعرف بـ "إلحاده"، وينكر "الحقيقة الموضوعية"، أن يصبح واحداً من أكثر المفكرين الغربيين "تأثيراً" و "استحساناً" في ثقافة عربية تبحث عن اليقين والهوية؟
هذه الجدلية المعقدة هي جوهر المشروع الفكري الذي يقدمه كتاب "سارتر والفكر العربي المعاصر"، الذي جاء بـ "تحرير" (Editing) الفيلسوف المصري البارز الدكتور أحمد عبد الحليم عطية.
إن "تحرير" الدكتور عطية لهذا الكتاب يعني أنه ليس مجرد "مؤلف" واحد، بل هو "ملف" أكاديمي شامل يجمع دراسات متعددة الزوايا (فلسفية، أدبية، سياسية) ليرسم لنا "لوحة مقتدرة" لا لسارتر نفسه، بل لـ "استقبال" (Reception) سارتر في فضائنا الفكري.
في هذه المقالة التحليلية، سنغوص في الأطروحات التي يقدمها هذا الكتاب، لنفهم كيف تمكن الفكر العربي من "تقشير طبقات" تجربة سارتر، ليس لتبني "تشاؤمه" الوجودي، بل "لتوظيف" أدواته الفكرية في معاركه الخاصة ضد الاستبداد، ومن أجل التحرر، وفي تعريف معنى "الالتزام".
1. تشريح سارتر: الفيلسوف الذي "قشّر النفس البشرية"
يبدأ الكتاب، كما يلخص ملخصه، بتحديد ملامح "المشروع السارتري" الأصلي. سارتر، في أعماله مثل "الوجود والعدم" (Being and Nothingness)، لم يكن يقدم فلسفة مريحة.
- نزع الأقنعة: يصف الملخص كيف أن سارتر "ينزع عن النفس البشرية قشرة مدنيتها". هذا هو جوهر الوجودية. سارتر يجبرنا على مواجهة "الذات" عارية بلا أعذار (دينية، اجتماعية، أو حتمية تاريخية).
- عبء الحرية: في عالم "ينكر وجود الحقيقة الموضوعية" (أي عالم لا يوجد فيه "جوهر" أو "طبيعة إنسانية" مُسبقة)، يصبح الإنسان "حراً" بشكل مرعب. إنه "محكوم عليه بالحرية" (Condemned to be free).
- المادية والتشاؤم: هذا الحصر في "حدود العالم المادي"، كما ذكر الملخص، هو ما أكسب سارتر نقد "التشاؤم". إذا لم يكن هناك إله أو غاية عليا، يصبح الوجود "عبثياً" (Absurd)، وتصبح علاقتنا بـ "الآخرين" جحيماً ("الجحيم هو الآخرون" - من مسرحية "لا مخرج").
هذه هي "المادة الخام" المظلمة التي وصلت إلى العالم العربي. السؤال الذي يطرحه كتاب د. عطية هو: ماذا فعل المفكرون العرب بهذه "المادة"؟
2. "سارتر العربي": عملية "الانتقاء" و "التوظيف"
كما يوضح تحليل الكتاب، بدأت ترجمة سارتر منذ الخمسينيات، وهي فترة "الغليان" القومي والتحرري. الفكر العربي لم "يستورد" سارتر كما هو، بل قام بعملية "انتقاء" ذكية.
أ. تجاهل "الميتافيزيقا" (الوجود والعدم)
أدرك المفكرون العرب أن "التشاؤم" و "العدمية" و "الإلحاد" في "الوجود والعدم" لا تصلح كأيديولوجيا لبناء أمة أو تحرير وطن. لذلك، تم "تهميش" هذا الجانب الميتافيزيقي.
ب. تبني "الأخلاق" و "السياسة" (الالتزام)
في المقابل، تم "التركيز" بشكل هائل على "الوجه الآخر" لسارتر: سارتر "الملتزم" (Engagé).
- الحرية والمسؤولية (Freedom and Responsibility): هذا هو المفهوم الأهم. في سياق عربي يكافح ضد "الاستعمار" (داخلياً وخارجياً)، قدم سارتر الأداة الفلسفية المثلى. إذا كان الإنسان "حراً"، فهو "مسؤول" عن واقعه. الاستبداد ليس "قدراً"، بل هو "اختيار" (أو "خنوع").
- نقد الاستبداد: كان سارتر (خاصة في مراحل متأخرة) ناقداً شرساً للاستعمار (موقفه الأسطوري من الثورة الجزائرية) والأنظمة القمعية. هذا التوجه "الثوري" هو ما التقطه المفكرون العرب.
لقد "استخدم" الفكر العربي سارتر ليس كـ "فيلسوف للذات"، بل كـ "فيلسوف للتحرر". لقد حولوا "الوجودية" (Existentialism) من "مشروع ذاتي" قلق، إلى "مشروع جماعي" ثوري.
3. "سارتر" في "المشهد" الثقافي العربي (تصحيح الأخطاء الشائعة)
يقدم كتاب "سارتر والفكر العربي المعاصر" بلا شك تحليلاً للتأثيرات، ومن المهم هنا "تصحيح" بعض الأخطاء الشائعة (التي وردت في المسودة الأولية) لتقديم تحليل دقيق (E-A-T):
أ. التأثير الفلسفي والسياسي (الجابري وشريعتي)
- محمد عابد الجابري: التأثير هنا "نقدي" وليس "تبنياً". الجابري، كمفكر عقلاني في "نقد العقل العربي"، كان في حوار "نقدي" مع الفلسفات الغربية (ومنها سارتر)، محاولاً تجاوزها نحو "عقلانية" عربية.
- علي شريعتي: الإشارة إليه مهمة ولكن مع "توضيح". شريعتي مفكر "إيراني" وليس "عربياً". تأثره بسارتر (خاصة بمفهوم "الالتزام") كان عميقاً، وحاول "أسلمة" الوجودية ليقدم "إسلاماً ثورياً" ضد "التشيع الصفوي" التقليدي وضد "المادية" الغربية. يوضح هذا "كيف" تم توظيف سارتر حتى خارج النطاق العربي المباشر.
- الحركات الثورية: كان سارتر "أيقونة" لليسار العربي. أفكاره حول "الفعل" (Action) و "المسؤولية" ورفض "الأنظمة المستبدة" كانت "وقوداً" فكرياً لحركات التحرر (مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) وللانتفاضات الطلابية.
ب. التأثير الأدبي العميق (تصحيح: المنيف)
هنا يكمن التأثير الأوضح. "الأدب الوجودي" غيّر شكل الرواية العربية.
- مفهوم "الالتزام" (L'engagement): سارتر (في "ما هو الأدب؟") جادل بأن الكاتب "مسؤول" عن عصره. لا يوجد "فن للفن". هذه الفكرة أصبحت "عقيدة" (Dogma) للأدب العربي لعقود.
- عبد الرحمن المنيف (السعودي/الأردني): ليس "تونسيّاً". المنيف هو المثال الأبرز لـ "الرواية السارترية" عربياً. أبطاله (مثل "متعب الهذال" في "التيه") هم أبطال "وجوديون" بامتياز: أفراد سُحقت حريتهم بفعل "قوة" غاشمة (الاستعمار، السلطة، اكتشاف النفط)، لكنهم "يختارون" المقاومة حتى لو كانت بلا جدوى. إنهم يجسدون "العبث" و "المسؤولية" في آن واحد.
- كتاب مثل الطاهر بن جلون (المغربي): يظهرون أيضاً هذا التأثير في استكشاف "أعماق الحق، والحسية، والأعصاب" للفرد المهمش في مواجهة السلطة.
4. جدلية سارتر: لماذا لا يزال "معاصراً"؟
إن عبقرية "تحرير" الدكتور أحمد عبد الحليم عطية لهذا الكتاب تكمن في أنه لا يقدم سارتر كـ "شخصية تاريخية" وانتهى، بل كـ "فكر معاصر" لا نزال نتجادل معه.
أ. سارتر و "الربيع العربي"
الأفكار التي بدت "نظرية" في الخمسينيات (الحرية، المسؤولية، نقد الاستبداد) انفجرت كـ "ممارسة" واقعية في 2011. صرخة "الشعب يريد" هي صرخة "وجودية" في جوهرها: إنها "اختيار" جماعي للحرية ورفض للـ "جوهر" الثابت الذي فرضته الديكتاتوريات.
ب. سارتر في عصر "ما بعد الحداثة"
في عالم اليوم، حيث تتصارع "الهويات" وتنهار "السرديات الكبرى" (كما في فكر ما بعد الحداثة)، يعود سارتر ليطرح سؤاله الأساسي: إذا انهارت كل الأيديولوجيات (القومية، الاشتراكية...)، فما الذي يتبقى؟
يتبقى "الفرد" ومشروعه. يتبقى الخيال الإنساني كأداة وحيدة "لاختراع" المستقبل.
خاتمة: إرث "الاستقبال" العربي لسارتر
إن كتاب "سارتر والفكر العربي المعاصر" ليس مجرد "تأريخ" لتأثير فيلسوف، بل هو "دراسة سوسيولوجية" (في علم اجتماع المعرفة) لكيفية "استقبال" الأفكار وتحويلها.
لقد قدم الدكتور أحمد عبد الحليم عطية وفريقه من الباحثين خدمة جليلة للفكر العربي، موضحين أننا لم نكن "متلقين" سلبيين لسارتر. لقد أخذنا "نيرانه" المقدسة (الحرية، الالتزام، الثورة) وتركنا "رماده" البارد (العدمية، التشاؤم الميتافيزيقي).
الكتاب يثبت أن جان بول سارتر سيظل "معاصراً" في فضائنا الثقافي، ليس كـ "إجابة" جاهزة، بل كـ "سؤال" مزعج ومستمر: "ماذا ستفعل بحريتك؟".
تحميل الكتاب
للاطلاع على هذه الدراسة التحليلية العميقة التي حررها الدكتور أحمد عبد الحليم عطية، يمكنك تحميل الكتاب بصيغة PDF.
