📁 آخر الأخبار

فتحي التريكي: فيلسوف العيش المشترك ورائد نقد الحداثة في الفكر العربي

فتحي التريكي: فيلسوف العيش المشترك ورائد نقد الحداثة في الفكر العربي

​مقدمة: لماذا نحتاج إلى فكر فتحي التريكي اليوم؟

​في خضم عالم يتسارع نحو العولمة وتتصاعد فيه حدة الاستقطاب، يبرز الفكر الفلسفي كضرورة ملحة لفهم تعقيدات الواقع. ويقف المفكر التونسي الراحل فتحي التريكي (1947-2021) كأحد أهم الأصوات الفلسفية العربية المعاصرة التي حاولت تفكيك هذا الواقع وتقديم إجابات لإشكالياته الكبرى. لم يكن التريكي مجرد أستاذ أكاديمي، بل كان فيلسوفاً اشتبك مع قضايا مجتمعه والعالم، مقدماً مشروعاً فكرياً متكاملاً يتمحور حول "فلسفة العيش المشترك".

​يُعتبر فتحي التريكي واحداً من أبرز المفكرين الذين غاصوا في العلاقة الشائكة بين التراث والحداثة، ليس بهدف التوفيق الساذج، بل بهدف النقد المزدوج. انطلاقاً من موقعه كأستاذ جامعي مرموق وحامل لـ كرسي اليونسكو للفلسفة، استطاع التريكي أن يبني جسراً بين الفلسفة الغربية المعاصرة (خصوصاً هايدجر، ونيتشه، وفوكو) وبين قضايا الفكر العربي والإسلامي.

فتحي التريكي: فيلسوف العيش المشترك ورائد نقد الحداثة في الفكر العربي
فتحي التريكي: فيلسوف العيش المشترك ورائد نقد الحداثة في الفكر العربي.

 

​في هذه المقالة الشاملة، سنغوص في أعماق مشروع المفكر فتحي التريكي، مستكشفين سيرته الذاتية كمدخل لفهم تكوينه، ثم نحلل أبرز مساهمات فتحي التريكي الفكرية، بدءاً من مفهوم "الغيرية" و "العيش المشترك"، مروراً بنقده العميق للعنف، وانتهاءً برؤيته لمستقبل الهوية في عالم متغير.

​من هو فتحي التريكي؟ سيرة فيلسوف (التعريف بالمفكر)

​للإجابة على سؤال من هو فتحي التريكي؟، يجب أن نتجاوز السرد البيوغرافي التقليدي لنفهم كيف شكلت محطات حياته مشروعه الفكري.

​النشأة والتكوين الأكاديمي

​وُلد فتحي التريكي في 25 أكتوبر 1947 بمدينة صفاقس في تونس، وهي مدينة معروفة بحيويتها الثقافية والاقتصادية. نشأ في بيئة تعليمية شجعت على التفكير النقدي. بدأ مسيرته الأكاديمية في تونس قبل أن ينتقل إلى فرنسا في مطلع شبابه لمتابعة دراساته العليا.

​كانت باريس في تلك الفترة مركزاً للغليان الفكري والفلسفي. هناك، نهل التريكي من معين الفلسفة الغربية المعاصرة، وحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون المرموقة. لم تكن دراسته مجرد تحصيل أكاديمي، بل كانت حواراً نقدياً مع عمالقة الفكر مثل مارتن هايدجر، وجان بول سارتر، وميشيل فوكو، وجاك دريدا. هذا التكوين المزدوج (العربي-الإسلامي والغربي) هو الذي سيمنح فكره لاحقاً تلك القدرة الفريدة على "التفكير البيني" (Penser l'interstice).

​المسيرة المهنية وكرسي اليونسكو

​بعد عودته إلى تونس، كرس فتحي التريكي حياته للتدريس في الجامعة التونسية، حيث أصبح أستاذاً بارزاً للفلسفة المعاصرة. لم يكتفِ بالتدريس، بل كان فاعلاً ثقافياً نشطاً، مؤسساً لـ "مخبر فلسفة الحداثة" بالجامعة.

​جاء التتويج الدولي لمسيرته الأكاديمية والفكرية عندما تم اختياره ليشغل كرسي اليونسكو للفلسفة تحت عنوان "الفلسفة في العالم العربي والإسلامي ومقارنتها بالفلسفات الأخرى". لم يكن هذا المنصب تشريفياً، بل كان منصة دولية مكنت التريكي من نشر أفكاره حول حوار الثقافات وضرورة "العيش المشترك" على نطاق عالمي. من خلال هذا الكرسي، نظم عشرات الندوات والمؤتمرات الدولية، محولاً تونس إلى مركز للحوار الفلسفي العالمي.

​استمر فتحي التريكي في العطاء الفكري الغزير حتى وفاته في 16 مايو 2021، تاركاً وراءه إرثاً فلسفياً ضخماً ما زال يشكل مادة خصبة للباحثين والدارسين.

​مساهمات فتحي التريكي الفكرية: تفكيك العنف وبناء العيش المشترك

​لا يمكن حصر مساهمات فتحي التريكي في مجال واحد، فمشروعه الفلسفي كان متكاملاً ومتشعباً، يعالج قضايا الوجود، والأخلاق، والسياسة، والهوية. فيما يلي تحليل لأهم ركائز هذا المشروع.

​1. فلسفة العيش المشترك (La Philosophie du Vivre-Ensemble)

​تُعد "فلسفة العيش المشترك" هي اللؤلؤة المركزية في تاج فكر التريكي. هذا المفهوم، الذي أفرد له أحد أهم كتبه، يتجاوز مفهوم "التسامح" السلبي أو "التعايش" القسري.

  • نقد التسامح: يرى التريكي أن "التسامح" (Tolerance) مفهوم يحمل في طياته علاقة قوة غير متكافئة؛ فالطرف القوي هو الذي "يتسامح" مع الطرف الأضعف، وهو تسامح يمكن سحبه في أي لحظة.
  • بناء "العيش المشترك": في المقابل، يقترح التريكي "العيش المشترك" كعقد أخلاقي وسياسي إيجابي. إنه لا يعني ذوبان الخصوصيات أو طمس الاختلافات، بل يعني الاعتراف الجذري بـ "الغيرية" (L'altérité).
  • الغيرية كشرط للوجود: مستفيداً من فلسفات مثل فلسفة إيمانويل ليفيناس، يرى التريكي أن "الأنا" لا يمكن أن تعرف نفسها أو تحقق وجودها إلا من خلال علاقتها بـ "الآخر" (الغير). العيش المشترك هو القبول بهذا "الآخر" كشريك أصيل في بناء المعنى والوجود، وليس كتهديد يجب إقصاؤه.

​بالنسبة لفتحي التريكي، فإن العيش المشترك هو الرهان الوحيد لإنقاذ الإنسانية من حروب الهوية والتعصب الديني والقومي. إنه دعوة لبناء "فضاء عمومي مشترك" (Espace public commun) يحتفي بالاختلاف بدلاً من الخوف منه.

​2. جدلية التراث والحداثة: النقد المزدوج

​مثل العديد من مفكري جيله، شكلت إشكالية التراث والحداثة محوراً أساسياً في فكر التريكي. لكنه ابتعد عن الطروحات التبسيطية (إما رفض كامل للتراث أو تقوقع كامل فيه).

  • نقد الحداثة الغربية: لم يكن التريكي منبهراً بالحداثة الغربية. لقد انتقد "عقلانيتها الأداتية" (Rationalité instrumentale) التي، باسم التقدم، أنتجت أشكالاً جديدة من الهيمنة والاستعمار والعنف. لقد رأى أن الحداثة الغربية، حين نصّبت نفسها كنموذج كوني وحيد، مارست إقصاءً ثقافياً ضد "الآخر".
  • نقد التراث المنغلق: في المقابل، نقد التريكي بشدة القراءات المنغلقة والجامدة للتراث (التراث الإسلامي خصوصاً). لقد رفض تحويل التراث إلى "هوية قاتلة" (Identité meurtrière) تستخدم كأداة لتبرير العنف ورفض الآخر.
  • استراتيجية "التفكير البيني": قدم التريكي استراتيجية "التفكير في البين" أو "التفكير من الهامش". أي التفكير في المسافة الفاصلة بين التراث والحداثة، ليس لدمجهما، بل لفتح حوار نقدي بينهما. لقد دعا إلى "استملاك الحداثة" (S'approprier la modernité) بشكل نقدي، وفي الوقت ذاته "إعادة قراءة التراث" (Relire la tradition) بعيون نقدية، لاستخراج إمكانياته الإنسانية الكونية.

​3. نقد العنف: من المقدس إلى السياسي

​شكلت ظاهرة "العنف" هاجساً مركزياً في مؤلفات فتحي التريكي، خاصة في كتابه الهام "العنف والمقدس".

  • تفكيك آليات العنف: لم يتعامل التريكي مع العنف كظاهرة سياسية أو أمنية بحتة، بل غاص في جذوره الفلسفية والأنثروبولوجية. لقد حلل كيف يتم "تقديس" العنف (Sacralisation) عندما يرتبط بالهويات المطلقة (الدينية، القومية، أو الأيديولوجية).
  • العنف الرمزي: لم يقتصر نقده على العنف الجسدي. مستفيداً من بيير بورديو وميشيل فوكو، حلل التريكي "العنف الرمزي" الذي تمارسه السلطة (سواء كانت سياسية أو ثقافية) عبر اللغة، والتعليم، والمؤسسات، لفرض رؤيتها للعالم كحقيقة مطلقة.
  • فلسفة "اللاعنف" كبديل: في مقابل العنف، لم يقدم التريكي حلاً سياسياً مباشراً، بل حلاً فلسفياً أخلاقياً: "اللاعنف" (Non-violence) المبني على "الاعتراف المتبادل" و "الضيافة" (Hospitalité) تجاه الآخر. يرى أن نزع فتيل العنف يبدأ أولاً بنزع "القداسة" عن الهويات المنغلقة.

​4. فلسفة الهوية: نحو "الهوية المعقولة"

​في عصر سياسات الهوية، قدم فتحي التريكي رؤية عميقة لمفهوم "الهوية".

  • رفض الهوية الجوهرانية: رفض التريكي بشدة فكرة "الهوية الجوهرانية" (Identité essentialiste) الثابتة والأزلية. فالهوية، في نظره، ليست معطى جاهزاً، بل هي "سيرورة" (Processus) تاريخية وثقافية متحركة.
  • الهوية السردية: اقترح مفهوم "الهوية السردية" (Identité narrative)، أي أن هويتنا تتشكل من خلال القصص التي نرويها عن أنفسنا وعن علاقتنا بالآخرين وبالتاريخ.
  • "الهوية المعقولة": دعا التريكي إلى بناء "هوية معقولة" (Identité raisonnable). وهي هوية تدرك تاريخيتها ونسبيتها، هوية منفتحة على الحوار والنقد الذاتي، وقادرة على استيعاب التعددية والاختلاف داخلها. هذه الهوية المعقولة هي الشرط الأساسي لتحقيق "العيش المشترك".

​أهم مؤلفات فتحي التريكي (قائمة للقراءة)

​لتحقيق الفهم الكامل لمشروع المفكر فتحي التريكي، من الضروري الاطلاع على أعماله الرئيسية. تتميز كتاباته بالعمق الفلسفي واللغة الرصينة التي تجمع بين الدقة الاصطلاحية والوضوح التحليلي.

​من أبرز مؤلفات فتحي التريكي (باللغتين العربية والفرنسية):

  1. "فلسفة العيش المشترك" (Philosophie du Vivre-Ensemble):
    • ​يُعد هذا الكتاب هو حجر الزاوية في مشروعه. يقدم فيه تفصيلاً لمفهومه عن الانتقال من "التسامح" إلى "العيش المشترك" كضرورة أخلاقية وسياسية للعصر الحديث.
  2. "العنف والمقدس" (Violence et Sacré):
    • ​تحليل عميق لجذور العنف، وكيف يتم توظيف "المقدس" (سواء كان دينياً أو أيديولوجياً) لتبرير العنف وإضفاء الشرعية عليه.
  3. "التراث والحداثة: دراسات في الفكر العربي المعاصر" (Tradition et Modernité):
    • ​مجموعة دراسات نقدية تفكك العلاقة الإشكالية بين التراث والحداثة في الفكر العربي، داعياً إلى تجاوز الاستقطاب الثنائي بينهما.
  4. "فلسفة الحداثة" (Philosophie de la Modernité):
    • ​قراءة نقدية لتجربة الحداثة الغربية، ومحاولة لرسم ملامح "حداثة بديلة" أو "حداثات متعددة" تأخذ في الاعتبار خصوصيات المجتمعات غير الغربية.
  5. "الغيرية والاختلاف: في نقد الهويات المنغلقة" (Altérité et Différence):
    • ​يعالج هذا الكتاب إشكالية "الآخر" وكيفية بناء علاقة إيجابية مع الاختلاف، كمدخل لنزع فتيل الصراعات الهوياتية.
  6. "استراتيجيات الهوية" (Stratégies de l'identité):
    • ​يفكك فيه آليات بناء الهويات ويقدم رؤيته لـ "الهوية المعقولة" المنفتحة.

​خاتمة: إرث فتحي التريكي والحاجة المستمرة لفكره

​يمثل فتحي التريكي نموذجاً للمثقف العضوي (بالمعنى الغرامشي) الذي لم يفصل بين برجه الأكاديمي وبين هموم واقعه. لقد كان فيلسوفاً تونسياً بمشاغله المحلية، ولكنه كان أيضاً فيلسوفاً كونياً بإجاباته الإنسانية.

​إن إرث فتحي التريكي لا يكمن فقط في المفاهيم التي صكها (كالعيش المشترك، والهوية المعقولة)، بل في "المنهج" الذي قدمه: منهج النقد المزدوج، والحوار الجذري مع الآخر، ورفض الإجابات الجاهزة، والشجاعة الفكرية في تفكيك المسلمات سواء كانت تراثية أو حداثية.

​في عالمنا اليوم، الذي يعاني من تصاعد الشعبوية، وخطابات الكراهية، والحروب الثقافية، تبدو العودة إلى قراءة مساهمات فتحي التريكي ليست مجرد ترف فكري، بل هي ضرورة ملحة لإعادة بناء جسور التواصل وتأسيس "عيش مشترك" حقيقي يحفظ كرامة الإنسان في اختلافه.


تعليقات